11 فبراير، 2025 11:33 م

ممازحــة الألم.. قـراءة في المجموعة الشعرية “منشغلةٌ ٌحد الأمهات”

ممازحــة الألم.. قـراءة في المجموعة الشعرية “منشغلةٌ ٌحد الأمهات”

 

 

خاص: كتب- نصير الشيخ

كاتب وناقد عراقي

1

ــ كيف يمكننا استخلاص (معنى) من كمية القول الشعري، واعتماده (جوهر) بعد إزاحة كمية (الشجن) وما يستتبعه من عواطف تحمله الجملة الشعرية، وبالتالي الوصول إلى المجال الخاص للشعر.. وهنا تحضر التجربة بعد مكابداتها ونظرتها إلى العالم وتحولات رؤاها، كي تضعنا في مدار الشعر الذي نريد.

في كتابها الشعري الجديد ((منشغلةٌ حد الأمهات)) والصادر عن دار قناديل للنشر والتوزيع 2018  بطبعته الأولى.. تطالعنا الشاعرة ((نجاة عبد الله)) بنص طويل، اتخذ معماريته كمصفوفة شعرية تشابه نشيدا سومريا كتب على الواح طينية، هو حصيلة تجربة (فَقدْ) واجهتها الشاعرة،ولأن ((النص الشعري عمل تخييلي، وأن المتخيل رغم تصور البعض أن لا علاقة له بالواقع، ولكن العكس صحيح فإن إشاراته كثيرا ما ترمي إلى الواقع وتعاينه)) الناقد ماجد الحسن/ تجليا النص.

العنوان هذه المرة هو من قادنا إلى الشكل الكتابي الذي أنجزته نجاة عبد الله بدءً من الإهداء (إليها بلا جدران) وحتى نصها الأخير، وعلى مساحة (110) صفحة، تتلو علينا نشيدها الروحي المشبع بالألم والمتبل باستيهامات الفقد والخازن بين جوانحه ذكريات لا تحصى، كلها تحولت بفعل الإحساس المفرط من جهة والطاقة التعبيرية من جهة أخرى، إلى صور شاعرية اكتنزت بتدفق مبهر.. هذا التدفق الشعري الذي يخالطه حزن كبير ليس فقداً ل(الأم) الثاوية في قبر، وإنما ل(وطن) يحضر هنا بكل تفاصيله منذ حروبه وحتى تخوم مستقبله المجهول. ذلك أن متوالية من الخسارات تشكلها محطات من حياة الذات الشاعرة. وما موت الأم التي تسامت روحها فقد تركها أمام سؤال وجودي مبهم…

((سأكون منشغلة حد الأمهات / بغفران أدرد / وأبواب آيلة للوطن)) ص10.

من هنا تحضر مفردة (الآلام) لأكثر من مرة في انسياحها الدلالي الرامز لعذابات (يسوع) وهي تتلبس ذات الشاعرة لحظة وصولها نقطة صفرية إزاء لحظة (الموت) الذي وقفت بين يديه، الموت هذا الغامض الواضح الفاجع بظلالهِ السود وانخطافه السحري.

2

تفاصيل حياة لا تغادر عوالم الشاعرة في نهاراتها وليلها وربما أحلامها، كأن هذه التفاصيل ترقد جوارها على السرير، تشير إلى الفقد وتؤثث عالم (القصيدة /الأم)، تأتي هنا في سياقات شعرية حاملة كمية عالية من أسى على مستوى محمولاتها النفسية والشعورية، وانزياح باتجاه دلالات آخر على مستوى اللغة في أقصى استخدامها…

((أحتسي القهوة / وأتفقد عنبر أمي وبخورها / تربة الصلاة / ضحكتها في العلبة / وقفتها على التنور/ مفاتيح خزنتها / دعاء الصباح / وأوراق متناثرة من سورة الدخان)) ص120.

استدعاءات مفردة (الأم) أحال الذات الشاعرة لجعلها محورا تدور معها الأشياء جميعها، انطلاقا من التكثيف الشعوري لهذه الذات، وبما يشي من توالد وتواتر لهذه المفردة ويكمل محمولاتها الشعورية واللغوية والدلالالية لتكتب (تاريخ) جديد على وفق ما تحصل من انثيالات خاصة ورؤى على حد سواء أغرق الذات الشاعرة في عوالم حلمية وهي تفقد الإمساك بهذا الوجود البشري الصائر إلى زوال.

(( صرت خريفا بلا أمهات

والأمهات يلدن البكاء

تدلى الليلُ كأنه أمهات على الباب

في السوقِ الشعبي أتسولُ الأمهات

كلما لأمست وجهك أنزرع بالأمهات

مابال الليل يلسعني كلما نودي للأمهات ..)).

3

الوقوف أما فعل الموت وفي لحظته الحرجة يمكن الذات الشاعرة من استخلاص موقف وجودي لا تسعفه غير الكلمات، ذلك أنه يخلخل نسقية النظر إلى ما يجري وبالتالي يترك الذات تتساءل عبر ارتجاعات الماضي كتسلسل كرنولوجي وإلى المستقبل كصدمةٍ بحاجة إلى وعي لعبورها، وهنا فصل المقال ((عندما تكون أمام أمر خطير، لا تبكي… لا تضحك… بل فكر!!)).

لنلحظ هذا التحول الشعري والوجودي في هذا المقطع الشعري لنجاة عبد الله:

(( أضحكُ كالحمقى وأنسل وحيدة / أنتِ في الوطنِ وأنا في القبر/ أمسك بطرفِ الحجارة وأصرخ كعاقلةٍ / سبحان الذي أنام الأمهات / وترك النجاة على الأبواب)).

نقف عند تسمية (النجاة) فهي مرة تشير إلى توصيف الاسم ونعني الشاعرة (نجاة) ومرة ينعطف على فعله الدلالي عبر استخدام الجملة حاملة (النجاة على الأبواب) لانتظار فعل مستقبلي مبشراً بمعاني الرحمة والرجاء الآلهي لغرباء هذا الوطن.

(( منشغلةٌ حد الأمهات)) أحسبه كتاب شعري لا مجموعة قصائد، ذلك أنه مصفوفة كتابية حملت بين دفتيها وجع آسر ورؤى مكتنزة بالشعر الذي هو خيارنا كي نكون، ودونت فيه تاريخ عائلة وسردية وطن مثخن بجراحه، ذلك أن الشعر سيبقى هو الشاهد والشهيد.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة