27 ديسمبر، 2024 12:45 ص

أجلس  قرب مدخل  الغرفة  أرقب ضوء النهار  ، وشعاع الشمس يتسلق أطراف ثوبي المقلم باللون الأخضر الباهت  ، حتى يغمر زاويتي الجدار الشاهق المقابل  لغرفتي الأسرة التي سكنت معنا داخل البيت . في الأتجاه الآخر لباب الدخول التي يطوقها  عقد من الطابوق المرتب كأنحناءة هلال متداعية ، يجلس الكهل بائع السجائر وحب الرقي ، يرقب الذباب قرب الشباك ،  وهو يردد بصوت مكتوم : هل أنتم مرضى بشيء أسمه   أعطني بالدين ؟ ، كانت أمي موشكة على الذهاب ، وقد أخذت الصرة التي  أعدتها ،وأغلقت باب غرفتنا قبل الخروج ، أتت المرأة ذات الثآليل ، أجتازت الطابوقات القليلة المتبقية   قبل لحظات ، تقشر البطاطا في طبق صغير ، نظرت الي نظرة ساحقة ثم قالت : هل تخرجين ؟
قالت أمي : مرت سنة كاملة ، سأعمل عشاء من أجله هذه الجمعة .

كنت أحب مراقبة المرأة ذات الثآليل وهي تخاطب قططها الصغيرة ، تظن أنها تفهم ماتقول ، فكانت كل كلمة تقولها تزيد من علامات الخذلان والهجر الذي عانته طوال أيامها المباغتة : لقد حكمت لي المحكمة أخيراً بخمسمئة دينار كنفقة ، أخبرني الكاتب أن لاأقلق على أستلامها بداية كل شهر ، أما ماخسرته فمن الأفضل أن لا …أختي في الصوب الآخر تعيش على غسل الملابس .. حينما تعودين من السوق قصي شعر الغلام .
أنها كثيرة الأهتمام بي ،وتشغل نفسها طول النهار بمراقبتي ، فأشعر لذلك بنوع من الأضطهاد .
أختفى الآن الظل الصغير الذي صنعه الجدار المنحني فوق الضوء الصفيحي قرب الباب وحوض حنفية الماء ، كان بعض النسوة داخل المنزل  يقمن بطبخ طعام الغداء ، وأنا أراهن دون حاجة لكي أنظر  لأحداهن ، تدوسهن أرجل نمل عملاقة فأستعرضهن برأسي الملطخ بالهواء الكسول الحار والطنين الزاحف ، أستمع من أحدى الغرف الى صوت المذياع الوحيد ، قالت :
– هل بعتِ الكنتور  ؟
– أجل لم تعد به ثمة حاجة ، حتى ذكرياته العائلية لم تعد مهمة عندي كأي شيء في البيت .
جالت ببصرها من خلال المجاز  المفتوح ،وأنزلقت أمي بصمت عبر الساحة التي تغمرها الشمس ، فرأيتها تسحق بعباءتها الضوء المنسحب ، كانت قد رزمت الحاجيات في الصرة التي حملتها على رأسها  وبيدها الأخرى سحبتني برفق ، سرت دون أن أنبس بكلمة ، رأيتها في الليلة الماضية تخرج ملابس أبي القديمة وحذاءه الكبير من السلة الخيزران التي أحتفظت بها منذ زمن طويل ، وأخذت تتفحصها طوال الليل كأنها تتنفسها قبل أوان النوم ، وهي تغلق عينيها متعمدة حتى لاأشعر أنها ترقبني من خلال ملامحها الشاكية الضئيلة ، شعرت بأنفاس أبي تتسلق الهواء في الغرفة وتنزلق عبر مصباح النور المعلق على الحائط ، فتملكني الحزن رغم أرادتي ، وتمنيت أن ألمس ثدييها في تلك اللحظة ، لكن كل شيء تبدد بعد مجيئ العتمة الناعسة .
عبرنا طريق السيارات الطويل ، والهورنات المتلاحقة ، وكانت خطوط البوية الصفراء مازالت تظهر وتختفي تحت أرجل العابرين ، والناس المتعجلين ، أختفت الخطوط الآن فوق الطريق الأسفلتي وتحركت الشمس كأنها تدور خلف الأعمدة العملاقة وبدا الشارع وكأنه طفل مستلق تحت الشمس الحارة التي كسرت خيوطها العربات الكثيرة المزدحمة  . بعد أجتيازنا الشارع المؤدي الى السوق توقفت أمي قليلاً أمام باب الدكان ، فدخلت خيوط الشمس التي تركناها خلفنا الى المحل المعتم ، ولمحت وجه أمي كأنما يتدلى وسط مرآة نحاسية ، غائبة وقد تقدم بها العمر  فوق بركة من الضياء المضطرب .
ظهرت لنا نهاية الشارع وقد قطعتها الظلال كما لو تركت هناك الى الأبد ، قال الرجل وهو يقلب الحذاء السميك :
– أنها أشياء رخيصة ، ليس رومانياً كان من الأفضل أن يكون كذلك
قالت :- خذ هذه  ..
وفتحت أمامه بدلة الجندي  ذات الشارات المعدنية ، قال :
– هذه ؟
قالت : – أجل معها ..
– أنها مجرد نياشين لمعارك خاسرة  .
ثم قال : أربعمئة فقط ..
أبقى لها أنتشاءة الرفض الأخيرة ، ولكنها لم تقل كلمة . أستلمت المبلغ وكأني سأبصرها بعد لحظات وهي ترميه أمام الدكان لتتناثر الورقات الأربع في الهواء أو الأرض التي لم ترها في تلك اللحظة ، أنتظرتها أن ترمي النقود بأكملها قبل أن نخرج ، ورأيت يدها تدخل الى جيبها ، وتخرج فارغة بعد أن أختفى الضوء الشاحب المنعكس ، وقد أنشغلت عني كأنها تحوم في غيمة من التفكير المعذب حيث تهيأ لها أنها قد باعته هو  أيضاً . سحبت يدي برقة كعادتها ، وغذذنا السير ، فتلقفنا صياح باعة ( الجنابر ) والأشياء العتيقة المعروضة  على الأرض وفوق الحصران .
بعد دخول البيت ، أنتصب أمامنا باب الغرفة ، ورأيت الكهل نائماً قرب حاجياته . فتحته بصمت وهي فاغرة الفم ، كأنها تدخل دهليزاً حلزونياً مظلماً مثقلاً بحشرجات تأتي من مكان غير مرئي  ، جلست هناك تحدق في الجدار ، فكت رباط شعرها الجاف ، فنزل بأستقامة على ثوبها الليلي كألم مكتوم ، نظرت اليها وذراعها البيضاء  العارية الممدودة ، لم أتكلم ، وقد فقد كل شيء بريقه في تلك الأثناء ، كانت كمن في نفسها شيء لايمكن التخلي عنه أو الجزم به أو التخلص منه  ، وبدأت أشم رائحة أنتظارها ، الأنتظار الساحق البطيئ المستسلم  الى مالانهاية ، الأنتظار اليومي  المقيت دون جدوى . تمنيت أن يمر الوقت  وتنتهي تلك اللحظة ،  فكأن الزمن نفسه قد توقف ، وكفت الأشياء عن الدوران . 

قاص  يعيش  في  أمريكا
[email protected]