خاص – كتابات : بغداد – أيمان الأمين – افراح شوقي :
لم تزل دموعها ساخنة.. وهي تسرد قصة أولادها الأربعة، بين جدران المعتقلات والملاجيء والمنافي، والعصابات، وتحديها هي وبناتها لمطاردات “البعث” وقسوتهم؛ منذ تسعينيات القرن المنصرم، وتحديداً أيام “الانتفاضة الشعبانية”، وحتى حكم الأحزاب الإسلامية بعد عام 2003، وما تلاها من خراب وتغييب وضياع.. هي الأم العراقية، “أم واعي” المنصوري.. تقضي ما تبقى من أيامها بحسرة رؤية ولدها البكر، “واعي”، بعد إن أختطف في آب/أغسطس عام 2015، في ظروف غامضة، تاركاً أمه وزوجته وأولاده بحيرة الأسئلة والغياب..
أم المعارضة..
“أم واعي”؛ أو “شمه”، وهذا هو اسمها.. تخطت عقدها السادس، لم تزل تنعم بذاكرة خصبة بقدر ثقل الأحداث التي عاصرتها، وبقدر مأثرها وهي تنقذ أبناء جيرانها من بطش السلطات “البعثية”.. تماماً مثلما حصل مع “أم قصي”، وأهالي ناحية “العلم” وهم يتلقفون أبناء الجنوب ويحموهم من بطش “الدواعش”.. أهالي الحي ينادونها، بـ”أم المعارضة”، لأن إثنين من أولادها شاركوا في “الانتقاضة الشعبانية”.. فالكبير كان منتسباً إلى “الحرس الوطني” وطلبوا منه ضرب ناس هاربين من “الحله”؛ نساء وأطفال، ورفض، وخوفاً من تصفيته هرب إلى أهله والتحق بالانتفاضة.. والآخر كان عسكري بـ”الكويت” وشاهد كل إنتكاسات الجيش أمامه.
عن رحلة كفاحها قالت، في آخر جلسة مع الناشطة المدنية، “أيمان الأمين”، في بيتها بمنطقة “الهاشمية” في “بابل”: “في آذار/مارس من عام 1991؛ فؤجئت بقوات عراقية تضع الدبابة في حديقة داري، موجهين فوهتها بإتجاه البيت مباشرة.. وجائني شاب طويل وضخم، بشوارب مفتولة، وهو يسأل: أمي.. من بالدار ؟.. فأجبته: أنا وبناتي فقط !.. قال المكان خطر، ويجب هدم الدار، قلت له: لا مكان لي غيره.. نموت أنا وبناتي فيه، قال: إذاً سندخل للتفتيش.. دخل فتش وخرج، إبقي أمي، ساكون هنا قريب أذا احتجتي شيء أنا موجود.. قالها الشاب وخرج”.
أقتلوهم.. هؤلاء أهل المعارضة !
تواصل “أم واعي” شهادتها: “وقتها لم يكن في البيت قطعة زاد، فقط خوف وحزن وإرهاب يعصر إمعائنا.. بعد أن هرب أبنائي الإثنين المشاركين بـ”الانتفاضة الشعبانية”.. وأتذكر أن هذا الشاب العسكري جلب لنا الأكل من حصتهم في المؤنة”.. وبعد لحظات جاءهم يخبرهم بتفتيش آخر، وهناك بعض من أبناء منطقتهم وجيرانهم يصيحون: “أهدموا بيوتهم وهجروهم.. هذوله أهل المعارضة”، ودخل الجيش أثرها من جديد للتفتيش.. طلبت “أم واعي” من الشاب أن يفتشوا غرفة من غرف الدار، وتنتقل إليها النساء، بعد ذلك يفتشوا البيت، وطلبت من هذا العسكري أن يقف بباب الغرفة، ونفذ ما طلبت.. دخلوا وخرجوا دون أن يجدوا شيء، وأهل منطقتها يطلبون هدم الدار، والعسكري يرد عليهم: “لا أوامر عندي.. لا أخالف التعليمات”.
“أم واعي” تتذكر، في حديثها، أن هذا الشاب العسكري، “يزيدي”، وقد رحم بحالها وبناتها.. فيما أهل منطقتها، يطالبون بأذيتها !.. “أي زمن نعيش !”.. قالت كلمتها بحسرة كبيرة..
واصلت تقول: “في صباح اليوم الثالث طرق هذا الشاب الباب، باب بيتي، ليخبرني بأن جاري السيد الذي جاء من البصرة، من “أبو الخصيب” تحديداً، يطلبون له كفيل؛ وكل أهل المنطقة رفضوا كفالته.. وسألني إن كنت أقبل كفالته حتى يخرجوه من الحجز.. وافقت طبعاً وكفلته وأسكنته هو وبناته معنا في البيت”.
تتابع: “لكن خبراً باغتنا؛ يقول أن أبني، الذي فر من بطش النظام بعد “الانتفاضة الشعبانية”، قد قتل مع ابن السيد، وجثثهم موجودة عند المقر الحزبي، واستدعونا لأجل أن نأخذ جثثهم، وعندما ذهبنا تعرفنا فقط على ابن السيد، ولكن نكرنا أنه هو؛ وطلبت من السيد التماسك وعدم الإرتباك. وخرجنا بعدها ليقرر جاري الرحيل إلى “البصرة” خشية اعتقاله من جديد، لكن المشكلة أن أوراقه الثبوتية وأمواله كلها مدفونة تحت أنقاض بيته المحطم، فقررت أن أكلف بناتي بالبحث عن تلك الأوراق.. وفعلاً انتظرنا قدوم الليل وذهبت بناتي لأجل المهمة؛ وحصلن على الأوراق، ليسافر بعدها السيد وإبقيت بناته معي.. سنين طوال حتى أني زوجت إحداهن؛ وكنت لها بمثابة أهلها ولم أقصر بشيء يخصها، كما أني عرفت مكان قبر أخوها وصرنا نزوره كل عام، حتى عاد أهله بعد سقوط النظام وأخبرتهم بما حصل، فيما لاذ ولدي، “رحمن”، في ملاجيء “رفحاء” هرباً من بطش “البعث” وقتها”.
حينما تعتصر الكبد حسرة الغياب..
بعد كل تلك الخسائر، وقصص الصبر.. تفجع “شمة” بأختطاف ولدها، المحامي والناشط المدني، “واعي المنصوري”..
“واعي” الشاب العسكري، الذي كان أيام “الانتفاضة الشعبانية”، ملتحق بوحدته في “الموصل”، وقد احتجز هناك حتى إنتهاء محنة تلك الأيام.. تقول “شمة” : “واعي طيب القلب حنون بدرجة لا توصف معي.. يقبل يدي ليل نهار، ولا يتركني لحظة دون سؤال، ولما أخبره بأن عليه أن يراعي غيرة زوجته، كان يضحك ويقول: ما بينكم أبداً من خلاف.. ما دمت أنعم بمحبتكم الكبيرة”.
تصمت “شمة”، وتعصر إحدى جنبيها بيدها، وتطلق حسرة كبيرة: “أوووف يابنيتي إيمان.. لقد سرقوا أحلامنا بالأمان والحرية والعيش الكريم.. حرام ما يحصل في هذا البلد من جرائم وتغييب للشباب، أريد ابني.. هل من أحد يدلني عليه ؟”.
المتغيب قسراً.. “واعي المنصوري”..
“واعي كاظم حمزة المنصوري”، 54 عاماً، عمل رئيساً للمركز الاستشاري لحقوق الإنسان، (فعل)، ورئيس اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان مع الأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان البرلمانية، ورئيساً لتحرير صحيفة محلية، إضافة إلى كونه محامياً وناشطاً مدنياً عمل في “بغداد” و”بابل”، وشارك في التظاهرات والحركات الاحتجاجية التي سادت تلك الفترة مطالبة بالإصلاح والحد من الفساد.
متزوج ولديه، ولدان وبنتان.. اختفى في يوم 14 آب/أغسطس عام 2015، بظروف غامضة، وقد أصدر “المرصد العراقي للحريات الصحافية” في بغداد، (أحد منظمات المجتمع المدني)، بياناً في وقتها؛ جاء فيه:
“إختفاء صحافي وناشط مدني بظروف غامضة في العراق.. أبلغ ناشطون مدنيون، (المرصد العراقي للحريات الصحافية)، عن إختفاء الصحافي والناشط المدني والمحامي، “واعي المنصوري”، في ظروف غامضة، من قضاء “الهاشمية” في محافظة “بابل”، منذ أكثر من شهر، مشككين بظروف إختفائه”.
بدوره؛ ناشد المرصد السلطات العراقية بالكشف عن مصيره والعمل على إطلاق سراحه فوراً وملاحقة الذين يتسببون بالإساءة للذين يمارسون حقاً دستورياً في التعبير عن مطالب وحقوق مشروعة.
وكتب أحد أصدقاءه؛ يقول: “إختطف “واعي” لأنه كان ناشطاً مدنياً في التظاهرات ضد الفساد في “الحلة”، إختطفته إحدى الجهات غير المسؤولة. ولكن ولا جهة مسؤولة كلفت نفسها عناء البحث عنه. إختفاء قسري. هذا المحامي، وهذه مهنته، كان ينتظر دولة قانون؛ فإذا به يكون عرضة للإختطاف من قبل الخارجين على القانون أو المتلاعبين به أو – لا سامح الله – من قبل صنّاع قانون دولتنا الجديدة غير الجادة قانونياً”.
أمي.. نخلة العراق التي لا ترضخ..
عن وجع وصبر، الأم “شمة”؛ ورحيل “واعي”.. كتب “رحمن الجبوري”، شقيق “واعي المنصوري”، هذه الكلمات..
لو كانت الدنيا عادلة
لأصبحت أمي
تقود أقوى تحالف مدني
لبناء الدولة
لأنها..
أكثر دراية
وحكمة
وتضحية
من
نجاسات
هذا
الزمن !
أمي التي..
تستجوب
كل شهر
لأنها..
ولدت
واعي المنصوري
ورحمن الجبوري
والتي..
يقف لها ضباط التحقيق
الآن
في دولة أعطينا من أجلها كل شيء
يقف ضابط التحقيق..
إجلال لكبريائها..
لصمودها من أجل الوطن
أمي نخلة العراق التي لا ترضخ
وتعطي في كل زمن..
مسكين ضابط المكافحة
عندما يقف
أمامك..
أسمك “شمه”
وفضاء
حلمك
الوطن
نحاول أن نكون مثلك أمي
أعذرينا
إن قصرنا
واحد
مختطف
وآخر مطارد
والوطن.. وأنتِ باقيان
أعرف أنك لا تستجدين أحد
أعرف أنك لم تعتذري لأفعالي
عندما ربطك
مغول “البعث”
أيام الانتفاضة إلى عمود الكهرباء
أعرف..
إنه محزن أن يحقق معك رفاقي
اللذين أطعمتهم
أيام جوعهم
أعرف أنك كنتِ..
تعيلين عوائلهم
عندما ذهبوا
أعرف أنك أول من أفتتح مؤسسة عوائل الشهداء من مالك
أيام “صدام”
لم تسرقي مثل قادتنا..
ولم تتباهي
أمي أنك..
العراق الصافي
شكراً لحديثنا هذه الليلة
شكراً لأنك قلت لي
إنني كسول
ولم أعمل بما فيه الكفايه لإنقاذ أهلي
وأن “واعي”
أفضل مني
فخور بك “شمه”.
الانتفاضة الشعبانية..
انتفاضة 1991 أو “الانتفاضة الشعبانية”.. هي مجموعة من التظاهرات والاضطرابات، وعدم الاستقرار في مناطق “جنوب وشمال العراق”، وقعت مباشرة بعد “حرب الخليج الثانية”، وبدأت في الثالث من آذار/مارس لعام 1991.. وتسمى بـ”الشعبانية” لقيامها في، “شهر شعبان” من العام الهجري، وسميت من قبل “الأكراد” بـ”الانتفاضة الوطنية”.. شملت الاضطرابات قيام مواطنين عزل بمحاصرة المعسكرات، والدعوة إلى إسقاط النظام. وبعد قيام القوات العراقية بعمليات قمع للمواطنين، تحول الأمر إلى انتفاضة شارك فيها مسلحون وعناصر من الجيش العراقي، (بأسلحتها وآلياتها العسكرية)، يتقدمها “الحرس الجمهوري”، ضد عناصر من “فيلق بدر” التابع لـ”المجلس الأعلى الإسلامي” في العراق؛ إضافة لقوات “البيشمركة”، و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”، و”الاتحاد الوطني الكردستاني”، وكذلك مسلحون من المواطنين العراقيين في الجنوب.. واندلعت الانتفاضة في أربع عشر محافظة من أصل ثمانية عشر، واستمرت الانتفاضة ما يقرب الشهر، وفي أول أسبوعين كانت ناجحة، قبل أن تقمعها قوات النظام “الصدامية”.