27 ديسمبر، 2024 2:33 ص

 لم يعد ثمة مبرر للحديث عن خطر حزب البعث بعد أربعة عشر عاماً من انهيار حكمه في بغداد. ولا يجدر التخوف من عودة أنصاره للسلطة بعد التحول الحاسم في المزاج الشعبي. فمثل هذه الواقعة لو حدثت بالفعل لأصبحت أعجوبة من الأعاجيب، أو معجزة من المعجزات، ولكانت موضع استغراب العالم بأسره. لقد أصاب البعث مثل كثير من الأحزاب العربية الأخرى الوهن والضعف. وغدا مجرد ذكرى لزمن غابر. ليس لأن عقد أفراده قد انفرط على حين غرة، فمازال فيهم من يمتلك الحيوية، بل لأن الفكرة القومية قد تراجعت في هذا القرن، بعد توهجها في القرن الفائت. ولأن بلدان المنطقة رسمت حدودها الخارجية بما لا مزيد فوقه. ولأن اقتصادها انتقل من المحلية إلى العالمية، وهكذا. وإذا افترضنا أن الجماعة التي حكمت في بغداد قبل عام 2003  ورثت الفكر العروبي من آبائه المؤسسين، فإنها لم تحسن الاهتداء به. فقد أرجع هذا الفكر عوامل الفرقة والتفكك في البلاد العربية إلى تخلفها الحضاري. ولم يتمكن البعث على مدى خمسة وثلاثين عاماً في الخروج من هذا المأزق. ولم يستطع بناءً على ذلك أن يقنع أحداً بإعطائه مثل هذه الفرصة مجدداً.  وربما لا يبدو مثل هذا التحليل الذي تبناه مفكرون كبار من طراز ساطع الحصري وقسطنطين زريق في النصف الأول من القرن العشرين، مخالفاً لما هو متداول اليوم. فالمسألة الحضارية ماتزال الشغل الشاغل للنخبة في العراق والبلدان الأخرى. ولكن الأساليب التي سلكها بعثيو العراق كانت أبعد من أن توصلهم لهذا الهدف، أو تقربهم منه زلفى. ولذلك فإن الوصول إليه بات يستدعي نمطاً جديداً من السلوك، لا يشبه سابقه بأي حال من الأحوال. ولقد صادف أن انبعاث الفكرة القومية العربية تزامن مع صعود النظرية الاشتراكية في دول كثيرة من العالم. ولا سيما بعد الانهيار الكبير في الاقتصاد الرأسمالي غداة الحرب العالمية الأولى. وبسبب ذلك تبنت هذه الفكرة الخيار الاشتراكي.

إلا أن السقوط المدوي للأخير في أواخر القرن الماضي أعاد الأمور إلى مربعها الأول. ولم يستطع الاقتصاد العراقي أن يستعيد قوته بعد الحروب الدامية التي استنزفته. فوضعت هذه الحوادث خاتمة مبكرة لكل أحلام البعثيين في الاستمرار بالسلطة. ثمة متغيرات كثيرة في الساحة العراقية بالذات جعلت من البعث خياراً غير مطروح على الإطلاق. ولا شك أن الأشخاص الذين ما يزالون مبهورين بتلك الحقبة سيسلكون سبيلاً أخرى في ما لو نجحوا بالعودة للحكم، ولن تكون هذه السبيل بعثية أبداً. إن فشل النخبة الجديدة التي تداولت السلطة في العراق في إرساء نظام سياسي مستقر بعد عام 2003، لا يعني أن البديل الناجح له هو البعث. فهناك العديد من البدائل التي يمكنها إصلاح الوضع، ومن أهمها على الإطلاق إلغاء الفيدرالية وحكم المحافظات، وتشجيع قيام قطاع خاص قوي، وتقليل الاعتماد على النفط، وغير ذلك. ليس علينا بعد كل هذه السنوات أن نلقي بإخفاقاتنا على عاتق البعث، ولا أن نحمله ما أصابنا من قروح. فقد أصبح هذا النظام ذكرى سيئة لماض غابر مندثر، فقد كل مقومات الوجود والقوة منذ زمن طويل.