عاش العراقيون، مسلمين؛ سنّة وشيعة، ومسيحيين ويهودا وعربا وكردا وتركمانا، وغيرهم من الطوائف والقوميات، عهودا طويلة في وئام وسلام. ورغم أن العرب السنّة كانوا يمثّلون الطائفة الحاكمة، خصوصا في دولة العراق الحديثة التي تأسّست في عشرينات القرن الماضي، إلا أنهم كانوا يحكمون إعتمادا على أيديولوجيات ومبادئ لا تضع الانتماء الطائفي عنوانا واضحا بل تستند إلى الانتماء العربي الذي يجمع معظم الشيعة والسنة في العراق. تغيرت هذه المعادلة مع الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 ووجد السنّة عموما أنفسهم في وضع حرج، وحتى الذين لم يكونوا يؤيدون صدام باتوا قلقين على مستقبلهم.
تبدو خارطة العِراق الدينية والمذهبية معقدة تاريخيا، أكثر مِن بقية بلدان المنطقة، فلأن هذه البلاد كانت أهم أقاليم الإمبراطوريات عبر التاريخ، وذلك لخصوبة الأرض ووجود المياه الجارية في وادي دجلة والفرات، إضافة إلى الموقع الذي يشرف على الشَّرق كافة، فوالي العِراق عادة يكون حاكم الشَّرق حتى الصِّين، فهو الذي يعين العُمال على خراسان والري والسند والهند وما وراء النهر.
صارت أرض العِراق بسبب هذه الأهمية عاصمة للعديد مِن الثورات، ثم أصبحت عاصمة الخلافة العباسية طوال أكثر مِن خمسة قرون، وخلال الوجود الإسلامي تشكلت المذاهب الفكرية واللغوية والدينية، فهذه البصرة ولدت المعتزلة والأشاعرة والإباضية، وبالكوفة والبصرة ظهر الشيعة وتفرقوا إلى فرق، ومَن يطلع على كتاب “فرق الشيعة” للنوبختي يدرك هذا الانقسام.
وعلى أرض العراق نشأت المدرسة التي عُرفت بمدرسة “أهل الرأي”، وكان الإمام أبو حنيفة النعمان رائدها. بالمقابل منها ظهرت مدرسة “أهل الحديث” في الحجاز، ومِن الأخيرة ظهرت المذاهب الثلاثة السُّنية أيضا: المذهب المالكي، نسبة إلى الإمام مالك بن أنس، والمذهب الشافعي، نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والمذهب الحنبلي، نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل، (والمذهب الرابع هو المذهب الحنفي، نسبة إلى الإمام أبو حنيفة النعمان)، قد عاشوا في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
ثورة زيدية
في البداية لم يكن الإمام أبو حنيفة مرضيا عنه، بل يُذكر أنه سُجن مِن قِبل الخليفة أبي جعفر المنصور، لأسباب لعل أرجحها وقوفه مع ثورة إبراهيم بن الحسن. وهي ثورة زيدية اندلعت في البصرة. وبعد وفاة أبي حنيفة قرب الخلفاء العباسيون تلامذته وأبرزهما كان أبو يوسف يعقوب الأنصاري ومحمد بن الحسن، فأصبح الأول قاضي قضاة، وقيل هو أول مَن شغل هذا المنصب، والثاني تولى دار المظالم.
وفقا لهذا القُرب كثر القضاة الحنفيون، وظلت الخلافة العباسية، حتى نهايتها رسميا على المذهب الحنفي، حتى أن بعض الفقهاء، في أواخر الدول العباسية، حاول إقناع الخلفاء العباسيين باستبدال المذهب الشافعي بالمذهب الحنفي، وذلك لما يوجد عند الحنفي من انفتاح على بقية أهل الأديان، ومعلوم أن الخلافة العباسية كانت مترامية الأطراف، وتشتمل على العديد مِن أهل الديانات من غير المسلمين.
جرت صراعات مذهبية عديدة، تتفاوت في قسوتها، بين أهل السُّنة أنفسهم، ناهيك عن النزاع الطائفي مع الشيعة، وذلك بفعل السياسات التي يعتمدها هذا الخليفة أو الوزير، فلما انتهت السلطنة البويهية، في أواسط القران الخامس الهجري، جاء السلاجقة، وقد كانوا على المذهب الحنفي، فاتخذوا المذهب الشافعي، وكان لوزيرهم نِظام المٌلك دور في ذلك، ولربما الأمر يتعلق بمواجهة الدولة الفاطمية، وعندها التصق التصوف بالمذهب الشافعي، وأخذ هذا المذهب في الانتشار مع انتشار التصوف أيضا، وظهر قضاة شافعيون، ومال أحد الخلفاء العباسيين إلى المذهب الشافعي، ومع تقارب الفروع بين المذهبين: الشافعي والحنفي، إلا أن النزاع كان موجودا، وعلى وجه الخصوص بالشام.
أما المذهب الثالث الذي انتشر في بغداد، وكثر أتباعه فيها، فهو المذهب الحنبلي، وهو مثل الشافعي والمالكي من مذاهب أهل الحديث، ومع ذلك حدث نزاع بين الشافعيين والحنبليين، وذلك بعد ظهور علم الكلام، واتخاذ الشافعية للأشعرية عقيدة، أو ما عُرف بالأصول، ووصل الحال إلى استخدام العنف مِن قِبل الحنابلة مع علماء الشافعية الأشعريين، الذين كانوا يُدرسون مذهبهم في المدرسة النظامية، وقيل إنها كانت تدرس وفقا لهذا المذهب، وأن العاملين فيها كانوا شافعية من إدارتها إلى مؤذّنها وخطيبها وحتى فرّاشها.
لكن المذهب الحنبلي الذي كان أتباعه، بعد وفاة أحمد بن حنبل، يصولون ويجولون في بغداد وحتى الخلفاء كانوا يريدون رضاهم لسيطرتهم على العامة، لم يبق منه شيء إلاّ قلة قليل أقامت في منطقة الزبير، وذلك بعد انسحاب هذا المذهب وانتشاره في الجزيرة العربية.
توزع أهل السُّنة في العراق على المذاهب الثلاثة، والأكثرية هم على المذهب الحنفي والمذهب الشافعي. وفي العصر المتأخر كادت الفوارق تغيب بين أتباع الشافعي وأتباع أبي حنيفة، وعلى ما يبدو حصل هذا التقارب بعد سقوط الدولة العثمانية بشكل ملحوظ، لأنها اعتمدت رسميا المذهب الحنفي، بل وتعصّبت له، لكن لم يمنع ذلك مِن اعماد فقهاء شافعية شريطة أن يحكموا أو يفقهوا بالمذهب الحنفي، وهناك إجازة في ذلك. وبأثر الدولة العثمانية ظلت الدولة العراقية رسميا على ذلك المذهب، مع وجود حرية المذاهب الأُخرى، بما فيها المذهب الإمامي الشيعي.
التجاور بين المذهبين
يتوزع الشافعية على مناطق بغداد والأنبار، أما أهل المنطقة الشمالية، أو إقليم كردستان، فهم قاطبة تقريبا على المذهب الشافعي، أما الموصل فالأغلبية على المذهب الحنفي، بينما سُنة البصرة على المذهب الشافعي. وبطبيعة الحال التجاور بين المذهبين صار ملموسا، وأية منطقة سُنية من العراق تجدها خليطا من شافعية وحنفية. أما المذهب المالكي فيكاد يكون معدوما في العراق، ماعدا أُسر لم يبق منها إلا القليل مثل أسرة آل السعدون في جنوب العراق، مع أن مسائل هذا المذهب كانت تُدرس في المدرسة المستنصرية، التي أُفتتحت في السنوات الأخير من الدولة العباسية.
إذا أردنا تحديد الكثافة السّنية نجد الأنبار وتوابعها خالصة لأهل السُنة، ومنهم الأحناف والشوافع، أما الموصل ففيها اختلاط مع كثافة سُنية حنفية، كذلك نجد منطقة ديالى مختلطة يمثل فيها أهل السُّنة نسبة غير قليلة، بل هناك قرى ومدن تكاد تكون سُنية خالصة. يُشكل هذا التركيب المذهبي المختلط عائقا أمام تبني الأقاليم على أساس طائفي، فإذا حُلت المسألة في الأنبار لتكون إقليما قائما بذاته، كونها سُنية خالصة، فكيف يواجه الاختلاط المذهبي في ديالى وفي كركوك وفي بغداد وفي الموصل أيضا.
خلاصة القول: إن وجود أهل السُّنة بمذاهبهم المختلفة كان وجودا أصيلا، رافق وجود الإسلام في العراق، وطوال القرون تعايش العراقيون، بين مسرات ومعسرات، لكن لم يستطع التنافر، الذي أساسه، في الغالب من الأحيان سياسي، أن يحذف مذهبا من المذاهب.