وكالات- كتابات:
لا تُفسد الحرب الإسرائيلية على “غزة” فقط خطة “بايدن” لمنطقة الشرق الأوسط؛ والرامية لدفع التطبيّع العربي مع “إسرائيل” ومحاصرة “إيران”، ولكنها في الوقت ذاته تُفسد خطة “بايدن” الأوسع للتركيز على مواجهة صعود “الصين”.
كان الاتجاه الأميركي نحو “آسيا” قد بدأ في اكتسّاب بعض الزخم أخيرًا بعد طول انتظار، حيث أبرمت “الولايات المتحدة” اتفاقات أمنية جديدة مع “الفلبين والهند”، ونفذت مناورات عسكرية موسّعة، ووضعت خططًا مع حلفائها من أجل الاحتفاظ بأفضليتها على التقنيات الصينية.
لكن الشرق الأوسط عاد مرة أخرى ليحتل قمة الأولويات الأميركية منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر، حين شّن جيش الاحتلال، بدعم أميركي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على “قطاع غزة”؛ منذ عملية (طوفان الأقصى)، التي قامت بها “حركة المقاومة الإسلامية”؛ (حماس).
بينما تظل “الولايات المتحدة” ثابتة في دعمها لـ”إسرائيل” في حربها ضد حركة (حماس)؛ فإنها تقول إنها تُحاول أيضًا تقليل الضرر الذي يُلحق بالمدنيين الفلسطينيين في “غزة” وتقليل نطاق الصراع الذي يُهدد بالاتسّاع في جميع أنحاء المنطقة.
ولكن يقول النقاد، بمن فيهم مجموعة من المتظاهرين المؤيدين لوقف إطلاق النار الذين قاطعوا الرئيس؛ “بايدن”، في حدث يوم الإثنين في “تشارلستون”، بولاية “ساوث كارولينا” الأميركية، إن جهود التخفيف تلك فشلت على نطاقٍ واسع، وإن “البيت الأبيض” يُشرف إما عن عمد أو عن غير قصد على مذبحة واسعة النطاق بحق الفلسطينيين؛ (ما يصل لا يقل عن: “23.210” أشخاص قد قُتِلوا بحسّب آخر إحصاء)، بما يرقى إلى تطهير عرقي فعلي لـ”قطاع غزة”، حسّبما ورد في تقرير لصحيفة (واشنطن بوست-Washington Post) الأميركية.
“أميركا” تواصل دعم الحرب الإسرائيلية وتنتقد لجوء “جنوب إفريقيا” لمجلس الأمن..
وفي جولة في عواصم الشرق الأوسط هذا الأسبوع؛ والتي شملت التوقف في “تل أبيب”؛ يوم الثلاثاء، واصل وزير الخارجية الأميركي؛ “أنتوني بلينكن”، المضي قدمًا. سلَّم “بلينكن” رسائل من نظرائه العرب إلى المسؤولين الإسرائيليين يُحثّون فيها حكومة رئيس الوزراء؛ “بنيامين نتانياهو”، على تقليص كثافة عملياتها العسكرية وتوسّيع المساعدات الإنسانية للسكان الذين مزقهم الجوع والمرض.
وأكد “بلينكن” دعم “الولايات المتحدة” للحملة الإسرائيلية وتجاهل المبادرة التي قادتها “جنوب إفريقيا”؛ في “محكمة العدل الدولية”، والتي تتهم “إسرائيل” بارتكاب إبادة جماعية ووصفها بأنها: “لا قيمة لها”.
إدارة “بايدن” قلقة من تخفيف إسرائيل لوجودها في غزة وتحولها لإشعال حرب بلبنان..
ويُخيّم على رحلات “بلينكن”؛ هذا الأسبوع، قلق إدارة “بايدن” من احتمال تصاعد الحرب على المستوى الإقليمي. ربما تقوم “إسرائيل” بسّحب بعض قواتها من “غزة” – رُغم تفاقم الخسائر في أرواح الفلسطينيين – لكن التوترات تتصاعد على حدودها الشمالية مع “لبنان”، حيث انخرطت القوات الإسرائيلية في تبادلات يومية لإطلاق النار مع جماعة (حزب الله) المسلحة.
ونقلاً عن مسؤولين في “البيت الأبيض” و”وزارة الخارجية”، فإن: “خطر قيام إسرائيل بشّن هجوم طموح على (حزب الله) لم يختفِ مطلقًا، ولكن كان هناك قلق أوسع بشأن التصعيد في الأسابيع الأخيرة، خاصة مع إعلان إسرائيل عن السّحب المؤقت لآلاف عديدة من الجنود من غزة في 01 كانون ثان/يناير الجاري – وهو قرار قد يوفر الموارد لعملية عسكرية إسرائيلية في الشمال”.
“أميركا” تُريد دورًا للسلطة والدول العربية في “غزة” بعد انتهاء الحرب..
ثم هناك السؤال حول ما سيأتي بعد ذلك في “غزة”. ويدفع المسؤولون الأميركيون باتجاه سيناريو ما بعد الحرب الذي من شأنه أن يشهد مشاركة واستثمارات جوهرية من جيران “إسرائيل” العرب، وعودة الحكم الإداري الفلسطيني غير التابع لـ (حماس) إلى “غزة”، وإحياء المسّار السياسي لحل الدولتين.
وفي كل هذا؛ تواجه إدارة “بايدن” عقبات من داخل ائتلاف “نتانياهو” اليميني المتطرف. لقد أمضى رئيس الوزراء اليميني معظم حياته السياسية في تقليص احتمالات “حل الدولتين” وعاد إلى السلطة مع حلفاء يمينيين متطرفين يرفضون صراحة أي حديث عن إقامة “دولة فلسطينية”.
ويؤيد هؤلاء المزيد من الاستّيطان اليهودي في “الضفة الغربية” وحتى في “قطاع غزة”؛ الذي مزقته الحرب. إن الخطاب القادم من داخل “إسرائيل” جعل محاولات “الولايات المتحدة” لوضع خطة إقليمية لتهدئة الأزمة أكثر صعوبة.
“نتانياهو” يبدو أنه سيخضع لوزرائه المتطرفين الذين يريدون إعادة احتلال “غزة”..
لا تزال الفجوات بين الإسرائيليين والقادة العرب واسعة، حيث يدعو أعضاء اليمين المتطرف في حكومة “نتانياهو” إلى التهجير الجماعي للمدنيين من “غزة”، ويرفضون الدعوات الأميركية لإقامة سلطة فلسطينية: “متجددة ومنتعشة” لتلعب دورًا في “غزة” ما بعد الحرب.
ويُشير أحد التحليلات إلى أن “نتانياهو” يخضع للقوى التي ستُبقيّه في السلطة – على وجه التحديد، مثيري الشغب اليمينيين المتطرفين مثل وزير الأمن القومي؛ “إيتمار بن غفير”، ووزير المالية؛ “بتسلئيل سموتريتش”.
وكتب “عاموس هاريل”؛ في صحيفة (هاآرتس-Haaretz) الإسرائيلية: “هذان العضوان اليمينيان المتطرفان يعملان باستمرار على تأجيج الخلافات بين إسرائيل وأميركا؛ ويؤججان نيران الاستقطاب في إسرائيل. ويبدو أن نتانياهو أسيرٌ لهما”.
يُريد استمرار الحرب لفترة طويلة..
وأضاف “هاريل” أن شهية اليمين الإسرائيلي لتحقيق أقصى نصر، والسياسة الداخلية الأوسع في الوقت الحالي، قد تعني أن “نتانياهو”: “لديه مصلحة واضحة في جعل الحرب في غزة تستمر طوال العام المقبل. ومن الصعب دحض المخاوف الأميركية من أن نتانياهو قد يُفكر هذه المرة، وظهره إلى الحائط، في مزيد من التصعيد على الجبهة الشمالية”.
وكان “نتانياهو” قد كرر مؤخرًا تأكيده، أن الحرب التي تُشنّها “إسرائيل” على “قطاع غزة”: “ستسّتغرق عدة أشهر أخرى”، وذلك يوم الأحد 14 كانون ثان/يناير 2024، قبل تصويت مجلس الوزراء الإسرائيلي على تعديل ميزانية عام 2024؛ لتتواءم مع متطلبات الحرب.
لا يُفسد فقط خطة التطبيع بل يُعرقل رغبة “واشنطن” في التفرغ لـ”الصين”..
وهذا بعيد كل البُعد عن الشرق الأوسط الذي كانت إدارة “بايدن” تأمل في رؤيته خلال فترة ولايتها. لقد تخلى “البيت الأبيض” عن الكثير من أجندته المتعلقة بحقوق الإنسان في المنطقة لصالح إعطاء الأولوية لتطبيع “إسرائيل” للعلاقات مع “المملكة السعودية”.
إن الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والدفاعية التي ستُنّتج عن هذا التقارب الرسّمي ستُساعد، في أذهان العديد من صناع القرار في “واشنطن”، على تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وتسمح لـ”الولايات المتحدة” بتحويل تركيزها نحو منطقة “آسيا والمحيط الهاديء” والتحديات الشائكة التي تفرضها “الصين” هناك.
لكن استفزازات اليمين المتطرف الإسرائيلي والحجم المدمر للحرب في “غزة” تُجبر المحادثات الصعبة على العودة إلى الطاولة – بما في ذلك الاعتراف بأن الافتقار إلى الحقوق السياسية والمدنية لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي لم يُعد من الممكن أن يُصرَف النظر عنه.
بعد اجتماعات في “السعودية” مؤخرًا، قال “بلينكن” للصحافيين إن “الرياض” لا تزال مهتمة بتطبيّع العلاقات مع “إسرائيل”، لكن ذلك: “سيتطلب إنهاء الصراع في غزة، وسيتطلب بوضوح أيضًا أن يكون هناك مسّار عملي لقيام دولة فلسطينية”.
وفي مقابلة يوم الثلاثاء مع شبكة (BBC) البريطانية؛ أشار “خالد بن بندر”، السفير السعودي لدى “بريطانيا”، إلى اليمين الإسرائيلي باعتباره عائقًا أمام المصالحة السياسية. وقال: “المشكلة التي نواجهها اليوم مع الحكومة الحالية في إسرائيل هي أن هناك وجهة نظر متطرفة ومطلقة لا تعمل على التوصل إلى تسّوية، وبالتالي لن تتمكن أبدًا من إنهاء الصراع”.
وفي الوقت الراهن؛ لا يزال “نتانياهو” وحلفاؤه يتمسَّكون بموقفهم. ويؤكد المحللون أن مسّار الحرب والتوترات الإقليمية المتصاعدة قد تصب أيضًا في مصلحة عدو “نتانياهو” اللدود، “إيران”.