18 نوفمبر، 2024 11:43 م
Search
Close this search box.

“مقدر ومكتوب” قصة قصيرة

“مقدر ومكتوب” قصة قصيرة

كتبها: محمد فيض خالد

كَانَ يوم مَولدها يومَ ابتهاجٍ وفَرح، هَرولَ خَالها “حسان” يُبشِّرُ والدها في الحَقلِ بمجيئها، أتت بعدَ ولادةٍ عَسيرة، ظنَّوا جَميعا أنَّها النَهاية لأمها المسكينة، التي نَازعت آلامها المُبرَحة لليلٍة كَاملٍة، فلمَّا وضَعتها أنثى، هَالها حُسنها ووضاءة وجهها، وابتسام مُحيَّاها المُشرق، الذي استقبلت بهِ الدُّنيا هانئةً مُطمئنة، ضَمَّت الأُم النَّفساء قطعة اللَّحم في قمِاطها  وهي تُمتمُ داعية الله أن يحفظَ عليها ابنتها، وأن يَجعلَ حَظَّها من السَّعادةِ وافر.

أمَّا الأبُ،  فكانت سعادته غامرة، نَجت الأم، ورُزِقَ بفتاةٍ لا يُضاهيها في الحُسِن مثيل، تَعلَّقَ بها، لتتربى في حِجرهِ وتَدرج بينَ يديهِ، يَرى فيها أنفاسَ الحياة وإشراقها، وترى فيهِ الُحنوّ والرَّحمة، كَانَ عند عَودتهِ من الَخارجِ يُبادر بالسُّؤالِ عنها، فتتلقاهُ بيدين مُشرعتين وقبلات تَغمره غَمرا، وأصابع دقيقة تتَخلل شعرات ذقنه الثَّلجية في طُمـأنينةٍ وارتياح، كبرت “صباح” وكَبرت معها شفقة الأب  الحَاني، الذي يَعي جيدا أنَّ لهذا الجمال حَتما نصيبه من الفتنةِ والشَّرِ، خَاصةً في الرِّيفِ ووسط الفلاحين، وتَحاسدهم الذي لا تخمد نيرانه.

مُبكِرا تَمشَّت دماء الأنوثة طازجة فيها، وتَألَّق  شعاع الحُسن في وجهها الأبيض الصَّبوح، حَتَّى بدت مُتفتحة كزهرة، شهية كرحيقِ الفجِر المُعبَّق، وفوق هذا وذاك مسَّها طائفٌ من العَقلِ فزانها، وصَانها عن الخَطلِ، واكسبَ لسانها حلاوةَ منطق، ودفئ مشاعر، وعذوبة إحساس، فجعلها مصدر سعادة لمن حولها، ما إن تهل حتى ترصدها العيون بالبِشرِ، وتنشرح لها النفوس بالَفرح، مَرَّت الأيامُ واستوت الأنثى على سُوقها، وازدانت كأروعِ ما تكون امرأة، حَباها الخَالقُ تفاصيل الفتنة، الجسد اللَّين، والعود السَّمهري، واللَّواحظ السَّاحرة التي تشعلُ حرائقَ القلوب كأسهلِ ما يكون.

حاصرتها أفئدة الخُطاب تَتشهّى الارتباط بها، ومن قبلهم جميعا ابن عمها “مرعي” الذي لم يتَوقف عن خِطبتها من أبيها، الذي بَالغَ في تمنّعِه، خاصةً وهو يرى من الفتاة الصَّد والانزعاج، ومن الفتى العبثَ وتلف الأخلاق.

تَوزَّعت الفتاة فترةً بين البيتِ والمدرسة، وعرفت طورا طريقها للحُقولِ تتَنزَّه وتَتريَّض، تُطالِع في بَراءٍة كتاب الحُسن المفتوح، تَمتلئ نفسها حُبَّا في الحَياةِ وتَعلُّقا بالمستقبلِ البَاسم، لم يكن “مرعي” بمنأى عن صَيدِه الثَّمين فهو مُنجذبٌ إليه بكليتِه، في تَصميمٍ على ألَّا يفلته مهما كانت الكُلفة، فمع جمالها الخَلاِّب، سيفوزُ حَتما بثروتها الطَّائلة، فهي صَاحبة العّز من بعدِ والدها، لكنَ غَابَ عنه أنَّ للقلوبِ أحكام.

لم يتوقف يوما عن السَّعي وراء حِلمهِ الأثير، لذا لم يَتوّرع عن تِردادِ عباراتِ الغَزلِ، ووصلات الهيام السَّخيفة، يَعرضُ نفسه فيها آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهاِر على الفتاة، التي كَرهت فيه جرأته وانفلاته، وتَعقبّه لها في خلواتها دونما سابق موعد، ضَاقت به ذَرعا، ولم تفُلح توسلاتها لوالدها أن يوقفَ المُتبجِّح عند حَدهِ، فالرجل يعرفُ عنه الخِسة ودناءة الطَّبع ، يَخشى على وحيدته أن يصيبها شيء من شَرهِ.

فاكتفى بمُلاينتهِ حتى حين، وفي المُقابِل طلب مشورة خالها الذي مَالَ إلى تأديبِه نَكالا له، في تلك الأثناء خُطبت لشَابٍ من أُسرةٍ كريمة، استحسنته، فمالت إليه وتَعلَّقت بحبِه، وأمَّلت معه الهناءة والسَّكن، وافقَ الأبُ من فورهِ، أمَّا “مرعي” فاستشاط غيَظا لهذا الَخطب، وأحَّس بنارٍ تكَوي مُهجته، شَعَر ببرِد الطَّعنة فاندفع بقوةٍ يُفكِّرُ في الانتصارِ لكَرامتِه الجَريحة، لم يجد من بُدٍّ غير الَخلاص من العروسين، وبالفعلِ انتظرَ حتى ليلة الزفاف، اعدَّ العُدة مُستعينا ببعضِ المَنصر، اغرق الجدران بالجَازِ وفي ثوانٍ اُضرمت النَّيران في جَحيمٍ مُستعر.

أحَاطَ العُرسَ بمن فيه، نَجت بعد جَهدٍ جهيد، لكنَّ صَاحبها التَهمته النيران فلقي حتفه، لم تتحمل قساوة الصَّدمة؛ ليذهب على إثرها بعض عقلها، انطفأت شمعتها، وذابت عصارتها بين جدراِن غرفتها المظلمة، انكفأت تَجترُ أحزانها غَمَّا وكَأبة.

حَاصرت والدها الأحزان، فقرَّر الانتقام من الجَاني، استقرَّت في الأخيرِ رصاصاته برأسِ “مرعي” بعد أن اعترف بتفاصيل الواقعة، لكنَّ رحيله لم يُغيَّر من الوضعِ في شيءٍ، ضَاقت بمتاعبها، خَاصة وهي تُحرَم والدها الذي يقبع خَلفَ الجُدران يقضي عقوبته.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة