وكالات – كتابات :
كتب “إيشان ثارور”، الكاتب المتخصص في العلاقات الخارجية في صحيفة (واشنطن بوست)، تحليلًا نشرته الصحيفة الأميركية؛ سلَّط فيه الضوء على “الولايات المتحدة” بعد مرور عقدين من الزمان على أحداث 11 أيلول/سبتمبر، مشيرًا إلى أن “الولايات المتحدة” تبنَّت عسكرة المؤسسات بعد هذه الأحداث، وخلُص إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تتحمل مسؤولية تركة الإخفاق في النهوض بالأمم التي احتلَّتها في الخارج، وتقليص مساحة الحريات المدنية وتوسيع منظومة مراقبة الجماهير وتعميق الانقسامات السياسية في الداخل، حتى أن هناك مخاوف تساور البعض من تنفيذ أحداث مثل 11 أيلول/سبتمبر 2001، من الداخل.
إرث عقيم..
في مستهل تحليله؛ يُشير “ثارور”؛ إلى أنه بعد مرور 20 عامًا على هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، لم تتعرض “الولايات المتحدة” لأي هجماتٍ: “إرهابية”، كما كان مفترضًا، في أي مكان داخل البلاد ولا بأي طريقة تُضاهي الحد المروِّع لهجمات 11 أيلول/سبتمبر. ولم ينظر إلى هذا الأمر على أنه دليلٌ قوي على الانتصار؛ سوى عدد قليل من الإدارة الأميركية في “واشنطن”.
وبدلًا من التفكير في الأمر من زاوية أخرى، يتصدَّى هؤلاء القلة للمناقشات التي تدور بشأن الغطرسة الإمبريالية الأميركية وتجاوزاتها سعيًا لتفنيدها. وعلى الصعيد الخارجي، تحمل الإدارات الأميركية المتعاقبة على عاتقها إرثًا مقسَّمًا فيما بينها من الحروب المدمِّرة والفشل في النهوض بالدول. وفي الداخل، شهدت السنوات التي أعقبت هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001؛ تقليصًا لمساحة الحريات المدنية لبعض الجاليات وتوسيعًا لمنظومة مراقبة الجماهير، بالإضافة إلى تعميق الانقسامات السياسية.
ويُوضح الكاتب أن قرار إدارة “جورج دبليو بوش”، قبل 20 عامًا؛ بغزو “أفغانستان”، التي كانت ملاذًا لتنظيم (القاعدة)، في ظل حكم حركة (طالبان) للبلاد، آنذاك، كان يحظى بدعم واسع من الأميركيين. وتحوَّلت المهمة التأديبية إلى شيء أكبر بكثير من مجرد حملة عسكرية لمكافحة، (ما أسمته أميركا): “إرهاب جماعة مسلحة تعمل في بيئة وعرة غير واضحة المعالم”.
وفي ذلك الوقت، أعلن “بوش” عن بدء: “حرب عالمية على الإرهاب”، محذرًا كل الدول من أن تتخذ قرارها: “إما أن تكون مع الأميركيين أو مع الإرهابيين”. وانتشرت آلات الحرب الأميركية على رقعة واسعة من الكوكب؛ وغاصت في مستنقع من الوحل بعد غزو عسكري أدَّى إلى تغيير النظام في كل من، “أفغانستان” و”العراق”. وأنشأت “الولايات المتحدة” شبكات سرية تستهدف اعتقال أي مشتبه به من المتطرفين الإسلاميين وتسليمه واستجوابه وتعذيبه بكل تأكيد. وبداية من المُنشأة العسكرية الأميركية في خليج “جوانتنامو”، (جنوب شرق كوبا)، ووصولًا إلى زنازين سجن “أبو غريب”، في العاصمة العراقية، “بغداد”، كان الحفاظ على أمن “الولايات المتحدة” يعني ضرورة إنشاء جهاز أمني يعمل تحت مظلة شرعية دولية غامضة وانتهاكات لحقوق الإنسان موثَّقة.
مكافحة الإرهاب رفعت تهديد التطرف أكثر..
وأكدَّ “ثارور”؛ أن الشعب الأميركي أصبح شيئًا فشيئًا لا يبالي بالمعارك طويلة الأمد التي يخوضها الجيش باسم الشرف، وقدَّر الباحثون في جامعة “براون” أن هذه الحروب تسببت في مقتل: 900 ألف شخص على الأقل؛ وكلَّفت دافعي الضرائب الأميركيين، حوالي: 08 تريليونات دولار. وتظل أعداد ضحايا القوات الأميركية على مدار العقدين الماضيين، والتي تُقدَّر بأكثر من 07 آلاف قتيل من أفراد الخدمة الأميركية، خلال العمليات العسكرية؛ التي شنَّتها “الولايات المتحدة” بعد 11 أيلول/سبتمبر، جزءًا بسيطًا من الجهود الحربية الأميركية الكبيرة السابقة. وأدَّت غارات الطائرات من دون طيار والعمليات السرية المتعددة، على الأرجح، إلى التأثير بشدة في حياة المدنيين في هذه البلدان النائية، لكنها تبددت شيئًا فشيئًا في خلفية حياة الشعب الأميركي.
ولفت المحلل الأميركي؛ إلى أن “الولايات المتحدة” تُمارس سيطرة ومراقبة خارج الحدود الأميركية مغلَّفتَيْن بشكل من أشكال: “الإنسانية”، إذ تحرص على حذف كثير من مناظر القتل والإصابات عن أنظار الجماهير. وكتب “صمويل موين”، المؤرخ الأميركي في جامعة “ييل”، ومؤلف الكتاب الجديد: (الإنسانية: كيف تخلت الولايات المتحدة عن السلام وأعادت اختراع الحرب)، قائلًا إن: “الإنسانية المعدَّلة للحروب الأميركية، ظاهريًّا وفعليًّا، لا تخلو من العيوب. وكانت الإمبراطوريات القديمة تبرر ممارستها للأعمال الوحشية مُتذرِّعةً بخدمة الحضارة الإنسانية والتقدُّم. ولكن هذه النسخة الأميركية من (الإنسانية)، التي نقدِّمها تقدم تعويضاتٍ عن الحروب التي نخوضها من خلال إطالة أمد هذه الحروب والتوسُّع في نطاقها”.
ويستدرك الكاتب الصحافي؛ موضحًا أن المسؤولين الأميركيين أدركوا أخيرًا أن جهود مكافحة: “الإرهاب” أدَّت إلى زيادة انتشار التهديدات الناجمة عما وصفه الكاتب: بـ”التطرف الإسلامي”، في أفضل الأحوال، بدلًا من القضاء عليها أو تحييدها. وفي بعض الحالات، وبالتحديد في “العراق”، ساعدت الإجراءات الأميركية على تأجيج التطرف وأرست دعائم ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية”. وفي “أفغانستان”، يجب أن يتحمل إستراتيجيو “واشنطن” نتائج الفشل الأميركي المرير. وفي نهاية هذا الأسبوع، تُحيي حركة (طالبان) الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر، بالتزامن مع تولي حكومتها الجديدة مسؤولية إدارة شؤون البلاد؛ والتي تضم وزراء بارزين موجودين على قائمة المطلوبين لمكتب التحقيقات الفيدرالي.
صنع حصن أمني داخلي منيع..
يُنوِّه “ثارور” إلى أنه على الصعيد الداخلي، أدَّت: “الحرب على الإرهاب”؛ إلى التوسع السريع لجهاز الأمن الأميركي. وأقرَّ “الكونغرس” قانون “باتريوت”، بعد أقل من شهرين من أحداث 11 أيلول/سبتمبر، مما منح الحكومة الأميركية صلاحيات جديدة واسعة لمراقبة المواطنين والمقيمين في “الولايات المتحدة” والتجسس عليهم، وهو الأمر الذي أفسح المجال أمام إمكانية تفتيش سجلات الهاتف ورسائل البريد الإلكتروني من دون الحصول على إذن قضائي في بعض الحالات.
وأدَّى إعادة تشكيل أولويات الأمن القومي إلى إنشاء “وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك”، المثيرة للجدل، مما أثار حفيظة كثير من النشطاء اليساريين، بالإضافة إلى إضفاء الطابع العسكري المثير على أفراد قوات الشرطة الأميركية، بعدما أرسلت “وزارة الدفاع الأميركية”، (البنتاغون)، إلى مراكز الشرطة المحلية؛ بعض المعدات العسكرية التي تُقدر قيمتها بحوالي: 1.6 مليار دولار.
وألقى الكاتب الضوء على ما كشفه “إدوارد سنودن”، المتعاقد السابق مع “وكالة الأمن القومي”، في عام 2013، من وثائق لثلاثة صحافيين، بينهم صحافي يعمل لدى صحيفة (واشنطن بوست)، تُفيد إنشاء الحكومة الأميركية نظامَ مراقبةٍ عالميًّا ضخمًا، بتفويض من السلطات القانونية السرية، لكي يكون قادرًا على مراقبة مجموعات سكانية بأكملها. وفي الوقت الراهن، يرى عديد من المحللين أن نظام التجسس الرقمي الذي أنشيء كان بمثابة مقدمة لنموذج عالمي جديد.
وفي هذا الصدد، كتب “ويسلي وارك”، كبير الباحثين في مركز “ابتكار الحوكمة الدولية”، ومقره “كندا”، قائلًا: “عندما تولت وكالات الاستخبارات التابعة للحكومة الأميركية؛ زمام الأمور، مدفوعة بإنخراطها في مهمة مكافحة الإرهاب، تبِعَها القطاع الخاص. وقد نشاهد في نهاية المطاف، استخدام عالم الشركات للطائرات من دون طيار لإيصال الطرود إلى عتبات أبواب منازلنا، ولكن ما أدركته حقًّا هو احتمالية مراقبة بيانات الجماهير وتحليلها للعثور على فئة من المستهلكين واستهدافها واستغلالها والسيطرة عليها، مدعومة بظهور منصات شبكات التواصل الاجتماعي للترويج والإعلان واسع النطاق”.
عشوائية الاستجابة الأميركية لأحداث 11 أيلول..
يستشهد “ثارور”؛ بما قاله “باهر عزمي”، المدير القانوني لـ”مركز الحقوق الدستورية”، الذي اعترض على سياسات الحكومة الأميركية مرارًا وتكرارًا، خلال العقدين الماضيين، إن: “رد فعل الحكومة الأميركية على أحداث 11 أيلول/سبتمبر، لم يكن مجرد سلسلة من السياسات العشوائية أو الاستجابات العرضية، بل كان أيضًا نظامًا ‘يديولوجيًّا عميقًا أثَّر في ثقافتنا السياسية والقانونية بأسرها”. وأضاف “عزمي”: “أنه من أجل مواجهة تهديد الإرهاب الذي يبدو أنه موجود في كل مكان وغير مرئي وفوق طاقة البشر، شرعت الولايات المتحدة في بناء دولة أمنية كاملة”.
وبعد المجزرة التي خلفتها أحداث 11 أيلول/سبتمبر؛ وارتكبها تنظيم (القاعدة)؛ ضد آلاف من الشعب الأميركي، يقول الكاتب، تحولت الأنظار في “الولايات المتحدة” إلى: “المسلمين” الذين يعيشون في “الولايات المتحدة”. وفي الثقافة الأميركية، وُصِمت الجالية المسلمة بأكملها بالعار، وفي المجتمع، تأقلم المسلمون الأميركيون مع انتشار التصنيف الديني على نطاق واسع، وتعرضوا لعنصرية الشرطة الأميركية والمراقبة التمييزية.
ونظرًا لأن اليمين الأميركي يؤجج الآن المشاعر المعادية لقبول اللاجئين الأفغان في “الولايات المتحدة”، فإن الأجواء الحالية لم تشهد تحسنًا كبيرًا عن الأجواء الأميركية إبَّان ذروة العمليات الأميركية ضد تنظيم (القاعدة). ووجد استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث والدراسات؛ أن معدل الإعتقاد السائد بين الأميركيين القائل إن “الدين الإسلامي” أكثر ميلًا من الأديان الأخرى لتشجيع العنف، في الوقت الراهن، أعلى من معدله في الأشهر التي أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر مباشرةً.
تغذية التطرف..
يؤكد المحلل الأميركي؛ أن هذا الأمر يتغذى مباشرةً على المناخ السياسي الحالي. ويرسم الكاتب الصحافي، “سبنسر أكرمان”؛ في كتابه الجديد: (عهد الإرهاب: كيف زعزعت حقبة 11 أيلول/سبتمبر استقرار أميركا وجلبت ترامب”، خطًّا متصلًا بين نتائج أحداث 11 أيلول/سبتمبر وإحياء نوع معين من كره الأجانب في “الولايات المتحدة”. وذكر “أكرمان” أن “دونالد ترامب”: “فهم شيئًا عن الحرب على الإرهاب، لم يفهمه الليبراليون أنصار النزعة الدولية. وأدرك ترامب أن المعنى الضمني لحقبة 11 أيلول/سبتمبر، الذي صوَّر الأميركيين غير البيض على أنهم لصوص دخلاء على البلاد؛ بل وصوَّرهم على أنهم غزاة ينتمون إلى حضارة أجنبية معادية، كان محرك هذه الهجمات”.
وعلى المنوال ذاته، لاحظت مجموعة من المتطرفين اليمينيين هذا أيضًا فشنت هجمات مميتة ضد المجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة. وعلى شاشات التلفزيون الأميركي، يُردد المنتقدون من اليمينيين، في الوقت الحالي؛ خطابًا قوميًّا يميل إلى الأميركيين البيض؛ بشأن: “الاستبدال العظيم للأميركيين من ذوي البشرة البيضاء، (نظرية مؤامرة يمينية تنص على أن السكان غير البيض يحلون محل السكان البيض)”، وهو نوع من وجهات النظر المتطرفة التي يمكن القول إنها ظلت بعيدة عن الاتجاه السائد منذ عقدين.
وفي السياق ذاته؛ كتبت “سينثيا ميلر إدريس”؛ في مقال جديد نشرته مجلة (فورين أفيرز) الأميركية إن: “الدعاية المعادية للمسلمين ونظريات المؤامرة التي اندمجت بمرور الوقت في سردية الاستبدال العظيم كانت، في كثير من الحالات، مدعومة من دون قصد من سياسات مكافحة الإرهاب التي لم تفرِّق بين الإرهاب الإسلامي والإسلام نفسه”.
وألمح “ثارور” إلى أن أحداث 06 كانون ثان/يناير، (اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي)، والعسكرة المتنامية وتنامي راديكالية اليمين المتطرف، أدَّت إلى تحول المسؤولين، في العواصم الغربية، إلى ملاحظة التهديد الحقيقي الذي يشكله التطرف الداخلي. لكن لم يتوقع أحد هذا النوع من الاستجابة لمكافحة الإرهاب التي حشدت قبل عقدين من الزمان.
ويختتم الكاتب تحليله مستشهدًا بما كتبه “غيسون بلازيكس”، مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في “وزارة الخارجية” الأميركية، في مقاله المنشور في صحيفة (واشنطن بوست)، قائلًا: “بصفتي شخصًا عمل على قضايا الأمن القومي في حكومة الولايات المتحدة، لأكثر من عقد من الزمان، فقد خلصتُ إلى أن الحرب الأميركية على الإرهاب، التي بدأت في أعقاب أحداث 11 أيلول/سبتمبر؛ جعلتنا غير مستعدين للتهديد المحلي الذي ينمو يومًا بعد يوم”. وحذر “بلازيكس” من أنه: “يجب علينا مواجهة الاحتمال الحقيقي من أن تأتي أحداث 11 أيلول/سبتمبر القادمة من الداخل”.