خاص: كتب- يوخنا دانيال
فلم المخرج “دارين آرونوفسكي” الأخير .. الأم! .. مثل أفلامه السابقة المثيرة للجدل.. يتحمل تفسيرات عديدة على مستويات متعددة.. لكن الجدل هذه المرة أكبر بكثير.. إذ اختلفت وجهات النظر في الفلم .. وتشتت التفسيرات لمضمونه ورسالته.. لكن رؤية المخرج هي الأهم بالطبع.. ولهذا تدخل “آرونوفسكي” كي يفرض تفسيره الخاص.. خشية من ضياع رسالة الفلم.. وكذلك الابتعاد عن أسلوب بنائه المتفرّد.. الذي حيّر الناس في الأسابيع الأولى..
وربما كان الفلم يعاني من بعض الغموض إلى ما بعد منتصفه.. وقد يحتاج إلى مشاهدة كاملة.. كي يستطيع المشاهد فهم الأحداث ووضعها في السياق الصحيح.. أي يحتاج إلى الصبر.. وعدم القفز إلى الاستنتاجات والتفسيرات المباشرة.. الفلم يعتمد على ممثلين من الصف الأول.. خصوصا “جنيفر لورنس” و”خافيير بارديم”.. إضافة ل”ميشيل فايفر” و”ايد هاريس”.. الذين يؤدون أدوارهم جميعا بانضباط عالي.. كي لا يخرجوا عن السياقات المرسومة بدقة.. لأن التمثيل يتداخل جدا مع بناء الفلم.. لإيصال الرسالة المطلوبة.. المبنية على سياق يبدو (غير معقول) أو غير منطقي في تفاصيله.
ولندخل إلى فكرة أو رسالة هذا الفلم.. غير المحبوب.. الذي أثار اللغط. باعتقادي إن فلم ماذر! أو الأم! .. هو هجاء شعري، رمزي، وصوري.. هجاء يستعير الميتافورات أو المجازات الدينية ويستلهمها.. ويجعل الأم الطبيعة أو (الطبيعة الأم) .. طرفا أساسيا في اللعبة اللاهوتية.. لا بل يجعلها الشخصية المركزية.. التي ننظر من خلالها.. ونتابع أحداث الفلم أو الحكاية حسب وجهة نظرها.. إذ أن الطبيعة الأم.. سئمت وقرفت من الخليقة ومن الآلهة أيضا..
نحن نسمع صوت الطبيعة الأم لأول مرة.. الفلم يعيد لها الاعتبار .. وكذلك يعيد الاعتبار إلى المرحلة الأمومية في تاريخ البشرية.. لأن الآلهة.. أو بعبارة أخرى.. الأديان الإبراهيمية حصرا.. لم تستطع أن تغير حياة الناس أو تجعلها أفضل.. بل أنها أدت إلى ممارسة عنف أكبر .. عنف مقدس وشمولي.. وحسب الكتب المقدسة فإن الأديان الثلاثة تشترك بهذه الرموز والشخوص.. لكن هذه الأديان وتفرعاتها أيضا.. جميعها في نزاعات وحروب لا تتوقف.. حول بقعة مقدسة.. القدس مثلاً!
والحقيقة.. أن التفسير الديني أو الهيكل الديني للشخصيات والأحداث في الفلم . يتحكم في كل شيء.. لكن بما إن “آرونوفسكي” المخرج/المؤلف.. إنسان علماني علموي التفكير .. فهو يلاحق الطبيعة أولا وأخيرا.. يلاحق دورة الخصب في الطبيعة.. يلاحق نزيف وتفجرات الطبيعة.. في مواجهة الشاعر الكبير .. الذي رفعه المعجبون إلى مصاف الآلهة.. هؤلاء المعجبون الذين يخربون الطبيعة دائما.. من أجل مصالحهم.. من أجل ملذاتهم.. وشرورهم.. ومن يعرف العهد القديم والفكر المسيحي.. سيفهم الفلم بسهولة أكبر.. لأن الفلم يتبع نفس المخططات الدينية إلى حد كبير.. ولا يمكن الوقوف عند التفسير المباشر أبدا .. إذ لا يمكن إطلاقا تفسير الفلم على المستوى السطحي.. لكن على المستوى الغيبي اللامعقول فقط .. مثلما أن الأديان هي نوع من (اللامعقول).. الذي يتطلب الايمان فحسب!
وأخيرا .. نعترف أن رسالة الفلم ليست سهلة على الفهم.. فهذا ليس كتابا يوضح الأشياء.. إنه فلم وله حدوده الإبداعية..
لكن “آرونوفسكي” الذي لم نرض على تناوله لنوح.. كان هنا أكثر توفيقا.. بعدم الاعتماد على الأحداث الإنجيلية المباشرة.. بل على استلهام الشخوص المركزية في سفر التكوين.. في العهد القديم.. وكذلك العهد الجديد.. وربما يقترب هذا العمل من المسرح كثيرا.. إذ هناك التركيز والتكثيف والمكان الواحد الذي يحكم العمل.. والأبطال القلائل.. والمجموعات البشرية الدينية والطائفية.. في النهاية .. أنا أنصح الجميع بضرورة القراءة قبل وبعد الفلم.. وتكوين آرائهم الخاصة لاحقا..