في رحاب “السيد” .. القادم إلى البيت الأبيض ! (1)

في رحاب “السيد” .. القادم إلى البيت الأبيض ! (1)

خاص : كتب – محمد البسفي :

ها قد انتهت الانتخابات الأميركية لعام 2020؛ وإن بقيت أصدائها حائرة.. وجاء المرشح الديمقراطي، “جو بايدن”، رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية؛ وإن كان ليس بشكل نهائي.. وتبارت وسائل الإعلام والمنصات العربية، والناطقة باللغة العربية، في استباق سنواته الأربعة القادمة من ولايته الأولى بسيول من التحليلات والتكهنات من قِبل متخصصين ومعلقين؛ منطلقين من قواعد التشظي ومشاعر الانسحاق والدونية أمام “سيد البيت الأبيض الجديد” و”حاكم العالم” وغيرها من توصيفات أطلقتها نخبة عربية لم يتوقف بها جرف انسحاقها عند التهليل بمقدم “بايدن”؛ الذي سوف يعيد لواشنطن سطوتها العالمية الأولى بما يليق ومكانة قوة مسيطرة على الخريطة الكونية – بعد سياسة “ترامب” القومية/الإنعزالية الرعناء – وآمالها التي عقدتها عليه في استرداد حريات وحقوق شعوبها !!

1 – في انتخاب “سيد” العالم..

وإن كان يعلل الباحث الأكاديمي المغربي، “د. إدريس لكريني”، مشاعر الحماس والترحيب التي يبديها المجتمع الدولي، والعربي في جوانب منه، برحيل شخص “دونالد ترامب” عن البيت الأبيض؛ فمردها أن الأخير أدار سياسة بلاده الخارجية – المؤثرة بالطبع – خلال سنوات ولايته الأربعة من منطلق شعاره: “أميركا أولاً”، حيث أصدر مجموعة من القرارات القاسية، كما هو الشأن بالنسبة للانسحاب من بعض المنظمات الدولية، كـ (اليونسكو) بذرائع واهية أهمها إنحيازها ضد إسرائيل، ومن بعض الاتفاقيات المهمة كـ”اتفاقية باريس للمناخ”، و”اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهاديء”، إضافة إلى الاعتراف بـ”القدس” عاصمة لـ”إسرائيل”، ونقل السفارة الأميركية إليها، ثم قطع المساعدات عن (الإونروا)، واعتماد تدابير صارمة بخصوص استقبال اللاجئين، ومنع دخول رعايا عدد من دول العالم إلى التراب الأميركي، كما غيرت الإدارة الأميركية من سياساتها حتى تجاه حلفائها التقليديين، بعد توجهها نحو ترشيد نفقاتها داخل “حلف الأطلسي”، والدعوة المتكررة لأعضائه بتحمل المزيد من النفقات في هذا السياق؛ بل وأصبح واضحًا أن السياسة الأميركية أصبحت تعاكس بشكل واضح سياسة عدد من دول “الاتحاد الأوروبي”، وبخاصة فيما يتعلق بـ”الملف النووي الإيراني”.

موضحًا الأكاديمي المغربي؛ أنه لا يخفي الكثيرون تفاؤلهم من الرئيس الجديد، الذي بعث عددًا من الإشارات الإيجابية إلى المجتمع الدولي، وبخاصة على مستوى المساهمة في تعزيز السلم والأمن الدوليين، وفي المنطقة العربية، التي حظيت فيها الانتخابات الأخيرة بمتابعة إعلامية وشعبية واسعة، تباينت الرؤى والمواقف بشأن النتائج التي أسفرت عنها، بين التفاؤل تارة والتشاؤم تارة أخرى.

إلا ويقر “د. لكريني” في نهاية تحليله: إن “المراهنة على هذا الرئيس الأميركي أو ذاك، في السعي لخدمة عدد من المصالح والقضايا العربية، تنطوي على قدر كبير من المبالغة، وعدم استيعاب كيفية اتخاذ القرارات الخارجية داخل الولايات المتحدة؛ حيث يُعد الرئيس فاعلاً في هذا الخصوص إلى جانب عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. فالرئيس (ترامب)، لم يكن أسوأ من سابقيه، وهو ما يؤكده احتلال العراق، وفرض الحصار على ليبيا والسودان..، واستهداف عدد من المصالح في المنطقة، والتساهل مع إسرائيل في فترات سابقة”.

مبررًا الحالة الشعورية الآنية لمجتمعات المنطقة العربية، حيال انتخابات واشنطن 2020؛ بإن: “الظروف الصعبة التي تعيش على إيقاعها المنطقة العربية في الوقت الراهن، من حيث تردي الأوضاع الأمنية في عدد من الدول، وتمدد الجماعات الإرهابية في مناطق شتى، وضعف العمل المشترك، وتصاعد الخلافات البينية، ثم تباين المواقف إزاء عدد من القضايا الإقليمية والدولية، إضافة إلى الفراغ الذي أحدثه إنهيار النظام الإقليمي العربي بكل مكوناته ومقوماته، ما فتح المجال لعدد من القوى الإقليمية والدولية لتلعب أدوارًا سيئة في المنطقة.. كلها عوامل تجعل من هذه الأخيرة فضاءً مفتوحًا على كل الاحتمالات، بما في ذلك تنفيذ استراتيجيات وأجندات أميركية علنية أو خفية، لن تكون بالضرورة لصالح الأقطار العربية وشعوبها”.

ولم تكن هذه كل مبررات النخبة العربية – الممثلة لأغلب أطيافها السياسية من ليبرالية وإسلامية ويسار ليبرالي – المشيعة “ترامب” مهللة والمستقبلة “بايدن” بورود آمالها؛ بل ذهب بعضًا من محللي اليسار الديمقراطي العربي، في موجة من الطموح الساذج أو جنوح الحالم، بالتعويل على القادم إلى المكتب البيضاوي، “جو بايدن”، كممثل لجناح يساري بازغ داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، إن لم يمثله، “بايدن”، بشكل رسمي فمن المؤكد سيصبح له عنوانًا لنشاطه وتقويته.. هيأت لذلك الطموح اليساري الليبرالي الحالم بعض العوامل والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة، كان من أقربها تفاعلات التصويت الانتخابي الذي شهد نسب كبيرة لا يستهان بها من أصوات فقراء الولايات الأميركية وعاطليها وأصحاب المهن والمشاريع الصغيرة تذهب إلى “بايدن”؛ بالإضافة إلى إنحياز النقابات العمالية إليه؛ وكذا السود والملونون وأبناء الأقليات المتنوعة..

يستند الدبلوماسي الأميركي السابق، من أصل عربي، “مفيد الديك”، إلى بعض الوقائع التي شهدتها الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، صيف 2020، التي يؤكد أنها كشفت عن موجة من اليساريين التقدميين داخل الحزب؛ و”التي قد تُفسر بأنها ردة فعل مباشرة على تجربة حكم ترمب المدمرة لأميركا ومكانتها في العالم”.

مستشهدًا “الديك” بانتخابات إحدى المناطق الهامة بولاية “نيويورك” في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي؛ التي فاز بها رجل أسود يدعى، “جمال بومان”، أمام منافسه، “إليوت إنغل”، عضو الكونغرس الأميركي اليهودي المخضرم ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه وأحد أهم أعمدة دعم “إسرائيل”، خصوصًا اليمين الإسرائيلي، في واشنطن، الذي انتُخب لأول مرة عضوًا في الكونغرس العام 1989.

معتبرًا الدبلوماسي الأميركي: أن انتصار بومان “وهو الذي كان مدير مدرسة متوسطة وتربى دون أب في مشروع سكني للفقراء، يؤكد أن المشهد السياسي الأميركي قد يكون دخل حقبة جديدة، حقبة لا تكون فيها قوة المنصب ودعم المؤسسة – بما في ذلك المجموعات الرئيسة الموالية لإسرائيل والمعروفة بنفوذها الهائل على المشهد السياسي الأميركي خصوصًا لناحية سياسات الولايات المتحدة الخارجية في الشرق الأوسط – كافية لدرء التحديات الأساسية. وبدلاً من ذلك، يظهر انتصار بومان أن بناء التحالفات الاستراتيجية عبر المجتمعات الأميركية التي بدأت تتصدر المسرح السياسي في الآونة الأخيرة، ووجود مرشح كاريزمي متحالف مع حركات العدالة الاجتماعية في أميركا، يمثل تهديدًا صارخًا للحرس الديمقراطي القديم”.

ورغم ما يبديه “الديك” من تفائل، فيستطرد مقرًا بأنه: “لعقود طويلة، اتخذ المرشحون الأميركيون للمناصب الحكومية – الرئاسة، الكونغرس، حكام الولايات، الخ، الطريق الأقل مقاومة عندما يتعلق الأمر بصياغة مواقف سياسية بشأن إسرائيل. وهذا الطريق للمرشحين الذين لا يعرفون سوى القليل عن إسرائيل يتمثل عادة في العمل مع مجموعات الضغط السياسي الموالية لإسرائيل مثل (إيباك)، التي تزودهم بالكتيبات البسيطة عن كيفية صوغ برامجهم السياسية التي عليهم التعهد بتطبيقها للفوز بتأييد أنصار إسرائيل، لا في الجالية اليهودية الأميركية فحسب، بل وفي دوائر أخرى تؤيد إسرائيل مثل الإنجيليين. ومقابل ذلك، تصدر هذه الجماعات الموالية لإسرائيل بيانات التأييد لهؤلاء المرشحين وتلمعهم لدى قيادات حزبهم وتجمع لهم الأموال لضمان الفوز بالانتخابات. هذه هي طريقة عمل اللوبيات السياسية في الأنظمة الديمقراطية، شئنا أم أبينا !!”.

ليعود قائلاً: “بومان، الذي سيكون العضو المقبل في الكونغرس، خلفًا لمؤيد إسرائيل المخضرم إنغل، اتخذ موقفًا مختلفًا تمامًا عن مواقف إنغل؛ وربما عن مواقف الكثير من زملائه الديمقراطيين المؤيدين لإسرائيل، بشأن قضايا السياسة الخارجية، بما في ذلك إسرائيل. فمثلاً، يؤيد بومان بفرض شروط على التمويل العسكري الأميركي لإسرائيل تقوم على ضمان احترام إسرائيل لحقوق الإنسان في تعاملها مع الفلسطينيين، وهو الموقف الذي وصفه إنغل في حملته الانتخابية بأنه (غبي)”.

ويستمر في توضيح وجهة نظره؛ قائلاً: “إضافة إلى بومان وكورتيز وإلهان عمر ورشيدة طليب – الفلسطينية من ولاية مشيغان، التي فازت مع عمر في العام 2018، لتصبحا أول امرأتين مسلمتين تصلان إلى عضوية الكونغرس في التاريخ، هناك الكثير من المرشحين التقدميين الذين فازوا أو سيفوزون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وهؤلاء سيصبحون أعضاء كونغرس أقوياء يمكن الاعتماد عليهم، ولو جزئيًا، في إثارة النقاش حول القضايا التي تهم العرب في علاقتهم مع أميركا، أو على الأقل بطريقة أكثر موضوعية مما كان حتى الآن”.

2 – “السيد” بايدن والذين معه..

وأكثر ما تؤشر عليه كل تلك الآراء والرؤى، من أصحاب أغلب الاتجاهات السياسية، هي درجة الانسحاق والتماهي في شخص “السيد” القابع هناك في المكتب البيضاوي كمسيطر “أوحد” على مصائر الدول وشعوبها؛ أو حتى كـ”مركز إتزان” بين قوى فرعية أخرى تحاول تقاسم بعضًا من حيويته.. غير مبالية، أصحاب تلك النظرة من النخب العربية، أن ما يسوقونه من مبررات ضعف الأنظمة العربية الحالية – بكل ما تعانيه من مشاكل ذاتية من استبداد وفساد الخ – وقوة إسرائيل كفاعل رئيس مؤثر في المنطقة يتم توفير أجواء تقويتها باستمرار بتسخين المنطقة وتلغيمها بالمشاكل والكوارث – حتى الذاتية منها والموضوعية – في ظل أجواء تنمية “الإسلام السياسي”، (السُني بزعامة تركية؛ أو الشيعي بقيادة إيرانية)، يخدم ويفيد بشكل أو بآخر الرصيد الإسرائيلي المتنامي في المنطقة، من عدة أوجه من أهمها حصر الصراع دائمًا في شكله الديني البحت وإخراجه من واقعه الحقيقي كـ”احتلال استعماري لأراضي شعوب مستضعفة يتم سلبها سُبل ومصادر قوتها بشكل يومي وعلنًا”.. وجل تركيب هذا المشهد اليومي للمنطقة هو من فعل “السيد” القابع في البيت الأبيض، “والذين معه”، من مؤسسات وكارتيلات وأجهزة نجحت في تغيير مفاهيم “السيادة الوطنية” و”الوطن”؛ وشوشت معاني الاستعمار والاحتلال؛ وشوهت مباديء النضال والمقاومة، حتى لا يبقى سوى “التوحد” في شخص “السيد”.. توحد العبد في كينونة سيده !

ولكن.. بعيدًا عن القراءات السياسية للانتخابات الأميركية 2020 – وأي انتحابات رئاسية أميركية من أي مستوى إداري داخل الولايات الأميركية – والتي تعمل دائمًا على تسطيح الرأي العام – رغم ما تجتهد بعضها في رصد حقائق ومعلومات – وتُجهل عوامل أخرى أكثر تأثيرًا وفاعلية في مسار تلك الانتخابات وتحديد مصيرها النهائي، تنشط القوى المُشّكلة لدولة العمق في صنعها والتحكم فيها باستمرار..

ونظرًا للطبيعة الاقتصادية للدولة العميقة الأميركية، فالمتتبع للميكانزمية الحقيقية لانتخاباتها الرئاسية، التي تتحكم الكارتيلات الاحتكارية الاقتصادية في حركتها وألياتها، يجد أنها تشبه “السوق” في حركاته، من حركة طرح “المرشح” لنفسه عبر إحدى الحزبين فاتحًا باب التبرع لحملته الانتخابية في محاكاة للإكتتاب العام الذي يُسيطر عليه الكارتيلات التي تختار في الواقع أحد المرشحين (المعروضين على منصة البيع) لكي يتم ثقله سياسيًا واجتماعيًا وطرحه للتسويق الإعلامي والإعلاني في مراحل تسويقية تتحكم فيها بقدر الإمكان قوانين العرض والطلب، (ما يحتاجه الوطن الأميركي “كسوق مستهلك سياسيًا” داخليًا وخارجيًا) حتى تأتي لحظة طرحه لمنصة البيع الرئيسة (الصندوق) الانتخابي وتغليفه بما يليق ببضاعة قد حازت على ثقة وإعجاب المستهلك وتوصيلها إلى البيت الأبيض.

الخبير الاقتصادي، “سيد البدري”، كان أكثر تحديدًا في وصف تلك الحركية الانتخابية؛ في قوله: “بيرني ساندرز؛ انتقد الإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى مثل: (آمازون ونت فليكس وفايس بوك وتويتر وغوغل)؛ وشركات (سيلكون فالي) الكبرى، وأيضًا وول ستريت، وهي نفسها الشركات والمؤسسات التي قادت حملة دعاية تنشيطية لصالح بايدن، واستمرت في شيطنة ضد ترامب، على الرغم من أن تشريعات ترامب الضريبية كانت تفيدها، ولكنها وقفت ضد ترامب من أجل مسألة أخرى، ليس من بينها القبح والشعبوية، كما يروج تلاميذ النيوليبرالية المصرية، بل من أجل الحفاظ على نفوذها فى العالم، والذي هدده ترامب بسياسته التي تطالب بإنكفاء أميركا على نفسها، واستعادة نفوذها الصناعي وعودة أسلوب التصنيع لما قبل العولمة، ومن هنا يتضح لماذا أيدت قطاعات من الطبقة العاملة الأميركية ترامب”.

ويستمر “البدري” في توضيح طبيعة الصراع الآني: “أنه صراع بين نمطين للإنتاج.. أحدهما معولم والآخر تقليدي، ومثلما دفعت وول ستريت بنيكسون لفك روابط وإلتزامات بريتون وودز، أميركا تنتظر بايدن ليفك الإرتباط على مستوى الداخل، بالاعتماد على العولمة والقوة المسلحة لفرض إعادة الهيكلة لإحداث تراكم داخلي في قطاع الخدمات الجديدة اللاصناعية، واحتكار التكنولوجيا الحديدة في مجال الإلكترونيات الرقمية، لتكون المتحكم والقائد للصناعة الجديدة التي تغل فائض قيمة أعلى، وتترك جزءً من فائض القيمة للتصنيع، وهذا هو عنوان الفترة القادمة من الهيمنة التي تعتمد العالم للتصنيع وأميركا للتحكم في التصنيع وغل فائض قيمة مكثف، ومن أجل ذلك تم استغلال كامل تناقضات أميركا للتبشير بالعهد الجديد الذي قطع تولي ترامب سيرورته، ولهذا تم تجييش الدولة العميقة الأميركية والإعلام؛ لاستعادة الحكم ولإكمال خطة القرن الأميركي الجديد، والتي قررتها مجموعة هارفارد سابقًا”.

ويتساءل الخبير الاقتصادي: “فهل سيتحمل الداخل الأميركي هذا التحول الكبير ؟.. وهل ستستخدم مشكلات الأقليات والعنصرية، وكثير من روافد التفتيت، للتمويه على الصراع الطبقي الداخلي بين رأسمالية عصر العولمة والأجراء، بعد أن انتهى الحلم الأميركي ودولة الرفاه ؟.. أم إن اقتصاد الخدمات الجديد سيضخ نهب الخارج لكي ينتعش الداخل من جديد ؟.. أسئلة تنتظر البحث”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة