خاص: حاورته- سماح عادل
“غادة صديق رسول” كاتبة عراقية، من مواليد 1969، حاصلة على ماجستير في البيولوجي- جامعة بيروت العربية، بكالوريوس في علوم الحياة/ جامعة الموصل. عملت في جامعة الموصل- كلية التمريض وكذلك في المركز الطبي لجامعة الموصل وحالياً تعمل في جامعة الموصل- كلية طب نينوى.
صدر لها: (رمادية، مجموعة قصصية، 2010- الموت للحياة، رواية، 2011- بياض الليل سواد النهار، رواية، 2012- أجمل كابوس في العالم، رواية، 2014- شتات نينوى، رواية، 2016).
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- في المرحلة الابتدائية على الأغلب، أتذكر نفسي طفلة صغيرة تمسك دفتراً تكتب فيه جمل جميلة، إنشاءات لم تطلب مني في درس اللغة العربية. كنت أرسم في دفتري زهور وأعيد كتابة القصائد التي تعجبني من كتاب المطالعة المنهجي. لم أكتب مذكراتي، كنت أكتب شعراً بدون قافية حتى المرحلة المتوسطة. لكن ومنذ بواكير الطفولة كنت أحس أنني يجب أن أكتب دائماً.. أحسب أن القراءة وسعت خيالي كانت تقودني نحو دروب الكتابة.
(كتابات) لم اتجهت إلى الرواية رغم أن بدايتك كانت مع القصة القصيرة، وأيهما أقرب إليك؟
- أول مجموعة قصصية بينت وبوضوح أنني أمتلك نفساً طويلاً في الكتابة، هكذا قالت لي صديقتي التي قرأتها قبل نشرها وأخبرتني أن إحدى قصصها (أرض الحقيقة) تنفع لأن تكون رواية. وأنا أيضاً كنت أعرف هذا، كان قلب الكاتبة يقول لي: (ما زال هناك كلام كثير يقال يا غادة). الرواية أقرب لأنها تتيح لي الفضاء الكافي لأشيد فيه عالمي، وحكايتي التي يجب أن أحكيها. أحسب أنني قد وجدت طريقي في كتابة الرواية، الاهتداء لم يتأخر وكنت أعلم دائماً في قرارة نفسي أن كتابة الرواية طريقي.
(كتابات) في رواية (بياض الليل سواد النهار) هل حاولت التأريخ لمدينة الموصل في قالب خيالي؟
- رواية (بياض الليل، سواد النهار)، عدة كتب في كتاب واحد. يصح أن يقال إنها رواية تاريخية، لأنها تتخيل تفاصيل أحداث حقيقية وثقت بعدة كتب ورسائل دراسات عليا. لكنها بالدرجة الأولى سؤال فلسفي أزلي يقلقني منذ نضوجي العقلي، هي أيضاً قصة حب متخيلة بين أقطاب مختلفين تماماً، ومتشابهين تماماً. لم أحاول أن أصب تاريخ مدينتي في قالب خيالي، اخترت فقط زماناً مناسباً لسير أحداثي في مكان حبيب على القلب. كنت ألتقط صورة زمنية لأبطالي المتخيلين على الأرض التي أعرف فقط، وبتوليفة حبيبة على قلبي: (رسم، شعر، نهر، جبل، متصوف، كتب، ومخلوقات مستنيرة).
(كتابات) في رواية (بياض الليل، سواد النهار) استخدمت الشيطان كرمز للتمرد والشرور التي يقع فيها الإنسان، هل تلك الفكرة مستهلكة نوعاً ما في الأدب والسينما؟
- لم تركز روايتي على الشرور، ولم تستخدم الشيطان بالصورة المستهلكة كنت فقط أقترح حلولاً لمشاكل العالم التي لن تنتهي يا سيدتي، فقلت بجرأة أن الحب من الممكن أن يحول الشيطان عن طريق الشر. كانت شيطانتي تنسى شرها وتصبح طيبة ولينة بوجود الرجل الفاني الذي أحبته. كنت أريد أن أقول بطريقة غير مباشرة أننا نرتكب ما لم يفعله شيطان وأننا نسير بأرضنا الخضراء صوب الهاوية.
(كتابات) روايتك (الموت للحياة) دارت أيضاً في الموصل، ما سر شغفك بالموصل والتوثيق لها كمدينة عريقة؟
- (الموت للحياة) رواية الاحتفاء بالمكان مثلما وصفها الناقد “سعد الدين خضر”، واسم المكان الذي دارت فيه كل أحداث الرواية (محلة رأس الكور) وهي للأسف مدمرة بالكامل الآن. تقع رأس الكور على ضفاف دجلة وتمتد أزقتها وتتلوى فيما كان يعرف بالموصل القديمة. بيني وبين رأس الكور شغف يشبه شغفي بالكتابة، أحب تلك الأزقة والمنازل القديمة التي تنفع لأن تتحول إلى متاحف لدرجة أنني كنت أقصدها كلما مررت بإرهاق نفسي. ينشرح قلبي ما أن أدخلها، أو لنقل كان قلبي ينشرح.
ذكريات الطفولة الجميلة، شقاوتي وحكايات جدي وألعابي الجميلة مع أبناء وبنات أخوالي وخالاتي كانت أجمل ذكريات حياتي، وستبقى.. عندما غبت عن الموصل قسرياً وتركتها في بدايات عام 2015 حلمت برأس الكور، حلمت بالموصل القديمة كنت استيقظ لأروي الحلم وأغالب البكاء فيغلبني. أشاهد نفسي في المنام، أراني طفلة تركض كما لا أستطيع الآن، أسابق الريح وألاحق العصافير التي تلعب على شجرة الليمون في فناء منزل جدي الذي رحل من عقدين. كنت أجلس قرب تلك الجدران القديمة والسقوف المقببة المرتفعة للغرف وأتخيل أحداثاً حصلت، أخترع بدايات ونهايات لأنصاف أبطال عاشوا وماتوا ولم يسمع بهم أحد.
(كتابات) لماذا الموصل، هل كتبتِ أساساً رواية لم تدر أحداثها في الموصل؟
- الموصل مثل البحر، فيها رزقاً روائياً وفيراً، وفيها كنوز من لؤلؤ ومرجان، وهي جميلة بربيعها وشتائها الضبابي الشاحب. لم أكتب رواية لا يؤسس فيها عقلي وخيالي أحداثاً لم تدر على أرض الموصل. أتوه وأضيع وأفقد بوصلتي إن لم أهتد بشوارعها وأزقتها (نسميها بالعامية عوجات لإعوجاجها) وتراثها الجميل، وحكاياتها التي لا تنتهي. لدينا قصص شعبية عن الشقاوات والداميات (أمنا الغولة)، وقصص رعب، وقصص عن تجار وصانعي الحرير وبائعي الزنجبيل والهال فلماذا أترك البحر الذي أحب، البحر الثري؟ ربما لا أكتب إلا لأحكي عن المدينة التي أحب، المدينة تلهمني وتعرض علي أصناف القصص مثلما يفعل بائع القماش.
عندما تركت الموصل للدراسة في عام 2011 كنت أتصل بزوجي وأطلب منه طلبات غريبة: لوحات عن الموصل، جداريات لقلعة باشطابيا، كنت أشغل القناة الفضائية الموصلية لأعرف أخبار الموصل بالضبط وأشاهد لقطات لشوارع المدينة. لا ينفع أن أفترق عنها ولن ينفع أن أكتب عن غيرها مهما حصل.
(كتابات) ألم تفكري ولو قليلاً قبل أن تكتبي ضد تنظيم داعش، خصوصاً أنك كنت في الموصل مثلما علمت منك وقت سقوطها واحتلالها؟
- كاتب خائف مثل حنجرة خرساء، كاتب خائف إهدار للموهبة، ونحن الكتاب لسان المدينة. أول رواية لي نشرت عام 2011 هاجمت الإرهاب بضراوة، سمعت من أصدقائي تحذيرات ولمست لديهم قلق عليّ. كنت أجيبهم وأنا ابتسم: (الشجعان الله حاميهم). نشرت روايتي (أجمل كابوس في العالم) وأنا في الموصل المحتلة، كنت أسيرة لدى داعش وأتصور هذه أول رواية تنشرها أسيرة لدى ما يدعى بالدولة الإسلامية، وهي رواية تدين الإرهاب أيضاً صدرت في أيلول عام 2014 عن دار الفارابي في لبنان.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟
- العراق يكتب ويقرأ، العراق بخير، يتعافى وتتنعم أقلامه بالحرية، النهضة الثقافية قادمة لكنها ليست قريبة. بصراحة هيمنة الأحزاب الدينية لا تجعلني متفائلة كثيراً، لأقول إن هذه النهضة قريبة. الحروب أنتجت لنا جيلاً يعمل أطفاله قبل أن يتعلموا القراءة، وبعد محنة النزوح لأعداد فاقت 3 مليون إنسان، أجدني متشائمة. شعباً لا يقرأ لن يقول لا، ولن يميز بين الخطأ والصواب، وسيقتاده مشعلي الحروب والنيران صوب الموت. لكنني ألمس حباً للقراءة والأدب والفكر بين الشباب، هذا الوطن سينهض وأتمنى أن أطمأن على مصيره قبل أن ينتهي مشواري..
(كتابات) هل تتواجد الكاتبات العراقيات على ساحة الأدب العراقي وما سبب نسبتهم القليلة؟
- لا أراها قليلة، “أنعام كه جي” و”ميسلون هادي” و”لطفية الدليمي” والشاعرة الموصلية “بشرى البستاني” صنعن أسمائهن بتمكن واقتدار، ولهن جمهور قراء ومعروفات عربياً. أعرف شابات في بداياتهن رائعات أتنبأ لهن بمستقبل باهر ومنهن الموصلية “هاجر الأحمد”.
(كتابات) ما رأيك فيما يطلق عليه الأدب النسائي، وهل تختلف كتابات الرجال عن كتابات النساء؟
- لا يوجد أدب نسائي، الأدب واحد والعقول واحدة، كل يسلط الضوء ويستلهم ما يمليه عليه سعة خياله وتوجهه في الحياة. لا تختلف كتابات النساء عن كتابات الرجال، الدماغ ذاته والكلمات ذاتها. هناك أدب سيء يكتبه الرجال والنساء، وأدب جميل جادت به علينا أقلام رائعة لكاتبات عربيات رائعات مثل الراحلة “رضوى عاشور” والعراقية “لطفية الدليمي” وأسماء كثيرة لا أريد أن أكررها هنا.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتبة، وما هو جديدك؟
- أنا امرأة قوية ومصممة ومتى ما وضعت شيئاً برأسي لا أتنازل عنه ولا أيأس منه، لا أتذكر أية صعوبة واجهتني ولا أعترف بشيء أسمه صعوبات، وجديدي هو رواية بالطبع. هذه الرواية حكايتها طويلة كتبتها بعد إتمامي ل(شتات نينوى) التي صدرت في عام 2016، كانت عيني على معركة تحرير الموصل، فنويت أن أكتب رواية عن معركة التحرير. في الوقت ما بين الروايتين المؤلمتين عن داعش وما يحصل لأهلي في الموصل جلست لأتخيل مكاناً جميلاً فاخترعت مدينة، وشخصيات وعالم آخر.
كنت أريد أن أهرب من القلق والخوف، فاخترع عقلي مدينة أسماها المدينة البهية، لكن الهرب لم يكن ناجحاً تماماً، وقع في المدينة البهية ظلم كبير، وحصلت فيها لعنة حولت المدينة الجميلة البهية إلى أرض بور وخراب… كتبت مصير الموصل باسم آخر وبأحداث أخرى من دون أن أدري. الرواية فانتازيا متخيلة 100% وعنوانها الإنسان الأخير.
نص من رواية (بياض الليل، سواد النهار)..
“ظهر الشيخ الملتحي من العدم، من أرشيف التاريخ، من ذاكرة التراب الحزين لأنه لن يكون ترابا عن قريب وسينفجر إلى عناصر تذوب في الفضاء غير المتناهي الأبعاد. الملتحي الذي عرف من قرون وقرون أن سارة ستقصده لتفهم. الملتحي الذي أوجعه قلبه حين أوجع سارة قلبها.
حين تقابلت عيناهما قال الرجل:
– يا لخزي بني الإنسان، وقد خذلوا المحبوب. يا للعار، يا
للعار.
– يا لعاركم فعلا…
بحقد تحدثت المرأة التي ترهقها ملايين من الأعوام قضتها في
الخذلان، فقد آن أوان التشفي، آن أوان الثأر:
– سيصرخ أبي صرخته الأخيرة، سيزأر ذلك الذي كرهكم يوم خلقتم من تراب فان مثلكم. سينهض أبي، بعكاز ثأره الذي تأخر، تأخركم في إفساد كل شيء، ليتكم استعجلتم قليلا. لم ينبس الشيخ ببنت شفة، كان مهموما، حزينا، مفجوعا. تنطبق عليه كل المصطلحات المأسوية. لكن المرأة كان لديها ما تقوله:
– لا تشح بوجهك بعيدا عني أيها الشيخ، تعال قل لي ما يجب أن يقال. تستطيع بكل بساطة أن تقول، إن بعضكم سيذهب إلى الجنة، أقله. وإننا لن نعود أبدا إلى ملكوت السماء، لكن تذكر أن الله الذي سامح مخطئيكم سيغفر لأبينا… ربما، لأنه في الأول والأخير من خلقه وسيما جدا، ومغرورا جدا. صمت الاثنان لبعض الوقت. الشيخ بسبب حزنه وضيقه، والمرأة لأنها كانت تفكر بطريقة تصل فيها لقرار روح الشيخ. وحين وجدت ما كانت تبحث عنه سألته:
– ألم تعمل أي عمل في حياتك الماضية أيها الشيخ، أقصد قبل أن تمضي إلى عالم الأرواح؟
– بلى… عملت في مقتبل عمري في فخر الطين، كنت صانع جرار.
صرخت المرأة (رائع) وهي تبدو في قمة النشوة. وتابعت:
– وأنت إذا ما صنعت مستعجلا جرة من طين فيه بعض ذرات من الرمل، ستتوقع أن تحتوي على ثقوب عديدة، وأن الماء ولابد سينضح منها، وسيجري ليبلل كل من يحملها. أليس كذلك؟ صمت الشيخ، كان يتوقع كل ما ستقوله هذه المرأة، التي تكره بني جنسه كلهم. بدا مشغولاً بالنظر إلى المكان السابق الذي لطالما امتد فيه الجسد الأفعواني المائي لدجلة. كان حزينا، لأنه يفتقد نهره. وحين استمرت المرأة في النظر إليه ومطالبته بإجابة، قال لها مضطرا:
(نعم). فواصلت كلامها:
– كان يعلم إذا. العظيم الجبار، كان يدري جيدا ماذا سيحصل بالضبط، فخلقه مغرورا، ليضمن تمرده لاحقا. الغريب أيها الشيخ الطيب أنك وحدك من تعلم، أن جنسكم فعل ما قاله أبي بالضبط. وأنكم لا تستحقون انحناءة ذلك المخلوق الرائع، الذي كل ذنبه الجمال والغرور. من الذي أطلق شرارة الشر والذنب؟ أليس أنتم؟. بنو جنسك من حول جمالنا إلى قبح، ونقاءنا إلى تلوث.
– كل ما طلب منه هو الطاعة.
– هل تتصور أن الجبار يحب الطاعة العمياء؟ ألا تعني الغباء بالله عليك.
– لسنا أغبياء جدا، وإلا لما أوشكنا على تحطيم هذا المكان الرائع، الذي كان يدعى الأرض. لكنه الجشع.
– الجشع أقبح من الغرور، لكنه أقل خطرا من الذكاء، أليس كذلك؟
…..
– أيها النقي…. أ له لم أعد أحسدك!
رحل الشيخ، كان يدري ما الذي ستقوله بعد حين، هرب من حزنه، سارع بالفرار كي لا يتألم. أرعدت السماء حينما ناحت ابنة أبيها:
– يا ويلي على حزن أبي، حين لم تقبل توبته. يا لحزني على صرخة ألمه التي ترددت في كل الأرجاء. يا ويلي على جناحيه اللذين كسرا بغضبة الجبار. يا لشدة حزني عليك أبتاه. اصرخ أيها الجميل ولتبلل دموعك المصنوعة من الحمم وجه السماء. قل للقوي الجبار، إن ذلك الذي نفيتني من أجله، دمر الكوكب الأخضر، وأفسد حتى الفضاء. أمات الخضرة، جفف البحار، شرب الأنهار. قتل كل طائر بجناحين، لم يوفر ولو عصفورا واحد ليعبر من هذه السماء. يا لحزني على سماء الأرض التي لم تعد زرقاء، بل صفراء كالحة. لم تنج من جشعه سمكة، ولا شاة. نبش الخيرات، سافر إلى السماء، سرق كواكبها، وسيفني كواكب خضراء سيكتشفها لاحقا، لن ينتهي الخراب، إلا بفناء الفاني، وغضبة الخالد الجبار.
رددت المرأة:
– لن يتوقف الخراب إلا بالفناء للفاني، على يد المنتقم الجبار.
لمرات ومرات ومرات، صرخة حزنها:
– …. الفاني… الجبار…..