القصة التي لم تحكها “شهرزاد” .. كيف تغير رمضان العراق ؟

القصة التي لم تحكها “شهرزاد” .. كيف تغير رمضان العراق ؟

كتب – محمد بناية :

“هل تريد أن تعرف عن رمضان العراق ؟”.. يسأل “محمد” وهو يفتح متبسماً باب منزله. المنزل هادئ جداً. يضحك في وجه زوجته “حيفا” بشوق الأطفال.

“يمكنني فقط أن أحدثك عن رمضان العراق ما قبل الحرب.. ولا تسأليني عن تفاصيل تتعلق بالطعام.. فهناك من يعرف عن هذه التفاصيل أفضل مني”.

يمسك “محمد” ريموت التليفزيون ويخفض الصوت قليلاً، ويقول: “هذا ما أفسد حواسنا”، يريد “محمد” إغلاق جهاز التلفاز، لكنه يقول مازحاً: “إنها سنة العراقيين، يجب تشغيل التليفزيون باستمرار”.

رمضان العراق.. ما قبل الحرب..

أمضى “محمد” طفولته في بغداد. وكثيراً ما شارك على موائد الإفطار الخاصة بشهر رمضان وكانت عبارة عن: “كوباب وهو شراب لذيذ، وثريد وهو عبارة عن إناء أرز مخصوص، ومهلبيا وهي نوع من البودينج. يقول، لصحيفة “الدبلوماسية” الإيرانية التي اعدت تقريراً عن اجواء شهر رمضان في العراق، “كنت آخذ في صغري برطمانات المرابا الفارغة وأضع الشمع بداخلها، وأخرج من المنزل بعد الإفطار حاملاً هذه الفوانيس، وأدور بها في الأزقة المجاورة للمنزل، وأجمع الحلويات من الجيران”.

تستمع زوجته إلى القصة وتتألم: “الحرب غيرت كل عادات وتقاليد رمضان. يمكنني أن أقص عليكِ الكثير من الحكايات عن أيام تجمع الجيران مع بعضهم.. كلهم كان يجلب معه شيئاً إلى المائدة.. وكانت أمي تشتهر بإعداد “المامول” وهو عبارة عن حلوى مملوءة بالبلح”.

رمضان بطعم البلاستيك..

أذكر أحياناً كم كان عدد الضيوف كبيراً وكنا نُضطر إلى اقتراض أطباق الجيران. “كان الطعام كثيراً، ولم يكن هذا يعني شيئاً لأحد لكن المهم هو تجمعهم”. لكن عادةً ما كانت تنقطع الكهرباء لساعات طوال فترة الحرب. ولم تعد الأسر قادرة على إعداد الطعام التقليدي. وعجزت الحكومة العراقية عن توفير الاحتياجات الأساسية للشعب. وكانت جودة الأرز سيئة جداً.

تقول الزوجة: “حين نطبخ هذا الأرز تنبعث منه رائحة البلاستيك”. وفقدت الأسر القدرة على ترتيب العزومات لأن الكثير منهم إما “مشرد” أو “يقبع في السجن” أو “ميت”. تقول “حيفا” في آسف: “لم يمكن بالإمكان رؤية فرحة رمضان بين الأسر بعد الحرب الأميركية. فقد انتهت كل الأفراح القديمة، وانتهت معها عزومات الإفطار”.

ويضيف “محمد”: “طيب الله ذكرى موائد الإفطار القديمة.. كنا جميعاً إلى جوار بعضنا.. ولم يكن للهم والغم مكان بيننا. كنا جميعاً شباب وكبار نأكل معاً، ويوماً ما انتهى كل شئ”.

بهجة رمضان من التليفزيون.. إن وجدت الكهرباء..

تستغرق “حيفا” في ذكرياتها وتضحك: “لقد تغير رمضان بغداد.. لا تحتاج إلى ساعة لمعرفة وقت الإفطار، يكفي أن تنظر إلى الأطفال في الحارات يهرولون إلى منازلهم. فتخلو الأزقة من المارة تماماً قبيل الإفطار بـ10 دقائق، فيما تمتلأ المنازل بأصحابها فقط.. لم يعد أحد يقدر على السخاء حالياً.. ولم يعد لدى الأطفال قابلية للمكوث في المنزل، فما من شئ يجذبهم داخل المنزل.. لذا يفضلون الجري واللعب مع أصدقائهم بالحارة مع برودة الغروب”.

يردف محمد: “الآن يجب أن نشاهد رمضان من التليفزيون إذا كان لدينا كهرباء.. وحين يرتفع الآذان من مكبرات المساجد نعلم أنه وقت الإفطار. لا نرى جيراننا ولا أصدقاءنا.. نجلس إلى مائدتنا الصغيرة وقت الإفطار نطأطأ جميعاً رؤسنا وندعو لعودة الأيام الجميلة.. ندعو أن تحل البركة للدرجة التي تمكننا من دعوة أبناءنا وأحفادنا إلى مائدة إفطارنا. قديماً لم يكن للنوم في رمضان معنى. لم يكن أحد ينام بل نظل معاً نضحك ونتسامر حتى السحر.. هذا يحكي قصة، وهذا موعظة، وذاك يغني ويدعو بصوته الحسن. لكن الآن لدينا التليفزيون فقط يكسر صمت ليالي رمضان. لقد سلبتنا الحرب كل أفراحنا وساد شعور عام بالافتقاد”.

لقد انقرضت الكثير من عادات رمضان بسبب الركود الاقتصادي الناجم عن الحرب. “ربما تريدين الذهاب إلى المسجد للصلاة ثم تفقدين حياتك بسبب قنبلة على جانبي الطريق أو سيارة مفخخة. لذا لا يملك الكثيرون الجرأة على الذهاب إلى المساجد، ويفضلون آداء العبادة في سكون بيوتهم للبقاء أحياء على الأقل”.

الجميع يحلم بالهجرة..

ثم يتحدث “محمد” عن أحد البرامج التي تُبث هذا العام من التليفزيون العراقي: “يعرضون صور أفقر الأسر العراقية، ثم يعطونهم المواد الأساسية. يحملونهم إلى المحلات لشراء احتياجاتهم. ثم يعرضون لطرق الطبخ التقليدية التي تقدمها هذه الأسر. وبعد انتهاء رمضان يعطونهم الأموال والملابس الجديدة استعداداً لعيد الفطر. وهذا برنامج جميل بالنسبة للأوضاع الراهنة يُدخل السرور على نفوسنا ويبين أننا مازلنا إلى جوار بعضنا”.

تستذكر “حيفا” ألعاب ليالي رمضان وتقول: “كان الأباء والأعمام يندمجون حتى السحر في لعبة “المحيبس”. فيقتسمون على فريقين والفائز يحصل على الحلويات. وكنا نحن الأبناء والنساء نشاهد ونتكلم ولم يكن للضحك حدود. كنا جميعاً نعشق رمضان. لم يكن للصمت حينها مكان. كانت شوارعنا وحاراتنا وبيوتنا تموج بالفرح.. الآن تركت الكثير من الأسر بيوتهم. أذكر أنه لم يكن أحد يفكر في ترك العراق. كنا جميعاً نعشق ديارنا. لم يكن أحد يتكلم عن الهجرة. لكن الآن تجد الكثير من الشباب في الحارات والأسواق يتحدثون عن كيفية الهجرة من العراق”. لقد انتهى خيال ليالي بغداد، ولن تحكي شهرزاد قصصاً أخرى في هذه المدينة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة