27 ديسمبر، 2024 5:34 ص

المجلات الثقافية في العراق

المجلات الثقافية في العراق

إن واقع تلك المجلات في العهد الجديد يبعث على تأمل الواقع الثقافي العراقي ككل وهو واقع لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الفساد المستشري في العراق كله.

على الرغم من عراقة المجلات الثقافية في العراق وما لعبته من دور مشهود في العقود الماضية على صعيد ترسيخ الحياة الثقافية وخلق التقاليد العريقة إلّش أنَّها شهدت ردّة عنيفة بعد العام 2003 وما تلاه من أحداث سياسية متردية حتّى تحولت إلى عبء ثقيل ونماذج هزيلة لا تليق بسمعة العراق الثقافية وحجم العطاء الإبداعي والفكري فيه.

تلك المجلات ظلت مقاومة ومواظبة على الصدور في أحلك الظروف التي مرّ بها العراق في سنوات الحصار الاقتصادي والحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية حتّى أطلق عليها قرار وزارة الثقافة الجديد الخاص بقطع التمويل عنها وإيقاف المكافآت المالية المخصصة لكتّابها رصاصة الرحمة. إن واقع تلك المجلات في العهد الجديد يبعث على تأمل الواقع الثقافي العراقي ككل وهو واقع لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الفساد المستشري في العراق كله.

فمن جهة فشلت إدارات تلك المجلات، وهي في الغالب إدارات ليست متخصصة، في اجتراح البدائل اللازمة للاستمرار ورفع معايير الجودة على صعيدي المضمون والشكل.

ومن جهة أخرى استشرت النظرة المتخلفة للثقافة عموماً وعدم إدراك أهميتها بالنسبة للمسؤولين الجدد الذين ينظرون للثقافة كممارسات ترفيهية ليست ذات أهمية قياساً بما صنعوه من أزمات بنيوية متداخلة في البلد.

وضمن هذا المشهد توقفت مجلة “آفاق أدبية” العريقة التي أسسها الشاعر الراحل شفيق الكمالي واستلم إدارتها لاحقاً الباحث والناقد الكبير محسن الموسوي لينقلها إلى آفاق مفتوحة وحقق لها مكانة وحضوراً بارزين في الحياة الثقافية العربية، بينما تراجعت مجلة “الثقافة الأجنبية” التي أشرف عليها في سنوات منجزها الكبير الأستاذ ناجي الحديثي، وكذلك الأمر مع مجلات عريقة أخرى كانت تشكل علامات مضيئة في الحياة الثقافية العراقية والعربية مثل مجلة “الأقلام” الأدبية الشهيرة ومجلة “الطليعة الأدبية” المتخصصة بالأدب الجديد التي أدارها الكاتب خضير عبدالأمير ومجلة “التراث الشعبي” التي رسخ تقاليدها البحثية والصحفية والفولكلورية الرائدة الأستاذ الباحث باسم عبدالحميد حمودي وغيرها من المجلات والمطبوعات المهمة الأخرى.

ولعل الحديث عن المجلات الثقافية العراقية لا يبتعد كثيراً عن دائرة الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة العراقية التي اضطلعت بمهمة إصدار تلك المجلات إضافة إلى الإصدارات الأدبية والفكرية من الكتب يوم كانت تلك الدائرة قلعة للثقافة وورشة فنية وتحريرية وطباعية كبيرة، حتّى جاء الاحتلال المشؤوم لتُنهب مطابعها وتُخرّب تقاليدها وتتحول إلى كيان هزيل لا يعدو عن كونه تكية أو مخبأ لجيش من العاطلين المتطفلين على الثقافة من عديمي الخبرة والتجربة، حيث ينتسب إليها اليوم ما يربو على الألف موظف جلّهم لا علاقة لهم بالثقافة والإبداع في وقت يكفي فيه عشرة من العاملين المتخصصين لإدارتها لتكون النتيجة الحتمية لهذه الفوضى تراجع مستوى تلك المجلات وتردّي المطبوع المحلي لدرجة مريعة.

في حين ظلت الفكرة المهيمنة على أغلب من استلم مسؤولية تلك الدائرة أو المجلات الصادرة عنها هي أن الدولة مسؤولة عن توفير الدعم المالي لهم من دون الاجتهاد في ابتكار وسائل دعم جديدة وأساليب تخفيض كلفة الإنتاج وتقليل جحافل العاطلين التي تعتاش على الثقافة من الدخلاء الذين أغلبهم من بطانات الأحزاب الإسلامية المهيمنة على مقدرات البلاد.

وما زلت أعتقد بأن أفضل خطوة يمكن اتخاذها في الوقت الراهن هو إيقاف تلك المجلات عن الصدور حفاظاً على الكرامة الثقافية الوطنية والحد من توجيه المزيد من الإهانات لها حتى تتوفر الشروط الصحية المناسبة لمعاودة إصدارها، هذا إن توفرت تلك الشروط في ظل الفوضى التي تضرب أطنابها في البلاد.
نقلا عن العرب