خاص: كتبت- إيمان عبد الحسين
كاتبة ومترجمة- بغداد
إذا افترضنا مسبقا أن الحذف والإثبات هما تقنيتان تلازمان أي عمل إبداعي، ولاسيما الشعر الذي نحن بصدد تناوله هنا، فحسب اعتقادي لا يجوز بأي حال من الأحوال للشاعر طرح كل ما يريد قوله في مجموعة شعرية واحدة، مرد ذلك إلى تعذر سعة المساحة المتاحة، إذن فهو يختار من الأحداث ويقتطع منها ما يتفق مع التفصيلات التي يريد توصيلها.
وأننا إذا ما تمعنا في مجموعة الشاعر نصير الشيخ (شجر من محنة الوقت).. نرى أن مفردة الوقت طاغية ومهيمنة، بدأً من العنوان الذي هو المفتاح الأول للنتاج الشعري، مرورا بمتن القصائد، نرى أن الوقت الذي يوظف وفق رؤيا فنية يتداخل فيها الواقع مع الخيال، يقتطعه الشاعر من زمن الوطن الواقع تحت نير الحروب والحصارات وحكم الطغاة، فالشاعر الذي يقلب دفاتره بما تحوي من أحداث وشخوص ليطرحها أمام القارئ، يؤثث لزمن الحرب حضوره الفعلي في اغلب القصائد.
/أنام بأغطية الحرب قصيدة (طاعن في الرخام)/ نثرت بقاياه عند الحدود شظايا الحروب الكسيرة (قصيدة (صنوبر بهي) /إن لي وطنا يقطر حربا منذ أول رمح قصيدة (حروف الملاك)/ تعلق مجدك فوق دخان الحروب قصيدة (رمال)/ هكذا أنت لا تاريخ يمجد حروبك قصيدة (خرائب العاشقة)/ للمقابر وهي تمد وسادة رمالها لتغفو عليها ضمادات الحرب.. قصيدة (خريف مؤجل).
إن هذا الزخم الذي أعطى مرتعا خصبا لتفعيل حركة الزمن يستمر منهمرا شاغلا مساحة كبيرة من المجموعة البالغ عدد صفحاتها (98) إذا ما حاولنا ملاحقة العبارات الموظفة في الخطاب الشعري والمفردات التي ترسم أفق الزمن وفق المسارات التي اتخذها الشاعر في الاعتماد على صورة الوطن مباشرة وترميزا، فإننا سنقتطع من المجموعة هنا الكثير من الأبيات كي نستدل بها عليه:
(استظل الساعة بسقائف الندم/ في الصباح الكسول/ تتكدس عندي الليالي/ قصيدة (طاعن في الرخام) يدخن الماضي بأصابع مرة/ يعيد تكرار السؤال/ عن الوقت/ جيش النمل الذي التهم ممالكه /يفترش رخو أيامه/ صديقا للمقابر أضحى/ يملأ النهار بأنفاس أحلامه المائزة/ يشطب التقويم، ويقيم ذكراه الحزينة/ يكسر الزمن المندلق من ساعات غرفته/ فيسيل بطيئا/ على وسائده الداكنة/ وجدته الفراشات ذات صباح/ تشرب من دمه الأزهار قصيدة (صنوبر بهي)..
قصيدة( حروف الملاك)/ تسجية الصباح على الأنهر الغريبة/ ليلي المتخثر بالشعر والدمع والأغنيات/ قصيدة (تكايا الوجد) /الصباحات جعلتها تسبح في حمدك/ أجبك الساعة عن نفسك/ قصيدة (جنرال) تحت رماد القنابر/ أيامه البائدة تستعد/ وتلقي عليه/ رماد التحية.. قصيدة (غصن آس) /بدموع لامعة/ تطرز أيامها الغائمة/ وبصبر مرير تحوك عمرا أفل/ صباحا تمسح غرة الفجر/ كي يتدثر آباؤها بافياء أحلامهم/ وحين يهبط المساء/ في محاق العمر/ عند تلول بقايا السنين قصيدة (ذكرى أبدية) /الأيام معتقة تقعى على رفوف حجرتك الرطبة.. قصيدة (أقاصي) /الذين اندلعت من صباحاهم أساطير/ وغفت مساءاتهم على كوانين شتاء/ يستضيفون ليل سمر طويل/ يوقدون فجر فحولتهم/ يلمع صيف بشفير مناجلهم/ يقطعون سرة الوقت قصيدة ( رمال) /كامير مخلوع/ تقشر صمته السنواتُ/ وأيامه تمضغها الأدعية/ لبعيد بعيد/ تسحبه الخلوات/ لأقبية الزمن الخائرة/ كأمير مخلوع/ تقشرك السنوات/ وتضمك الغيمة الهاطلة).
تأسيسا لما سبق نرى مدى مواطن التلاقي بين الحروب والموت، وصلاتها الكثيرة في كل ما يحدث في الوطن من مآسي، وما لهذه الصلات من تأثير أو تأثر على الذات الشاعرة، فحتما حينما تكون الحرب هي الفاعل الأساسي على الأرضية المطروحة، يكون المكان والزمان مرتعا خصبا لمشاهد نطل منها على الموت والقتل والدمار، وعلى أثر هذه يتشكل هذا الوقت بطيئا ومثقلا بالأوجاع والهموم، والشاعر نصير الشيخ الذي يسعى إلى طرح رؤيته هذه يركز جهده على طرحها بشتى الطرق، مباشرة من جهة، ومن جهة أخرى بصورة ضمنية، من خلال إسقاط أبعادها على القيم والمضامين والمدلولات من خلال المفردات والمكونات التي تعد مرجعيات يستمد منها الشاعر مادته التي تلتحم داخل النص الشعري، التلاحم الذي يفضي إلى وحدة عضوية، تتجه نحو ثيمة زمن الوطن الذي نتلمس صداه في كل ركن وهذا ما تؤكدها جل الصور التي طرحها الشاعر والذي من أجل جلاء جوانبها والكشف عن مصادرها لا يتوانى إلى نسب فعل الحروب إلى الطغاة الذين فجروها:
(مفتتحاً بالوهم
سور الخراب..
من طين يدي
منهمرا في النشيج
ومنكسرا في الغواية)
قصيدة (طاعن في الرخام).
(يحتسي كأسا من الوهم
يندلق الموت من شفتيه
يغازل أرنبة البندقية
باردة كالهزيمة..
ممالكه وأمجاده الساخرة
جزمته،
صولجان الفتوح بأحراش أمعائنا
والتلال البعيدة
محض مقابر.
قصيدة (جنرال)
كأمير مخلوع
تقشرك السنوات
وتقضمك الغيمة الهاطلة
قصيدة (رمال).
لمكاتب البريد الملغمة بالذكريات المرة
وبرقيات التعازي
للراحلين وأنا أعزيهم بآخر دمعة سقطت
من نشيدي
فواريتها الثرى في جنائز أيامهم
قصيدة (خريف مؤجل)
وما يلاحظ أنه وفق الرؤى الخاصة للشاعر الذي جعل للذات الشاعرة قدرة الاستماع وقدرة على التبص/ تبصر الخارج من الداخل/ الشاعر الذي عايش زمنا موجعا كنتائج لوطن عاش تجربة الحروب كانت قصائده شديدة الثراء بالعناصر التي ترفده بالصور، التي كانت عين الشاعر تتحرك أشبه بآلة التصوير التي تسجل ما تراه جديرا بالتصوير، لقد كانت الكاميرا تصور سلسلة من الأحداث والشخصيات التي ثبتتها الذاكرة والتصقت بها، إذ أن ما بين الحقيقة والخيال اجتهد الشاعر في أن يستفيد من فنون مختلفة غير الشعر، فهو اقتبس واستفاد من مزايا تقنيات التصوير، فالشاعر الذي كان يبغى ترسيخ الذكريات ويصونها من التلاشي حاول استثمار عناصر الكاميرا لتصوير اللحظات والزمن الذي يضم الأهل والناس المحيطين الأب، الأم، القرويون..
(إليك يا أبي/ أيها الذاهب في نزهة للأبدية/ تفترش الرمال الساخنة/ تقرأ سورة الحب/ وتنام مليا/ على حدقات الأرق).. قصيدة (صنوبر بهي).
كل هذه تشكل عناصر تكوينية داخل زمن هذا الوطن التي جعلت من دور الشاعر يتداخل ويتمراى في النص الشعري والذي استطاع من خلالها تشكيل ذاته داخل فعل الكتابة، أي بعبارة أخرى الأحداث والشخوص التي تنعكس بدورها على ذاتية (الذات الشاعرة) وهذا ما تؤكدها أغلب الصور التي تطرحها المجموعة على اختلاف تنوعها.. فمن يتأمل القصيدتين، قصيدة (حروف الملاك)/ هكذا تشير أصابعك قطع الحلوى/ لصورة باسمة على الجدار المتهدل وقصيدة/ (محنة الوقت) (لزنبقة أيعنت جرحتها الشظايا/ بأصابع تيبست من فرط غربتها/ وقلب لا يسعه حزن الكربلاءات/ علقت صورته/ على حائط متهدل) يدرك صدق هذا الانعكاس الذي يجمع بين القصيدتين اللتين تكونان خليط من الصور المتشابهة في الخارج والمتناقضة من الداخل فليس من قبيل المصادفة أن تكون كلا الصورتين معلقتان على حائط متهدل، مما يكون هذا ترسيخا وكشفا للمتلقي عن مدى الألم والمعاناة الذي تعاني منهما الذات الشاعرة.
الأمر الذي يؤدي إلى اتساع الرؤية والإسهام في توصيل الصورة التي يريد الشاعر تصويرها والتي لا يمكن تجاهلها خصوصا أن علامات حضورها راجع إلى تكرارها في كلا القصيدتين وأن هذا المزج بين الصورتين يحقق للنص الشعري القدرة على تأكيد الدلالات المشحونة فيه، كما يدل أن الرؤية لم تكن مسلطة على ما في داخل الصورة فقط، وإنما على خارجها أيضا. صحيح أن أهمية ما يجري هو ما يكون بداخل الصورة ولكن العلاقة ما بين الصورة والحائط (المعلقة فوقه) ليست بعيدة، إنما قريبة بدرجة ما يتيح الانتقال اليسير بين ما في داخل الصورة وما في خارجها، كما أن إضافة إلى الصورة من خارجها، استطاع أن يشحذ عناصر التعبير فيها إضافة إلى بثها من الثنائيات الضدية لاسيما ما تنطوي عليها قصيدة (حروف الملاك) التي تجمع ما بين داخل/ باسم وخارج/متهدل.. والتي تشترك بالثنائيات الضدية مع الصورة التي تحملها قصيدة (صنوبر بهي) (كل ورقة/ صورة محنطة بوسامتها/ لشهاب خر ذات يوم/ في حومة الدجى).
وأخيرا لا بد من الإشارة أنه رغم ما تحمله مجموعة الشاعر نصير الشيخ من الوجع والألم والحزن، فإنه لا ينفي أبدا أن القارئ يستطيع أن يلمس فيها بصيص من الأمل والصبر يتمثل بالبيت التالي من قصيدة (حروف الملاك) (سأشتري شمسك/ بانطفاء قناديلي على سياج بيتنا/ وأعمر قامتك/ بانحناء عكاز أحلامي/ على شجر/ لا يموت).
“شجر من محنة الوقت”، شعر، نصير الشيخ، دار الينابيع، سوريا، 2010 ط1