22 ديسمبر، 2024 7:01 م

أحياناً أثبات الشيء لا ينفي ما عداه

أحياناً أثبات الشيء لا ينفي ما عداه

في هذه السطور العابرة افتح باب الحديث لتسليط الضوء على هذه الجملة ((إثبات الشيء لا ينفي ما عداه))، محاولاً في ذلك إثبات أن هذه الجملة تصدق أحياناً وليس مطلقاً.
فالكثير من المثقفين والدارسين يرددون هذه الجملة ويستعملونها وكأنها تصدق مطلقاً في كل الحالات وقد أدى هذا الأمر إلى تسرب التفكير الخاطئ إلى الذهن. ومن المعلوم لدى أهل العلم والحقيقة أن علم المنطق هدفه الرئيسي هو تصحيح التفكير؛ عن طريق مراعاة القوانين العامة في ذلك.
وسوف اتخذ من المنطق منطلقاً في إثبات مدى صدق هذه الجملة، وعلى الله التوكل أولاً وآخراً…
إثبات الشيء لا ينفي ما عداه:-
أولاً: ينبغي شرح مدلول هذه الجملة قبل الخوض في التفاصيل.. واعتقد أن شرحها لا يحتاج إلى تجشم العناء لأنها تكاد تكون واضحة لدى الأعم الأغلب من الناس؛ فهي تنص على أن إثبات الشيء لا دخل له في نفي ما عداه…
فعلى سبيل المثال إذا قلنا: أن زيداً تاجرٌ، فهذا لا يعني أن زيداً ليس عالماً.
قد يكون هذا الفهم للجملة هو الفهم المتيسر لدى الأعم الأغلب ممن يسمع هذه الجملة، ولذلك سوف أزيد على هذا الفهم فهماً آخر قد لا يلتفت إليه الأعم الأغلب من الناس، فإن هذه الجملة تريد أن تبيّن أن إثبات الشيء غير معني في إثبات ما عداه أو نفي ما عداه. وكأن هذه الجملة تقول أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وكذلك إثبات الشيء لا يثبت ما عداه…
ولنرجع إلى المثال السابق ((زيدٌ تاجرٌ)) فإن إثبات صفة التاجر لزيدٍ لا ينفي أن يكون زيداً عالماً. وكذلك إن إثبات صفة التاجر لزيدٍ لا يثبت أن يكون زيداً عالماً. إذن فإن مدلول هذه الجملة هو (( إن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ولا يثبت ما عداه )).
أما لا ينفي ما عداه فهذا بحسب الدلالة المطابقية للجملة وأما لا يثبت ما عداه فهذا بحسب الدلالة الالتزامية.
لأن جملة إثبات الشيء لا ينفي ما عداه منتزعة من حقائق أخرى سوف أتعرض لها في مستقبل البحث إن شاء الله. وخلاصة فهم هذه الجملة إن إثبات الشيء لا ينفي ولا يثبت ما عداه..
وبعد أن تم شرح هذه الجملة لا بد لي من الخوض في مدى صدق هذه الجملة أو قل في مدى صدق هذه (( القضية الحملية ))، على حد اصطلاح علماء المنطق.
فهل تنطبق هذه القضية الحملية أقصد: هذه الجملة، على كل الحالات؟
الجواب كلا بطبيعة الحال.. وهذا الجواب يعتمد على بيان ما المراد من عبارة (ما عداه).
من المعلوم أن إثبات شيء لشيء تارة لا يحتاج إلى دليل وبرهان كما هو الحال في القضايا البديهية فإن التصديق بها يكون ضرورياً ولا يحتاج إلى إقامة الحجة والبرهان مثال ذلك ((الواحد نصف الأثنين)) و(( الكل أكبر من الجزء))…
وتارة أخرى يحتاج إثبات شيء لشيء إلى حجة وبرهان. وأمثلته أكثر من أن تحصى مثال ذلك (( إثبات دوران الأرض)) أو ((إثبات أن مجموع زوايا المثلث = 180)) أو (( إثبات الولاية العامة للفقيه)). وعلى كِلا التقديرين أقصد القضايا البديهية والقضايا النظرية فإن هذه الجملة (إثبات الشيء لا ينفي ما عداه) تنطبق عليها أحياناً.
إن ثبوت شيء لشيء يعني أن هذا الشيء هو المحمول وذاك الشيء الذي ثبت له هذا الشيء هو الموضوع..
وللتوضيح نرجع إلى المثال، إن ثبوت صفة التاجر لزيد فإن صفة التاجر محمول وأن زيداً موضوع. وهذا يعني أن المراد من إثبات الشيء هو المحمول وليس الموضوع.
وبالتالي فإن ما عدا هذا الشيء هو ما عدا المحمول… ويبقى الموضوع بعيداً عن النفي والإثبات الذي تتحدث عنه هذه القضية (الجملة).
والآن عرفنا ما المراد من الشيء في هذه الجملة وقد اتضح أنه هو المحمول؛ لأن المحمول هو الذي يثبت للموضوع وليس العكس..
من حقنا أن نتسائل عن المراد من عبارة (ما عداه)… ومن المعلوم أن ما عدا الشيء أمور كثيرة منها: أموراً وجودية وأخرى أموراً عدمية فإن الشيء يغاير ما عداه بل إن ما عداه يشمل كل شيء يغاير ذلك الشيء.
وإذا رجعنا إلى المثال السابق زيد تاجر، فإن الشيء هنا هو المحمول الذي هو (تاجر) فماذا سوف يكون ما عداه؟
كل شيء مغاير للتاجر من أمور وجودية أو عدمية… فإن ما عدا التاجر قد يصدق على نقيضه أو ضده أو ….. الخ. وإن ما عدا التاجر قد يكون أسداً أو نمراً أو قرداً.
فإذا أثبتنا أن زيداً تاجراً، فقد نفينا أن يكون نمراً أو أسداً أو حجراً أو قمراً أو عاملاً من العمال الذين يعملون تحت التاجر.. وإذا تعدينا هذا المثال سوف تتضح الفكرة أكثر وأكثر.
وحاصل الفكرة أن هناك تغايراً بين الشيء وما عداه بحسب المفهوم وهذا التغاير والتباين:
أـ أما يكون على نحو التقابل كتقابل النقيضين أو تقابل الضدين أو تقابل الملكة وعدمها أو تقابل المتضايفين.
ب ـ أو يكون هذا التغاير ليس على نحو التقابل كما هو الحال في المتماثلين أو المتخالفين.
هذا بحسب المفهوم؛ أما بحسب المصداق فإن الشيء وما عداه بالرغم من تباينهما بحسب المفهوم، إلا أن هناك بينهما وبحسب المصداق نسب أربعة هي:
1ـ نسبة التساوي: يعني أنهما متحدان بكل المصاديق كالضاحك والناطق فكل ما يصدق عليه أنه ضاحك يصدق عليه أنه ناطق. وكل ما يصدق عليه أنه ناطق يصدق عليه أنه ضاحك. ولكنهما متغايران مفهوماً لأن مفهوم ضاحك هو مغاير لمفهوم ناطق..
فإن كان الشيء ناطق فإن ضاحك يكون ما عداه فهل هذه الجملة تصدق في هذه الحالة ؟
يعني، هل إذا قلنا: أن ((الإنسان ناطق)) فإنه نقول: (( إثبات الشيء لا ينفي ما عداه )) أو ((يثبت ما ما عداه)) بل، أن إثبات الشيء أن الإنسان ناطق يثبت أن الإنسان ضاحك. والسبب في ذلك هو نسبة التساوي بين الناطق والضاحك بحسب المصداق… وقد اتضح تخلف هذه الجملة في هذا المورد.
2ـ نسبة العموم والخصوص المطلق: فالجوز والشكل الكروي بينهما هذه النسبة بالرغم من تباينهما بحسب المفهوم، لأن كل ما يصدق عليه أنه جوز يصدق عليه أنه كروي الشكل؛ والعكس غير صحيح.
فإن الشكل الكروي أعم مطلقاً من الجوز، وأن الجوز أخص مطلقاً من الشكل الكروي. فإذا أثبتنا أن هذا الشيء هو جوز نستطيع أن نقول أن هذا الشيء شكله كروي وبالتالي أصبح إثبات الشيء يثبت ما عداه.
وكذلك لو قلنا أن هذا الشيء كروي نستطيع أن نقول أنه ليس بالضرورة أن يكون هو جوزاً مثال ذلك: أن هذه كرة فإن إثبات أنها كرة ينبغي ما عداه فنقول أنها ليس جوزاً بطبيعة الحال.
3ـ نسبة العموم والخصوص من وجه: كالنسبة بين الغراب والسواد فالغراب قد يصدق على ما يصدق عليه السواد؛ كما هو الحال في الغراب الأسود. وقد يصدق الغراب على غير السواد. ويصدق السواد على غير الغراب كما هو الحال في الأشياء التي يكون لونها أسود كالعنب الأسود مثلاً.
4ـ نسبة التباين: هو عدم اتحاد المفهومين المتباينين في مصداق واحد. كالسواد والبياض، والوجود والعدم. وكالمتماثلين كالأسد والقرد فإن النسبة بينهما هي التباين بحسب المصداق. فإذا قلنا: أن زيداً إنسانٌ، فهذا يعني أننا نستطيع أن ننفي ما عداه؛ لأن النقيضين لا يجتمعان… وإنسان هو نقيض لا إنسان.
وعلى هذا المنوال يمكن القياس على الضدين والمثلين والمتضافين وغيرها لأن الشيء هو مغاير لما عداه في المفهوم أكيداً وبينهما أحد النسب الأربعة بحسب المصداق.
وهذا ينفعنا كثيراً في موارد عديدة عن طريق إثبات الشيء بحيث نستطيع أن نثبت ما عداه، أو ننفي ما عداه.
فمثلاً: إذا أثبتنا النار لشيء ما، فنحن نستطيع أن نثبت بواسطة النار الدخان والحرارة.. ونستطيع أن ننفي بواسطة النار أنها ليست حجراً ولا ماءاً ولا خبزاً.
وقد اتضح أن هذه الجملة إثبات الشيء لا ينفي ما عداه لا تصدق مطلقاً بل تصدق أحياناً ..
وحسب فهمي أن أهم تطبيق لها في علم أصول الفقه في مفهوم الوصف وموارد أخرى. ولذلك صحَّ عنوان هذه المقالة بأن (( أحــيـــاناً إثــبـات الشيء لا يـــنفـي مــا عـــداه ))، وليس مطلقاً كما يتوهم البعض.