22 ديسمبر، 2024 7:58 ص

نظرية في نشوء الدين

نظرية في نشوء الدين

ظهرت الكثير من النظريات التي توصف ظهور الدين و التي حاولت استكشاف اللحظات الاولى لانبثاقه فمنها من تحدث عن عامل الخوف الذي دعا الانسان الى انتاج الدين الذي بدوره يوفر له وهماً يحميه من الاخطار المحدقة به فالقوى الخارقة الروحية أو المتجاوزة لعالمه الدنيوي يمكنها ان توفر له الحماية اللازمة ضد الاخطار الخارجية التي تهدده ، و منهم من فسر ظهور الدين بأنه نتاج أحلام الانسان الي أوحت اليه بوجود جانب اخر يشاكل ويماثل وجوده الجسمي المحسوس وهو جانب الروح وبذلك ظهرت الارواحية وهي الشكل الاول المتصور لظهور الدين وهكذا تتنوع الافكار التي تحاول الامساك بتلك اللحظة وتوضع الفرضيات والنظريات لها.
باعتقادي ان ثمة أمر اخر لم نلتفت اليه ومفاده ان هناك اعتقادات وطقوس وظواهر تكررت في أغلب الاديان و دارت حولها تنويعات مختلفة مع انها بقيت تشكل ما يشبه الثيمة الاساسية
وباعتقادي ان وضع اليد على هذه الاساسات المشتركة في الاديان هو ما سيمكننا من فهم تلك الظاهرة وترجمتها بشكل صحيح وبالتالي نستطيع ان نفهم اصل الدين و كيف تكونت اشتقاقاته وتنويعاته.
اعتقد ان اهم الثيمات البارزة في الاديان هي ثيمة الموت والطقوس والشعائر المرتبطة به ولكي نستخلص منه اساساً ثابتاً لنظريتنا علينا ان نجرده من تلك الطقوس والشعائر ونتخيل انفسنا مع ذلك الانسان البدائي او متحيزين مكانه لنرى كيف فكر في الموت ذلك الحدث المهم في نهاية مسار الانسان.
لا بد ان الطبيعة كانت قاسية بتنوعاتها المعادية للانسان الضعيف والصغير امام حيوانات عملاقة يمكنها ان تسحقه باقدامها دون ان تراه كما تدل على ذلك البحوث الاركيولوجية فالديناصورات تفوقنا حجما بعشرات المرات وكذلك الماموث وغيره وهذا يعني ان الموت كان علامة يومية يعيشها الانسان في صراعه مع الطبيعة فهو فريسة ولم يكن صياداً وحين يحصل الموت لقريبه او رفيقه فأن عقل الانسان وعواطفه الشديدة تجعل الحزن يتخلل نفسه ويبدأ بطرح تساؤلات كونية تحت وطأة تلك العاطفة الشديدة وكذلك تشده عاطفته ايضا الى تكليم ميته ومحاولة ايقاضه مدفوعة بحالة نفسية من (رفض تصديق موته) ورفض فقدانه وبالنتيجة يقوم برسم طقوس مبتكرة تجعل الميت وكأنه حي فيضع لميته طعاماً وشراباً و إحتياجات اخرى ويبدأ ذهنه بالتفلسف بظاهرة الموت حيث ينشّد ذهنه ويبدأ بمحاولة وضع اجوبة تمنحه الرضا والقبول و هنا تنبثق لحظة الاساس الثاني حيث تظهر اسئلة ملحة ومهمة ، لمَ نموت و لم لا نخلّد وان كان الجسد سالماً فماذا يعني الموت ؟ ولعل اكثر الاسئلة الحاحاً هو سؤال الخلود الذي يمنحنا عزاءاً عن رعب الموت ويستثير قلقنا الوجودي منذ القدم .
و مع تكرر الموت واصابته الاب والام والاطفال والرفاق ينشد الذهن تجاه سؤال الخلود كيف لي ان اخلد ، ولذلك يبدو ان سؤال الخلود و رعب الموت هو محور ملحمة كلكامش وهي تنويع واضح لهذا السؤال المؤرق فالانفكاك عن الحياة مؤلم للانسان الذي يأنس الحياة ويستذوقها ولذلك فالعالم الاخر هو تعبير عن تلك الرغبة الكامنة بالخلود و التي تضغط على الانسان بقوة وتهز اعماقه و وجدانه هزاً عنيفاً .
وهنا يظهر يظهر الاساس الثالث الذي يكون بمثابة الجسر بين رعب الموت وسؤال الخلود إنه ببساطة كيف اتخلص من رعب الموت واتحصل على الخلود خلال سني الحياة ، فيبدأ هذا الانسان برسم تصوراته و وضع الاجوبة التي تناسب عقله ومقامه عن هذه الاعجوبة المسماة (الحياة) .
فالدين بكل تنويعاته وأشكاله يعالج لحظات الحياة و يخفف رعب الموت ويمنحك الاطمئنان لما بعد الموت.
ويلعب مع هذه الاساسات الثلاث امر مركوز في عمق الانسان انه حب الاستطلاع فهو الذي يمنحنا ملكة السؤال حيث يرافقنا السؤال في كل لحظات حياتنا وهو الذي مكّن الانسان البدائي من التفلسف وهو الذي فتح شهية الانسان للفهم وجعله لا يشبع من الاجابات التي تُقدم اليه.
ونتيجة لذلك يمكن القول ان تعريف الدين بأنه مجموعة اعتقادات وشعائر او طقوس يكون خاطئاً بناءا على هذا التصور فالدين هو فلسفة حياة وهو اجابة للحظاتٍ فاصلة في حياة الانسان والاعتقادات هي روح الدين ولبه و الطقوس والشعائر هي تعبيرات و حوافظ لتلك الروح ولذلك اللب وانها جاءت في مرحلة متأخرة عن الاعتقادات فلا تصلح لتكون جزءاً معرفاً للدين .

و لربما تكون لحظة الحياة بنفسها اثارت السؤال لدى الانسان و تردد هذا السؤال كلما تعب الانسان في جمع طعامه او الانتقال الى مواطن الدفء او مواطن الماء والطعام وشعر مع هذا الكد والتعب بالحاجة الى معرفة معنى الحياة وكانت لحظة الموت لحظة صادمة جعلته يعيد التفكير في هذا الموضوع وشحذت عقله ليقدم اجابة تسد الحاجة الوجودية لديه.
ويبقى سؤال يلح بقوة لماذا نرى الدين على تنوعاته موجود في كل المجتمعات ولمَ تتكرر الظاهرة الدينية في ادغال افريقيا كما في سهوب التبت وكما في قبائل استراليا المتخلفة ، هل هو تعبير عن حاجة وجودية حقيقية ام انه وهم تماثلت البشرية في صناعته ؟
ختاماً اتوجه بالشكر لفايروس كورونا لمساعدتي في كتابة المقال .