13 أبريل، 2024 8:13 ص
Search
Close this search box.

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (11) .. تحت السيطرة العنكبوتية !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتب – محمد البسفي :

رغم بريق ما يظهر من الجبل الثلجي تحت وهج شمس “الحقيقة”.. تبقى أهم أجزاءه مستورة في سراديب القاع..

…………

العصر العبري..

بقليل من التأمل في مُركبات الصراع الدولي المُستعر حاليًا.. يمكننا الزعم بأن السياسة الأميركية لـ”هندسة المجتمعات” لم تقتصر على المجتمع المصري فقط، خلال اجتماع ثنائي ضم الرئيس المصري، “أنور السادات”، مع وزير الخارجية الأميركي، “هنري كيسنغر”، في بدايات حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وإنما هي سياسة صُنعت لمجتمعات الشرق أوسطية خاصة، والمنتسبة لدول العالم الثالث عامة، رغم استياء “المعولمين” من ذلك التصنيف. بل يمكننا القول بأن أهداف العمليات الدؤوبة لهندسة المجتمعات تمحورت، طوال تلك العقود الممتدة فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، حول مطلبين رئيسيين مُلحين: رتق الكيان الصهيوني بالجسد الدولي وتسوية نتوءه على خريطة الشرق الأوسط والعالم كدولة شرعية لا تُخلف وراءها أي تاريخ استعماري أو ماضي اغتصابي؛ أولاً.. وفتح بلدان تلك المجتمعات أمام إمبراطورية “السوق الحر” بسياساتها واقتصاداتها السيادية، وخاصة آخر طبعاتها من “النيوليبرالية”، الأحوج حاليًا لمقدرات وموارد تلك الدول الطبيعية والبشرية والسوقية؛ ثانيًا.. وهما هدفان أختلطت فيهما آليات التنفيذ بقدر ما توحد بينهما المقصد..

تُردد حاليًا، ومنذ فترة ليست بالقليلة، جميع وسائل الإعلام الكبرى عالميًا بلهجة أشبه بالتفاخر، عدم إستحواذ “القضية الفلسطينية” على اهتمام الرأي العام الدولي أو حتى الإقليمي، بل ذهبت إلى أن تسبق ذكرها بجملة “التجهيل” الإعتيادية في تأكيدها على أن ما يسمى بـ”القضية الفلسطينية” لم تُعد تحظى بأي اهتمام جماهيري طبقًا لأغلب استطلاعات الرأي والدراسات المسحية لقياس الرأي العام لجماهير متابعيهم، وبالطبع أكثر العازفين لهذه النغمة هي وسائل الإعلام الإسرائيلية، فضلاً عن مراكزها التحليلية والبحثية.. في أعقاب الأزمة الحكومية التي واجهتها حكومة اليميني، “بنيامين نتانياهو”، باستقالة وزير دفاعه، “أفيغدور ليبرمان”، كرد فعلٍ على الصمت الإسرائيلي إزاء الهجمة التي شنتها الفصائل الفلسطينية على قوات الكيان الصهيوني في “قطاع غزة”، في منتصف شهر تشرين ثان/نوفمبر 2018، أكد المحلل الإستراتيجي الإسرائيلي، “إيال زيسر”، على أن العلاقات بين “إسرائيل” و”العالم العربي” تعيش حاليًا أزهى عصورها، إذ أن الكثيرين في العالم العربي، بدءًا من دول الخليج وحتى دول شمال إفريقيا، أصبحوا لا يعتبرون “إسرائيل” دولة معادية أو كيان غريب في المنطقة، لكنهم يعتبرونها لاعبًا دوليًا وإقليميًا مهمًا، بحيث يمكن التعاون معه، بل والاعتماد عليه عند الضرورة.

مبررًا ذلك بـ”إن العالم العربي مُنشغل تمامًا بمشاكله الداخلية، ومعظم الدول العربية غير قادرة على أن تستفيق مما هي فيه كي تتعامل مع مشاكل وأزمات الآخرين”.

قائلاً: ولا عجب إذاً أن الدول العربية لم تعد تهتم، منذ زمن بعيد، بالصراع “الإسرائيلي-الفلسطيني”، وكل ما تأمله تلك الدول هو تنحية “القضية الفلسطينية” عن الأجندة الإقليمية، حتى لا تمثل عقبة تحول دون تحسن العلاقات “العربية-الإسرائيلية”.

لذلك؛ فإن الدول العربية مستعدة لدعم الجهود الرامية إلى إيجاد حل للنزاع “الفلسطيني-الإسرائيلي”، شريطة أن يكون حلاً مقبولاً لدى “إسرائيل” و”العرب”، وإن لم يكن بالضرورة مقبولاً لدى “القيادة الفلسطينية” (1).

وبالفعل.. مع بداية العقود الثلاث الأخيرة من القرن الماضي، والتي شهدت تحولات مفصلية في السياسات الخارجية الدولية وتأثيرات هامة في موازين القوى، دخلت المنطقة على إثرها، كشبيهاتها من أغلبية دول العالم الثالث، في صراعات آثنية وعرقية بل وجهوية أغرقت مجتمعاتها تحت أغطية دينية أو قومية انفصالية تذكيها ثقافات ما بعد الحداثية التي تُصّدرها وتنشرها العولمة الثقافية والاجتماعية بآلياتها وإمكانياتها الضخمة، والتي تُسوقها عبر الفلسفات العدمية والفوضوية والتفكيكية نافخة بها الروح بتحديثها وترسيخها مرجعيًا وإيديولوجيًا.. ولعل أبرز محطات إغراق المنطقة في فيضان العنصرية والطائفية الدينية، خلال تلك الفترة، كان في لبنان؛ فـ”عندما نستدع للذاكرة أحداث سوداوية الدماء أنتجت بأرض عربية؛ 150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوق و17 ألف مفقود – في أشهر التقديرات الإحصائية – وهي أحداث «الحرب الأهلية اللبنانية»، التي أستمرت لنحو 15 عامًا متواصلة وهُجّر بسببها أكثر من مليون نسمة في بلد كان عدد سكانه ثلاثة ملايين، ونُزح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان، كما قدرت خسائر الحرب المباشرة التي أصابت رأس المال الإنشائي والتجهيزي في القطاعين العام والخاص بنحو 25 مليار دولار أميركي” (2).

“الحرب اللبنانية الأهلية” التي اندلعت، فيما بين أعوام 1975 إلى 1990، نتيجة “انتفاضة شعبية” حملت مطالب تقدُمية محددة كان من أبرزها تمثيل عادل ومناسب للطوائف الإسلامية سُنية/شيعية بمقاعد مجلس النواب وتغيير صيغة وأسلوب الطبقة الحاكمة من صيغ طائفية وعشائرية لآخرى ديمقراطية تنمي العدالة الاجتماعية/الاقتصادية لأغلبية سكانية ترزح تحت خطوط الفقر والفاقة، ولكن نتيجة استدعاء الحرب الأهلية لأطراف إقليمية بمصالحها المتعددة، وأحيانًا المتشابكة التعقيد، خلقت أوضاعًا جيوسياسية شديدة الإرتباك والحساسية؛ كانت نتيجتها النهائية احتلال الآلة العسكرية الإسرائيلية لعاصمة عربية مباشرة لأول مرة !

ولكن قبل إنتهاء “الحرب الأهلية اللبنانية”، كان يجب، على هامشها، “تسريع” دفع الشارع العربي عامة في طريق الطائفية والعنصرية، وتذكية النعرات السلفية – سواءً قبلية كانت أو دينية أو طائفية أو عنصرية – لقتل وسحق جميع “الحركات التحررية التقدُمية” بمعظم البلدان العربية والنامية، فتم تفتيت و”سحق” الثورة الفلسطينية المقاومة في “بوتقة” لبنان بعد ضربها في “محرقة” الأردن، استعدادًا لـ”تصفية” القضية “المزمنة” بخلق وضع جديد. في الوقت الذي يُعلن فيه، “صدام حسين”، في العراق، الحرب لثماني سنوات متواصلة ضد إيران تحت شعارات و”قشرة” دينية، ويعلن “حافظ الأسد”، في سوريا، عن ثورته التصحيحية التي من أهم بنودها تعديلات “إسلامية” لدستور البلاد وتشريعاتها. لتعلو موجات تيار الإسلام السياسي وتقوى شوكته لدرجة نجاحه في اغتيال “أنور السادات”، في مصر، بعد سنوات قلائل من إعلان “الجهاد ضد الإلحاد” في أفغانستان، لإزاحة آخر فلول النفوذ السوفياتي من المنطقة، ثم يأتي الدور على رفع شعار “الجهاد ضد الصليبية” في حروب الشيشان والبوسنة والهرسك، والتي تم تطويرها وتماديها حتى وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة ذاتها – في محاولة لإثبات الوجود وفرض النفوذ – أواخر التسعينيات وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. موازيًا كل ذلك لطغيار انتشار عناصر الإسلام السياسي وتنوع وتوسعة خريطته الحركية والجغرافية داخل مجتمعات المنطقة المتباينة، حتى وصلت ذروته في شكل تنظيم الدولة الإسلامية، (داعش)، الذي لم يدخر جهدًا في إظهار كافة الوسائل وحشية ودنائة لتمثيل “بروفة حية” لدولة/مجتمع العصور الوسطى، وأيضًا إعلان نوايا وآليات وشكل الدولة “الثيوقراطية”..

بالإضافة إلى عامل حاسم وهو غياب مفاهيم “الصراع الطبقي” وحوافز التناقضات الاجتماعية وغيرها من الركائز العلمية عن الساحة الدولية بتفكك “الاتحاد السوفياتي” الذي شجع القوى البورجوازية العالمية بقيادة “الولايات المتحدة”، بالطبع، على شحذ جميع أفكارها وفلسفاتها في هدم تلك المفاهيم والإلتفاف عليها بخلق محاور جديدة للصراع؛ ربما تدور حول “الحضارات” عمومًا أو بين “الديانات” و”المذاهب” تحديدًا، ولكنها لا تقترب من الصراع الطبقي والمشاكل الاجتماعية التي ذهبت إلى إنكارها كلية، حتى أصبح الوعي الجمعي عالميًا والشرق أوسطيًا محصورًا بين نموذج الدولة الدينية الواحد سواء في “إيران” أو داخل “إسرائيل”.

وأمام شبح دولة العصور الوسطى ذات مرجعيات “اليقين المطلق”، الزاحف بقوة وثقة.. ظهرت أصوات حثيثة، كرد فعل عكسي، تتمرد على كل ما هو من الثوابت اليقينية اجتماعيًا وسياسيًا وفكريًا قيميًا، مرتدية المسوح الثورية وسط انتفاضات الشارع اللاهبة الثائرة، ضمن عوامل كثيرة ورئيسة للثورة، نتيجة فشل تطبيقات الطبقة الوسطى العربية لمشاريعها السياسية في الوحدة العربية أو الاشتراكية اللاعلمية، (سواء فشلٍ موضوعي تمثل بفساد نظرية القومية العربية ذاتها؛ أو ذاتيًا في إبتداع صيغة بورجوازية للاشتراكية العربية)، ومردودها الاجتماعي، خاصة بعد الانقلاب عليها نحو سياسات الانفتاح على النيوليبرالية والبراغماتية القومية الإنعزالية بصيغ حكم كولونيالية أبوية تفرض سطوتها الاستبدادية من أعلى.. لتستغل الأصوات التمردية، كقرينها من “الإسلام السياسي”، الوجه الآخر من عُملتهما، ذلك الحراك الثوري وليّ عنقه في إتجاه الليبرالية السياسية الأميركية خاصة والغربية عامة، بما يخدم السياسات النيوليبرالية في شموليتها وهيمنتها العالمية.. ونظرًا لإفتقار الأخيرة للفلسفات التي تبلورها فكريًا وتجعل لها مسوغٍ اجتماعي يضفي الشعبية والمشروعية عليها، فقد تم إبتداع تخريجات وتطورات للفلسفات العدمية والفوضوية والتفكيكية وغيرها من شلال مقومات ما بعد حداثية تخبطت – ومازالت – في جميع الإتجاهات حتى كثيرًا ما استعانت بتضخيم وتطوير نظريات الاشتراكيين الديموقراطيين، كما حدث مع تنظيرات الفيلسوف الألماني الأميركي، “هربرت ماركوز”، وأهمها نظريته بإستبدال “البوليتارية العمالية” بقوى الشباب والطلاب كمحركٍ أساس ورئيس للفعل الثوري التقدمي، وتخريجاته عن “الإنعتاق الجنسي”.. وهكذا عملت النيوليبرالية على نشر كل ما يفيد الفكر الفردي وتنمية دوره الاستهلاكي في المجتمعات وتفكيك المناهج الثورية التحررية التي تعتمد الاشتراكية العلمية، وذلك عبر نظرياتها ما بعد الحداثية التي مهد التقدم التكنولوجي وانتشار وسهولة وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعي الطريق أمامها، وكان من أهمها وسائل التواصل الاجتماعي التي كما أنها تُعتبر مورد ثمين وقيّم جدًا لكم هائل من المعلومات والبيانات عن مجموع بشري معبر لكافة المجتمعات المتباينة يتم استغلاله مركزيًا من قِبل مؤسسات استخباراتية أو شركات كبرى دعائيًا وتسويقيًا، هي أيضًا تدعم وتنمي الشعور الفردي سيكولوجيا داخل المجتمعات بما يُجذر نظريات الاستقطاب والتطرف والجُزر المنعزلة من خلال الاستنزاف الحواري والاستعراض الاستهلاكي الغير مبني على أي أسس جدلية أو علمية صحيحة، كما يحاول توضيحه الفصل القادم، وبالتالي التمهيد وتغذية الدعايات الشعبوية والشوفينية؛ فنجحت الإعلانات السياسية من أمثلة (أميركا أولاً) و(مصر أم الدنيا) و(فرنسا للأمام) وغيرها من الشعارات القومية الشعبوية في الوصول الى الحكم عالميًا، حتى على المستوى الفكري والثقافي قويت أصوات التناحر القومي بما يمثل عودة “حرب الحضارات” وتلونت بين التمايز الفرعوني والبابلي وغيرها بين نخب الشعوب ذوات الظهير الحضاري..

وبذلك التقت العناصر النخبوية المروجة لثقافات ما بعد حداثية الخادمة للتوجهات النيوليبرالية تحت مسميات “العلمنة” و”التنوير” وغيرها من اللافتات الخارجية التي لا تعتمد أي أسس علمية أو منهجية، مع قرنائها من أصحاب توجه “الإسلام السياسي” في دفع مجتمعات دول العالم الثالث إلى هوة واحدة؛ وهي العودة إلى ما يشبه العصور الوسطى قانونيًا واجتماعيًا وثقافيًا.. يرى المفكر الأردني الكبير، “ناهض حتر” أن: “(ما بعد الحداثة) تعبير شامل عن الإنحطاط الفكري للرأسمالية العالمية الشائخة، التي أصبحت حدود الحداثة الفكرية والقانونية والاجتماعية والثقافية، تقّيدها عن اضطرارها لاستخدام المخلفات الرجعية من نزاعات ما قبل الحداثة، (مقترنة بالطبع مع وسائل الحداثة المادية)، في ديماغوغية شاملة فانتازية لرؤية تمزج بين العدمية والكلبية والبراغماتية، هي رؤية ما بعد الحداثة، حيث يمكن نسف المنطق الداخلي والنسق التاريخي للخطاب، وممارسة الهذيان الذي يجمع، مثلاً، بين مباديء الديمقراطية الليبرالية والمباديء التكفيرية للجماعات الأصولية والإرهاب في أطروحة واحدة…” (3).

“حتر”؛ الذي سجل في العام 2013، ملاحظته المندهشة، قائلاً: “أبهذه السرعة يتحرك التاريخ في العالم العربي الجديد، فينحدر بطل المرحلة، الإسلام السياسي، من ذروة الهيمنة على الاجتماعي الوطني، إلى حضيض سلطوية مهزوزة ومعزولة ؟.. كان ذلك الإنحدار متوقعًا من قِبل منظرين ماركسيين، أبرزهم المصري، سمير أمين، بالنظر إلى إفتقار الإسلاميين إلى إجابة تقدمية عن أسئلة التنمية وبناء الاقتصاد العادل والديموقراطية الاجتماعية. وهو ما فجر الصراع في تونس بين الحزب الإسلامي الحاكم، (النهضة)، وقوى اليسار، لكن المفاجأة المصرية، كمنت في تجاوز المستوى الاجتماعي للاعتراض الشعبي المتوقع على السياسات الاقتصادية الإخوانية، نحو صراع تاريخي بين إجماع مدني علماني، (تقوده جبهة الإنقاذ)، مع إسلام سياسي بلا حلفاء؛ بذلك، يكون الآخير قد فقد هيمنته – وليس، بالضرورة، سيطرته السلطوية العارية أخلاقيًا والمؤقتة سياسيًا – وخسر مشروعه، كما سبق لمحمد مرسي أن وصفه، لدى مثوله بين يدي ملك السعودية، طائفي صريح هو «مشروع أهل السُنة والجماعة» الذي «ترعاه الرياض وتحميه القاهرة»”.

موضحًا أن: “جوهر «المشروع» الانتحاري؛ هو تحويل جسم الأمة السُني – ومركزه مصر – إلى «طائفة» مغلقة، يهيمن التحالف الإخواني السلفي عليها، وتقودها الرجعية الخليجية، وتستخدمها لبناء دكتاتوريات شبه فاشية تحظى بدعم النظام الإمبريالي مقابل تأمين استمرار سيطرته في البلدان العربية، في ثلاثة مجالات رئيسة: الكمبرادورية، (نظام اقتصادي يديره الوكلاء التابعون للرأسمال العالمي، ومنه فرعه الخليجي)، والإبقاء على خضوع منظومة النفط والغاز العربية للمصالح الغربية، وتوفير الدعم الشعبي للسلام الواقعي مع إسرائيل”.

ومن ثم؛ يكون الإسلاميون أحرارًا بتشكيل المجال الثقافي – السياسي الداخلي اللازم لتطييف الأكثرية، ووضعها في حالة صراع دائمة مع المكونات الطائفية والمذهبية العربية الأخرى، المسيحية والشيعية والعلوية.. إلخ (4).

وبالتالي؛ حينما نتذكر مقولة “ديفيد بن غوريون” المأثورة: “مصلحتنا في أن تكون في المنطقة دول طائفية عدة لتبرر وجود إسرائيل”.. ونستدعي المكونات الأساسية للآخيرة نجدها كيان نجح في إنشاء دولة تحت دعايات دينية شديدة العرقية تقترب من “الثيوقراطية” رغم إعلاناتها عن تطبيق أساليب الحكم العلمانية الديمقراطية، تلملم شتات شعب هو في حقيقته ألوان متباينة الجذور الإقليمية والحضارية لا تجمع بينهم سوى الأساطير الدينية التي تحاول خلق حضارة موهومة موحدة تتجذر عبر شعائر وموروثات قانونية شديدة الخصوصية، وتكفل لدولتهم شن “الحروب المقدسة”.. ولكن لم ينجح كم تلك الأساطير والموروثات الدينية في تجنيب الدولة التناقضات العنصرية والطبقية والآثنية داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته.

وأخيرًا.. على المستوى العربي وانتفاضات شعوب دول العالم الثالث عامة؛ التي مازالت تشتعل على مدار العقد الحالي، نلحظ، كما يؤكد “حتر”، أنه: “لم تثر الجماهير الشعبية المسحوقة تحت جنازير البلدوزر الكمبرادوري، من أجل تطبيق الشريعة، واستمرار الخضوع لمصالح رجال الأعمال ووصفات صندوق النقد الدولي تحت لافتة إسلامية، وإنما للتحرر من القهر والإفقار والتهميش. بالأساس، لجأت تلك الجماهير إلى الإسلام السياسي كتعبير عن احتجاجها على وضعها الاجتماعي. وكان طبيعيًا، بالتالي، أن تلفظه حين يغدو هو في الموقع السلطوي المضاد”.. ولكن كان يجب، من أجل سحق هذه الانتفاضات الشعبية التحررية وعدم إنماء شعوبها ومجتمعاتها، خلق عالم “إسرائيلي” الفكر والممارسة السياسية خدمة لإزدهار وتوسع “الكيان الصهوني” داخل عالم تسوده سياسات نيوليبرالية؛ الكلمة العليا فيه لمصالح السوق الحر المفتوح.

تحت المراقبة..

في تحقيق صحافي خاص أنتجته شبكة (الجزيرة) الإعلامية، وأذاعته على قناة (الجزيرة وثائقية) مؤخرًا، أكد على أنه خلال، شهر آب/أغسطس 2017؛ قامت (الخصوصية الدولية)، وهي مجموعة رقابية تهتم بالمراقبة الحكومية، بنشر تقرير عن صناعة المراقبة في العالم. وقد حددت المجموعة 27 شركة مراقبة إسرائيلية في المجال الأمني، وهي تُعد أعلى نسبة مراقبة بالنسبة لتعداد السكان في العالم، بحسب تأكيد مجموعة (الخصوصية الدولية). (5)

كما كشف تحقيق (الجزيرة) عن معلومات موثقة حول “شركات الأمن الإسرائيلية” الخاصة التي تنتشر بأغلب أنحاء العالم، وخاصة بدول الشرق الأوسط والدول العربية.. وربما كانت بداية لفت الأنظار إلى تلك الشركات؛ حينما نجحت إحداها، وهي شركة “مير سيكيوريتي”، في عام 1999، في إبرام عقدًا مع الشرطة الإسرائيلية لإنشاء نموذج “المدينة الأمنية”. وبذا يصبح النموذج بالتالي “إيقونةً دولية”، حيث أنه في ظل الهجمات الإرهابية التي عصفت بالعاصمة البريطانية، “لندن”، عام 2007، شرعت الحكومة البريطانية في محاكاة نموذج “المدينة الأمنة” الإسرائيلي، فلا يخلو شارع أو ميدان أو بناية في عاصمة الضباب من كاميرات مراقبة ترصد المارة على مدار الساعة.

تقول “لارا لاراروك، رئيس منظمة “Privacy Intwrnational”، وهي منظمة تتقصى شركات الأمن الإسرائيلية المتخصصة بأنظمة التجسس، ومقرها “لندن”، أن: “النظام الأمني يمكن تبنيه من قِبل الكثير من المدن حول العالم”، وهذه الشركات تقوم ببيع “تقنيات تشمل كل شيء، بدءًا من أجهزة التنصت الصغيرة التي يمكنها أن تسجل ما يجري في غرفة أو مكان؛ وصولاً إلى اختراق نظام الاتصالات الخاص بدولة ما، ليتم جمع المعلومات بشكل تلقائي والتنصت على ما يحدث في هذا البلد بشكل مباشر”. وتُحذر “لارا” من أن “حماية هذه الأنظمة يجب أن يتم بحذر شديد، فقد رصدنا مؤخرًا عمليات اختراق مستمرة من جهات مختلفة، وعلى من يختار مشروع المدينة الأمنية أن يكون حذرًا وأن يأمن هذه الأجهزة”.

وتكشف رئيس منظمة “Privacy Intwrnational”؛ عن وجود موسع لشركات الأمن الإسرائيلية داخل الكثير من الدول العربية، وخاصة “دولة الإمارات العربية المتحدة”، حيث أكدت على أن إحدى القضايا التي كانت تترصدها المنظمة عن شركة إسرائيلية تدعى مجموعة (NSO)، تستخدم نظام البرمجيات الخبيثة، حيث وجد أن هذا النظام قد أصاب جهاز محام إماراتي ينشط في مجال حقوق الإنسان، “وهذا البرنامج لا يُباع إلا للدول بسبب قدرته الكبيرة على الاختراق”. وتابعت “لاراروك” قائلة: “كما أننا تمكنا من رصد شركة سويسرية يديرها شخص إسرائيلي يتمتع بعلاقات قوية داخل إسرائيل، باعت هذه الشركة نظام اتصالات للتحكم والسيطرة في أبوظبي”.

يوضح التحقيق الصحافي بأن الشركة هي، (AGT) Asia Global Technolgy؛ والتي أسسها ويديرها، “ماتاي كوخافي”، رجل أعمال إسرائيلي قرر العيش في “الولايات المتحدة”، والشركة توظف كبار القادة السابقين في (الشاباك) و(الموساد).. مؤكدًا على أن شركة “كوخافي” فازت بعقود بملايين الدولارات تتصل بالأمن القومي من إحدى الدول العربية، وتهدف للدفاع عن الحدود والمنشآت الإستراتيجية في البحر، وتوظف الشركة عشرات الضباط من خريجي “الجيش الإسرائيلي الذين استقالوا من الجيش، بالإضافة لكبار المسؤولين السابقين في الصناعات الجوية وجهازي (الشاباك) و(الموساد)”.

وقد أوضح أحد المصادر، من داخل الشركة السويسرية، أنه: “في الماضي عملنا في الأمن والآن بالأزياء.. نحن نقوم ببرامج حاسوب أمنية، ولا فرق إن كان موجه لعالم الأمن أو لعالم الأزياء.. البرامج هي في مجال الإنترنت والتكنولوجيا، وحقيقة كون أن نتخصص في هذا ليس غريبًا”.

ليتوصل فريق محققي (الجزيرة) الصحافيين إلى تقرير صحافي نشرته صحيفة (هاآرتس) العبرية، في يوم 14 تشرين ثان/نوفمبر 2008، يشير إلى أن الإسرائيليين قاموا بنشاطات أمنية واسعة النطاق في بعض الدول الخليجية، وصلت قيمتها لعشرات ملايين الدولارات وتمحورت هذه الأنشطة حول تقديم إرشادات بشأن تفعيل أنظمة أسلحة متطورة والتزود بالعتاد الاستخباري وتدريب الجنود المحليين على حماية الحدود وإحباط عمليات إحتجاز الرهائن أو الانقلابات أو محاولات لاحتلال أهداف إستراتيجية كالمنشآت النفطية.

في نفس السياق؛ أكدت وثيقة مسربة عن موقع (ويكيليكس)؛ بعنوان: “شركة الأمن الإسرائيلية «ميغال» ستكون المسؤولة عن المنظومة الأمنية للمشروع النووي الإماراتي”.

على جانب آخر؛ حرصت “الأكاديمية الأمنية الإسرائيلية للحماية”، تم تأسيسها عام 1975، ضمن خطتها الترويجية، على دعوة صحافيين لحضور دورات تدريبية تقيمها في مجال حماية الشخصيات ومكافحة الإرهاب، كان ضمن المدعوين الصحافي، “أحمد البديري”، الذي كشف أثناء حضوره عن حضور عربي مكثف في صفوف المتدربين.. يقول “البديري” أنه: “قبل بداية الأزمة في العالم العربي، كان يوجد دعوات لشركات إسرائيلية تدعو مجموعة من شركات الحراسة.. هكذا كان العنوان، وهو عنوان جميل، فذهبت إلى تلك الشركة الإسرائيلية ضمن مهام عملي، ولكني فوجئت بأن المتدربين في هذه الشركة الإسرائيلية، وموقعها «النقب» داخل إسرائيل، كانوا عرب، كان يوجد عراقيين ولبنانيين وسوريين ومصريين.. لا نعرف من هم ولا أسمائهم، الشيء الوحيد الذي أمكنني الحصول عليه هو جنسياتهم عن طريق تمايز لهجاتهم، أما عن أسمائهم وبياناتهم فهذا ممنوع”.

تحت عناوين ومسميات موحية؛ تصمم بعض شركات الأمن الإسرائيلية الخاصة، مجموعة من المعارض التسويقية لترويج بضائعها بشكل دوري.. من ضمن هذه المؤتمرات والمعارض مؤتمر أمني يُعقد بقرية “زخرون يعقوب”، بمدينة “تل أبيب”، يجمع عدة شركات أمنية إسرائيلية، نجح فريق التحقيق في الدخول إلى كواليس إحدى دوراته وهو مؤتمر (النار – زخرون يعقوب 2016)؛ وألتقى بالسيد “آرون”؛ وهو أحد محاضري “الأكاديمية الأمنية الإسرائيلية للحماية”، المشاركين بالمؤتمر، والذي أوضح مهام الشركة التي يقوم بتسويق منتجاتها ضمن فاعليات المعرض؛ أنه بالإضافة للسايبر، (المواقع الإلكترونية الخاصة بشركته)، هم يقومون بحماية الشخصيات والحدود، وكل ما له علاقة بشؤون الحماية كمحاربة الإرهاب، إضافة إلى أمور أخرى. محاولاً تحديد البلدان التي تقوم بشراء منتجات شركته ويسمح لها بالعمل داخلها، قائلاً: “في «أبوظبي ودبي» في الإمارات العربية المتحدة، و«مصر والسعودية والأردن».. أنا بقيت عامين في أبوظبي ودبي، عملت خلالها على التنقل، أسبوع هنا وأسبوع هناك، لم يعرفني أحد باسمي الحقيقي، كنت أتهرب منهم”.

يعلق “د. فادي نحاس”؛ خبير في الأمن القومي الإسرائيلي، على مدى التعاون “السعودي-الإسرائيلي” في مجال حساس مثل المجال الأمني؛ قائلاً: “بالنسبة للسعوديين من المعروف أن هناك دائمًا تنسيق في المجال الأمني.. ويقومون بإرسال عدد من الوحدات أحيانًا للتدريب، ليس عن طريق الجيش الإسرائيلي، وإنما عن طريق شركات الأمن الإسرائيلية”.

أما “جوزيف أدريان”؛ نائب رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، فقد أكد على أن: “التعاون بين السعودية وإسرائيل يمكننا تسميته بـ «التحالف الصامت».. وهو تحالف يضم في الواقع دول أخرى”.

أحد العرب المشتركون في “مؤتمر النار”، أتضح أنه لبناني الجنسية، يعمل مع شركة أمنية إسرائيلية منذ 5 سنوات، أثناء الحديث معه، من قِبل فريق التحقيق، كشف أن الشركة التي يعمل لحسابها تنشط بأغلب دول العالم العربي.. ويقول مؤكدًا: “لا نستطيع أن نبيع منتجات الشركة داخل لبنان؛ لأن اللبنانيون يمنعون ذلك، ولكننا متواجدون في شمال العراق وفي أربيل..”.

وبالبحث يظهر تقرير لشركة “ماكس MAX” الإسرائيلية الأمنية، نشر على موقعها الرئيس، يشير إلى أنه، في شهر تشرين أول/أكتوبر 2012، وعلى إثر اغتيال مدير فرع المعلومات في الأمن الداخلي اللبناني، “وسام الحسن”، في العاصمة اللبنانية، “بيروت”، قام قسم المخابرات في شركة “ماكس” بتحذير عملاء الشركة من تدهور الوضع الأمني ومخاطر محتملة ميدانيًا. ويختم التقرير أن عناصر تابعين للشركة كانوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ عمليات إخلاء لعملاء الشركة إذا ما أقتضت الحاجة لذلك.

على المستوى العراقي؛ يكشف السياسي العراقي، “عزت الشهبندر”؛ أحد المتابعين لنشاط الشركات الأمنية الإسرائيلية في “العراق”، عن اتفاقية أبرمت بين الحكومة العراقية وشركة “أوليف غروب” الأميركية، والتي تُشرف على تأمين الطريق الدولي الرابط بين الأردن والعراق. يقول “الشهبندر”: “هذه الشركة من أعظم الشركات الموجودة بإسرائيل، والتي تدير مشاريع أمنية في مختلف أنحاء العالم لصالح فلسفة إسرائيل..”. مضيفًا: “أغلب الشركات الأمنية الأم في العالم يقودها الموساد.. ووجود منطقة – على الأقل – لا تعيش العداء مع إسرائيل؛ هذا مكسب كبير جدًا للدولة اليهودية”.

“د. محمد جميل”؛ رئيس “المنظمة العربية لحقوق الإنسان”، مقرها لندن، وتقوم بتتبع نشاط إسرائيل عالميًا، يحاول تقديم معلومات مفصلة عن شركة “ماكس-MAX” الإسرائيلية، والتي تم تأسيسها عام 1996؛ على يد ضباط من الجيش الإسرائيلي، (الشاباك)، منهم المدير التنفيذي؛ “ناعوم شيلر”، عمل في الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي لمدة 12 سنة، و”دور رافي”، مدير المعلومات والمخاطر في الشركة؛ خدم في الجيش الإسرائيلي لمدة 5 سنوات، و”كينون شاحر”، مدير العمليات في الشركة؛ خدم في جهاز (الشاباك) ووزارة الخارجية، و”دانيال نسيمان”، مدير الاستخبارات الإقليمي في الشركة؛ خدم في وحدة النخبة والاستطلاع لمدة 3 سنوات ومازال ضابط إحتياط، و”آيال بن شائول”، مدير فرع الشركة في الهند، “وغيرهم الكثير مِن مَن خدموا داخل الأراضي المحتلة”.

أما عن شركة (ICTS)؛ وهي شركة أمن ذات منشأ إسرائيلي، كانت تعني بأمن المطارات في الولايات المتحدة، فقد أشار تحقيق صحافي نشرته صحيفة (هاآرتس) العبرية إلى أن الشركة أسست عام 1982، على يد “منحيم يدسمون”، العضو السابق في جهاز الأمن العام المعروف بـ (الشين بيت)، وتخضع الشركة للتحقيق على خلفية إخفاق أمني من قِبل عناصرها، تسبب في صعود أحد عناصر تنظيم (القاعدة)، وهو المدعو، “عمر فاروق عبدالمطلب” النيجيري الجنسية، على متن الرحلة (253) التابعة لشركة “نورث ويست” الأميركية، والذي كان يخطط لتفجير الطائرة مستخدمًا عبوة صغيرة أخفاها في ملابسه الداخلية.

كما أوضح تقرير (هاآرتس) أن لشركة (ICTS) شركتين منبثقتين عنها هما؛ شركة (ISTC)، وشركة (PI)، وهما مسؤولتان عن تقديم العديد من الخدمات للمطارات، من ضمنها التفتيش والمراقبة، وأن المسؤول الأمني لهذه الشركة هو من صرح للسيد “عبدالمطلب” بالصعود إلى الطائرة.

ويعرض “د. جميل”، بعض التفاصيل الإضافية عن شركة (ICTS) التي قامت بعرض بضاعتها من الأجهزة والمعدات على “إسرائيل”، ولكن جهاز (الشاباك) رفض عرضها إلى حين فحص تلك الأجهزة، وأخذها ليستخدمها بأسلوبه الخاص في فحص الجوازات التي يقوم بتزويرها ويضمن أن تعبر من تلك الأجهزة الأمنية. مضيفًا؛ حول واقعة القصور الأمني التي وقعت فيها الشركة، أن: “معظم هذه الشخصيات مرت من مطارات تُسيطر عليها شركات أمنية لها إرتباطات بإسرائيل بشكل أو بآخر”.

ولكن بعد هذا الإخفاق الأمني أضطرت هذه الشركة أن تبيع اسمها، (ICTS)، وأسهمها، إلى شركة أوروبية، وتقوم “الولايات المتحدة” بنقل أمن المطارات إلى “وزارة الأمن الداخلي”.

في خضم ذلك التشابك بين الشركات الإسرائيلية الخاصة المتخصصة في المجال الأمني ومهام عمل المؤسسات والأجهزة الحكومية الاستخباراتية لدولة الكيان الصهيوني، يُقر “ديفيد تسور”؛ ضابط مخابرات سابق، قائلاً: “نجحنا في تأسيس الوحدة 8200، وهذا لم يعد سرًا، وهي وحدة عالمية وليست محلية فحسب؛ وهي تستقطب عقولاً تكنولوجية تشكل أساسًا لكل صناعات إسرائيل الناشئة، كما أن إسرائيل معروفة في الولايات المتحدة بأنها أمة المشاريع الناشئة، وجزء كبير من هؤلاء الناس من ترعرعوا في الأجهزة الاستخباراتية لأن العمل في الاستخبارات يتطلب شخصًا يتسم بالإبداع واستخدام التكنولوجيا وتوظيفها.. مزج توظيف التكنولوجيا والإبداع والإبتكار بالاستخبار يقود إلى أعمال استخباراتية رائعة”. والوحدة (8200)، تأسست قبل 30 عامًا، وهي وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المسؤولة عن التجسس الإلكتروني وفك الشفرة. ومسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في الجيش الإسرائيلي.

لتعلق “لاراروك”، مؤكدةً على أن: “خريجو الوحدة 8200، عندما يغادرون الوحدة يوظفون خبراتهم بتأسيس شركات خاصة بهم أو يتولون مناصب عُليا في شركات أمن متخصصة مرتبطة بالاتصالات.. الكثير منهم يعمل في مجال المراقبة والتنصت”.

أما “شاخوف فايسمن”؛ منسقة مشروع “خومهويشن” المعارض للتعامل مع شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية، فتشير إلى أنه “في كثير من الأحيان، فيما يربط بين شركات الأمن وشركات الصناعة العسكرية وصناع القرار في الحكومة أو الموساد أو الشاباك أو غيرها؛ أن جميعهم من الشبكة المغلقة نفسها، في معظم الأحيان هم أشخاص شغلوا مناصب مهمة في وزارة الدفاع وعملوا للأطراف نفسها، وتستمر هذه الصلات بعد أن ينقلون إلى العمل في شركات أمنية خاصة أو شبه حكومية أو حتى في القطاع العام”. موضحة: “الشركات العسكرية التي تعمل في مجال الأمن والدفاع تقوم بتوظيف ما بين 100 ألف إلى 150 ألف موظف هنا في إسرائيل، وهذا الرقم لا يشمل من يعملون في الشركات الحكومية”.

ورغم هذا الكم من المعلومات التي يكشفها التحقيق الصحافي؛ فقد أشار فريق عمله على أنهم حاولوا رصد أيًا من هذه الشركات أو الشخصيات؛ “إلا أنها تحيط نفسها بتحصينات توفرها لها حكومات الدول التي تنشط بها”.

مشيرًا إلى أن إسرائيل تحرص، عبر هكذا معارض ومؤتمرات، على شاكلة مؤتمر “النار-زخرون يعقوب”، التي تنظمها سنويًا، على استعراض القدرات العسكرية والأمنية التي تعرضها شركاتها الأمنية بحضور ممثلين من أنحاء مختلفة من العالم؛ بما فيهم العالم العربي.

كما أنه لا تشكل هذه الشركات روافدًا هامة، معلوماتيًا واستخباراتيًا، فحسب لإسرائيل، بل تشكل أحد روافد  الاقتصاد الوطني الإسرائيلي؛ حيث تثبت إحدى الإحصاءات الرسمية أن: صادرات “الأمن القومي HLS: 5 مليار دولار سنويًا؛ تمثل 5% من إجمالي الصادرات، 25% نسبة زيادة لعام 2016”.

وفيما يخص مستويات التعاون المشترك بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط سواء العربية أو الخليجية، والتي تقدمت بالشكل الحساس الذي وثقه ذلك التحقيق.. يقول “ليئور أكرمن”؛ ضابط (شاباك) سابق: “تعاون من هذا القبيل موجود منذ سنوات طويلة ماضية، أنا أعرف عنه على مستوى الشركات الخاصة، وهو موجود في مجالات عديدة؛ جزء منه مع دول خليجية، حيث حصل على وتيرة مرتفعة”. مستطردًا: “القليل من الإسرائيليين في السابق كان في إمكانهم السفر إلى دول خليجية للتجوال هناك، وأنما اليوم بإستطاعة الكثيرين من رجال الأعمال الإسرائيليين يسمح لهم بالدخول والمشاركة في مؤتمرات ومناسبات ومعارض وإبرام الصفقات، فالتغيير يحدث أيضًا في دول عربية.. الشركات الأمنية الإسرائيلية بات لها موطيء قدم (داخل المنطقة العربية) بسبب أن الوضع العام أخذ في التغيير، وأن نمط التفكير يتغير بعض الشيء؛ من التفكير في القتال ورمي الإسرائيليين في البحر، نحو التفكير في قبولهم والإستفادة المشتركة”.

ويوضح نائب رئيس الأركان الأسبق، “جوزيف أدريان”، أنه: “أصبح الآن هناك خطًا فاصل جديد في الشرق الأوسط، سواء كُنت لبنانيًا أو إسرائيليًا أو مصريًا أو أردنيًا؛ وما إلى ذلك.. الأمر يتلخص بالتعاون لننسق معًا اقتصاديًا واجتماعيًا لمكافحة الإرهاب بكفاءة، لذا نحن منفتحون”.

من جانبه؛ أبدى “إليعيزر تسفرير”؛ الرئيس الأسبق لبعثة الموساد في العراق ولبنان، استغرابه من هذا الاهتمام الإعلامي سواء بالتعاون العربي الإسرائيلي عامة أو بنشاط عمل شركات الأمن الإسرائيلية داخل العالم العربي، قائلاً: “لا أفهم مدى الاهتمام بهذا !.. لأن هناك شركات إسرائيلية تحت الستار أو خلف مسميات آخرى أو بيد عنصر ثالث؛ تقوم بعمل بيزنس مفيد للجانبين، وهذا شيء ممتاز جدًا.. وإن شاء الله هذه الشركات سوف تعلن عن نفسها وبشكل رسمي… إسرائيل تقرر أنه ليس من المفترض أن رجال أمن إسرائيليين يقومون بعمل معين في دولة معينة، فبدلاً من العمل بشكل مباشر نقوم بربطهم مع شركة إسرائيلية تقوم بنفس العملية المطلوبة”.

كما أشار “د. فادي نحاس”؛ خبير في الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن: “واحدة من الاتهامات التي توجه لتلك الشركات الإسرائيلية؛ هي تنفيذ تفجيرات للأماكن المقدسة بالعراق بشكل خاص”. متابعًا: “المشكلة الأساسية في الدول التي تشتري هذه الخدمات، إنها لا تأخذ بعين الاعتبار أو تهتم بأن هذه الشركات قد تؤدي إلى اختراق أمني لمؤسساتها”.

تحت السيطرة.. اللذيذة..

في ربيع 2018، ظهرت الترجمة العربية لـ”دليل الحكومة الأميركية لمكافحة التمرد”، الصادر عام 2009، وهو نتاج صياغة 9 هيئات حكومية أميركية ساهمت في وضع مسودة مشروعه، وهي: “وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وزارة العدل، وزارة الخزانة، وزارة الأمن الداخلي، وزارة الزراعة، وزارة النقل، مكتب مدير المخابرات الوطنية”.

وقد حمل في طياته الكثير والهام من المباديء والمعايير المنهجية والعملياتية لمكافحة التمرد دوليًا، مما يشجع التوقف أمامها بالتحليل والدرس مطولاً، ولكننا نكتفي هنا برصد ما ساقه “الدليل الأميركي لمكافحة التمرد” من تحديد آليات ممنهجة في إستراتيجيته للسيطرة على ما يصفه بـ”التمرد” دوليًا..

ولأن الحرب غير النظامية قد أصبحت اليوم أكثر تنوعًا من الصراع التقليدي بدرجة كبيرة، ونظرًا لأن “مكافحة التمرد” تضع أعباءً كبيرة على كاهل البيروقراطيات في العمل مع الحلفاء والمنظمات غير الحكومية، “فقد لزم الاهتمام بالأطر الفكرية المتماسكة لتوفير التوجيه والمرونة اللازمين للتكيف مع الظروف المختلفة”. بحسب ما أقرت به مقدمة الدليل.

لذلك تبدأ مقدمة “الدليل الأميركي لمكافحة التمرد” بتوضيح ما يُعتبر فلسفة مسودة مشروعه؛ حينما تقول: “إن خبرات مكافحة التمرد الأميركية تستند على عدد من الإفتراضات: منها أن الجهود الحاسمة لهزيمة التمرد نادرًا ما تكون عسكرية، (ينص دليل الميدان للجيش الأميركي الخاص بمكافحة التمرد على أن: “المعركة قد تكون تحيات ومصافحة حارة أثناء الصراع؛ مثلما قد تكون بالقنابل والأسلحة”). وذلك، (على الرغم من أن الأمن هو الشرط الأساس للنجاح). لذا فإن الجهود الأميركية يجب أن توجه إلى إنشاء هياكل حكومية محلية ووطنية تخدم السكان، لتحل تلك الهياكل بمرور الوقت محل الجهود التي يبذلها الشركاء الأجانب؛ ومن ثم فإن المعرفة الدقيقة، ولاسيما فهم «التركيبة البشرية»، (يشمل فهم التركيبة البشرية: فهم المجتمع والبنيان الاجتماعي والثقافة واللغة والقوة والسلطة والمصالح السائدة فيه). أمر ضروري. فضلاً عن أهمية التحلي بالصبر للنجاح في تلك الصراعات الطويلة” (6).

في سبيل ذلك؛ قدمت “الولايات المتحدة” إبتكارات ميدانية ملحوظة في مجال “مكافحة التمرد”، ولعل أهم تلك المبادرات الجديدة يتمثل في إنشاء “فرق إعادة الإعمار الإقليمية”، التي تجمع بين الأفراد المدنيين والعسكريين لتنفيذ الأعمال الإنمائية التي مثلت ضرورة للنجاح في “العراق” و”أفغانستان”. ومثلما تتطور تلك الصراعات، فقد تطورت فرق المساعدة المؤقتة، إذ تغير تكوينها، وفي بعض الحالات تغيرت مهمتها أيضًا.

ويتنبأ الدليل، في مقدمته؛ بأنه من المنتظر أن يمثل “التمرد” عنصرًا ضخمًا ومتزايدًا ضمن التحديات الأمنية التي تواجهها “الولايات المتحدة” في القرن الحادي والعشرين. “فمع أن احتمال نشوب صراع تقليدي ما زال قائمًا، إلا إن الحقيقة أن القوى الرئيسة للنظام الدولي في اللحظة الراهنة مترددة بشدة بشأن الإنخراط في صراع من هذا النوع”. بينما نجد أن “التمرد” يمكن أن يزدهر في البيئة الحديثة، “فالتوترات التي أوجدتها «العولمة» بإنهيار هياكل الدول الضعيفة، والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة والمجرمين، وظهور الإيديولوجيات الراديكالية المدمرة، تنبيء بفترة تكون خلالها الحكومات الحرة المعتدلة في خطر. وفي عالم اليوم، لا يمثل فشل الدولة مجرد مشكلة للمجتمعات المحلية، بل يمكن أن يتعدى ذلك سريعًا ليشكل تهديدًا للأمن العالمي”.

ويقدم الدليل تعريفًا “أميركيًا” لمفهوم “التمرد” عالميًا بأنه: “هو الاستخدام المنظم للتخريب والعنف للإستيلاء على أو تقويض أو تحدي السيطرة السياسية على منطقة ما. ومن ثم فهو في المقام الأول صراع سياسي يستخدم فيه الطرفان القوة المسلحة لإفساح مجال يتيح لهما تفعيل نفوذهما وأنشطتهما السياسية والاقتصادية” (7).

ويرى أنه: “تتطلب حركات التمرد كي تنجح: قيادة كاريزمية، وأنصار، ومجندون وإمدادات، وملاذات آمنة، وتمويل، (غالبًا ما يكون من أنشطة غير مشروعة). وهي لا تحتاج دعمًا فعالاً إلا من جانب عدد قليل من الأفراد القادرين على تقديم الدعم، في الوقت الذي يوفر فيه القبول الضمني من قِبل نسبة كبيرة من السكان المتنازع على ولائهم احتمالية أكبر للنجاح. ويتحقق ذلك القبول على أفضل وجه عندما تكون القضية السياسية المحركة للتمرد ذات جاذبية قوية، فتوظف الهوية الدينية أو القبلية أو المحلية من أجل استغلال المظالم المجتمعية المنتشرة واحتياجات السكان”.

وبالتالي فإن “مكافحة التمرد” عبارة عن مزيج من الجهود المدنية والعسكرية الشاملة التي تهدف إلى إحتواء “التمرد” الحادث ومعالجة أسبابه الجذرية في آن واحد. وخلافًا للحرب التقليدية، فإنه كثيرًا ما تكون الوسائل غير العسكرية هي أكثر العناصر فعالية، بينما تلعب القوات العسكرية دورًا مهيئًا للساحة.

فتركز إستراتيجياتها عادة على السكان بدلاً من العدو، وتسعى إلى تعزيز شرعية الحكومة المتضررة بالتوازي مع الحد من نفوذ المتمردين. ولا يمكن تحقيق ذلك في كثير من الأحيان إلا بالتزامن مع الإصلاح السياسي لتحسين نوعية الحكم، ومعالجة المظالم ذات الأولوية، التي قد يكون الكثير منها مشروعًا.

وبما أن حملات “مكافحة التمرد” الأميركية عادة ما تنطوي على المشاركة في دعم حكومة أجنبية، (إما بشكل مستقل أو كجزء من تحالف)، فإن النجاح غالبًا ما يعتمد على رغبة تلك الحكومة في إجراء التغييرات السياسية اللازمة. حيث إنه لا يمكن للاعب خارجي – مهما كانت درايته الفنية وحماسته – أن يعوض بشكل كامل نقص الإرادة، أو العجز، أو السلوك غير المثمر من جانب الحكومة المدعومة.

ويستخدم هذا الدليل نموذجًا لمكافحة “التمرد”؛ يتألف من خمس مهمات رئيسة :

أولاً: المهمة السياسية.. هي المهمة الرئيسة، وتوفر إطارًا للمصالحة السياسية يدور حول إصلاح الحكم، وهذا هو ما تدور حوله جميع أنشطة “مكافحة التمرد” الأخرى. وبوجه عام فإن إستراتيجية “مكافحة التمرد” تكون جيدة بقدر وجود خطة سياسية في القلب منها.

ثانيًا: المهمة الاقتصادية.. تسعى إلى توفير الخدمات الأساسية وتحفيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، مما يولد الثقة في الحكومة، وفي نفس الوقت يحد من أعداد الشباب والشابات العاطلين عن العمل الذين يسهل على المتمردين استقطابهم.

ثالثًا: المهمة الأمنية.. هي عامل مهييء للوظائف الأخرى، لكنها لا تنطوي فحسب على تنمية القوة العسكرية للدولة المتضررة، وإنما تشمل تنمية القطاع الأمني بالكامل؛ بما في ذلك الإطار القانوني المرتبط به، وآليات الرقابة المدنية والنظام القضائي. فإرساء الأمن ليس مقدمًا على الأنشطة الاقتصادية والحكومية، بل يجب أن يتم تطوير النشاط الأمني والاقتصادي والحكومي بشكل متواز.

رابعًا: المهمة المعلوماتية.. تشمل الاستخبارات، (المطلوبة للحصول على الفهم)، والتأثير، (لتعزيز قضية الحكومة المتضررة). ومن الضروري أن تتماشى حملة التأثير مع الخطاب الإستراتيجي الذي يتردد صداه على مسامع الجماهير المعنية، والمعتمد على الحلول الحقيقية من جانب الحكومة المستهدفة. كما يجب أن تتوافق الإجراءات المادية مع الخطاب.

إن ما يجعل عملية “مكافحة التمرد” مختلفة عن العمليات الأخرى لتحقيق الاستقرار والمهام الإنسانية، (تهدف مهام حفظ السلام إلى إيقاف العنف، بينما تهدف جهود مكافحة التمرد إلى القضاء على التمرد بما يتضمنه ذلك من استخدام للعنف)، هو أن كلاً من مهام عنصري المعلومات، (الاستخبارات والتأثير)، يتنافسان بقوة مع مهام المعلومات، (يسعى المتمردون لجمع معلومات عن خصومهم، وللتأثير على الجماهير لتعزيز قضية التمرد)، التي يحصل عليها المتمردون.

خامسًا: تسهم هذه المهام الأربع السابقة؛ في تحقيق الهدف العام المتمثل في تمكين الحكومة المتضررة من فرض سيطرتها وتعزيزها، ثم نقل المهام من قوات التدخل إلى القوات الوطنية، ومن المؤسسات العسكرية إلى المؤسسات المدنية.

ولا يخفى أنه من المُلح التنسيق بين الأنشطة السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، وهو ما يتطلب توحيد الجهود بين جميع الجهات المشاركة في “مكافحة التمرد”، (الحكومة المتضررة، والوكالات الحكومية الأميركية، وشركاء التحالف). ويتم تحقيق ذلك على أفضل وجه من خلال نهج متكامل للتقييم والتخطيط (8).

وفي إطار استعراض وكشف إستراتيجيات “السيطرة اللذيذة” – إن جاز التعبير – لضبط إيقاع الوعي الجمعي والتلاعب بمشاعر إنسان القرن الحادي والعشرين في وضعية التحكم فيها واحتوائها بمنهجية مدروسة، وخلق ميادين صراع اجتماعي “حديثة”، لمواطني العالم الثالث خاصة، تستنزف قواه الفكرية والجدلية وتحصره داخل مربع السيطرة المبتغى.. يظهر “وحش” اعتباري يملك من المواصفات ما للكائنات الأسطورية من ضخامة وقوة سيطرة، تّكون من توليفة عجيبة من: علوم “هامشية” تم بث الروح في أوصالها وتضخيم نظرياتها وتحديثها لتصبح عماد عمل ونشاطات شركات متعددة الجنسيات تساهم في إدارة ديمقراطيات دول، كتنظيرات “علم النفس الإيجابي والعصبي” وتفريعاتهما المتشعبة، وبعضٍ من مفاهيم وفلسفات قبائل وحضارات ما قبل التاريخ، مثل أسرار “الطوطم والتابو والمذاهب الحيوية والعاطفية”، وغيرها من قواعد السحر والشعوذة التي تم تحديثها لتواكب خوارزمية تكنولوجيا عصر المجتمعات الإفتراضية والسماوات المفتوحة في محيط عولمي شمولي القوانين والمفاهيم إلى حد إبتكار “المراقبة السيكولوجية” للشعوب بما يخدم سياسات ومصالح السوق الحر المفتوح، وأصبحت هناك بالتالي ما يمكن لمسه من اقتصادات كاملة قائمة على ما يسمى بـ”صناعة السعادة” والرفاهية !

“صناعة السعادة”؛ ذاك العنوان الذي اختاره “ويليام ديفيز”، لأحدث دراساته؛ والتي افتتحها بملاحظة موحية خبيثة الذكاء في إبراز حضور “راهب بوذي”، لأول مرة، فعاليات المنتدى الاقتصاد العالمي WEF لعام 2014، والذي يُعقد سنويًا في “دافوس Davos”، ويحضره نُخبة مليارديرات العالم الرأسمالي ورؤساء وممثلي الدول الصناعية والنامية !

ليقدم “ديفيز”، ذلك الراهب البوذي باعتباره: “راهبًا نخبويًا حقيقيًا؛ عالم بيولوجيا فرنسيًا اسمه ماثيو ريكارد Matthieu Ricard، صاحب شهرة محدودة صنعها بنفسه. يعمل مترجمًا عن الفرنسية لـ «الدلاي لاما»، ويعطي دروسًا عن موضوع السعادة ضمن مؤتمرات TED، (إختصار للكلمات: Design Entertainment Technology، وتعني: تقانة وترفيه وتصميم. وهو عنوان لسلسلة مؤتمرات عالمية تُعقد سنويًا، وترعاها مؤسسة «سابلنغ» الأميركية، (Sapling Foundation)، تهدف إلى التعريف بالأفكار الجديدة ونشرها مجانًا على الويب/الموقع الإلكتروني الخاص بها)، وهو الموضوع الذي يحظى براعة إستثنائية في الحديث عنه إستنادًا إلى صيته بوصفه «أسعد رجل في العالم». شارك «ريكارد» عدة سنوات في دراسة خاصة بعلم الأعصاب في جامعة ويسكونسين University of Wisconsin؛ تسعى إلى فهم كيف تحفر وترى مستويات مختلفة من السعادة داخل الدماغ …” (9).

كان حضور “ريكارد” اجتماعات (دافوس)، في العام 2014، تعبيرًا عن تحول أعم في النبرة مقارنة بالسنوات السابقة. كان المنتدى مشغولاً بأحاديث عن “الإستغراق العقلي Mindfulness”، وهي تقنية للإسترخاء تشكلت من توليفة من علم النفس الإيجابي والبوذية والعلاج المعرفي السلوكي وعلم الأعصاب، وتمركزت خمس وعشرون جلسة في اجتماعات 2014؛ حول مسائل تتصل بالصحة العقلية والبدنية، وهو عدد يزيد على ضعف الجلسات المخصصة لهذا الشأن في اجتماعات 2008.

يعلق الباحث: “هذا هو ما يستحوذ على تفكير نخبنا العالمية. فلم تعد السعادة بمختلف مظاهرها مجرد إضافة سارة إلى العمل الأهم؛ وهو جني المال، ولا اهتمامًا من اهتمامات ذوي تلك المرحلة العمرية التي تتيح لمن وصلوا إليها الوقت الكافي ليعدوا لأنفسهم الخبز، بل هي الآن، بوصفها كيانات مرئية يمكن قياسها وتحسينها، قد اخترقت قلعة إدارة الاقتصاد العالمي. إذا كان المنتدى الاقتصادي العالمي يشكل مرشدًا ما – ولطالما أراد أن يكون كذلك في الماضي – فإن مستقبل الرأسمالية الناجحة يتوقف على قدرتنا على التصدي للضغوط النفسية والبؤس والمرض، ووضع الإسترخاء والسعادة والصحة بالمكانة اللائقة. لقد أصبحت التقنيات والمقاييس والتقانات متاحة الآن لتحقيق ذلك، وهي تغزو مقر العمل والشارع الرئيس والمنزل وجسم الإنسان”.

وهنا يحاول الباحث البريطاني وضع يده على المكمن الدقيق لاهتمامات الرأسمالية العالمية حاليًا في توجيه بحث نيوليبراليتها عن فلسفات ومناهج جديدة قد تقيمها من عثرة إنهيارها الأخير في عام 2008، وتُسكن أوجاع ومطالب شعوبها بتغييبهم من ناحية؛ والاستفادة منها إستثماريًا بجعلها مصدرًا لدر الأرباح من ناحية أخرى.. “وفي لندن تحديدًا يسدون النصح لأولئك الذين يشردون عنوة من منازلهم، بشأن كيفية الانتقال عاطفيًا” (!!).

ومع تراكم الأدلة الإحصائية في هذه المنطقة ينمو حقل “اقتصاديات السعادة”؛ ليستفيد من كل تلك البيانات الجديدة في بناء صورة دقيقة تُبين أي المناطق، وأي أنماط الحياة وأشكال التوظيف، أو أي أنواع الاستهلاك هو ما يولد الرفاهية العقلية العظمى.

ليظهر هنا مدى الاحتياج لـ”علم النفس الإيجابي” وتحديثاته التي لاحقتنا منذ تسعينيات القرن الماضي، بتغلغله في ثقافاتنا السياسية والاقتصادية وتسلله إلى حياتنا الاجتماعية، لقياس السعادة والرفاهية. ولكن دون النظر إلى مكمن خطورة هذا العلم الذي ينتهي به الحال بتحميل الأفراد مسؤولية شقائهم وعلاج هذا الشقاء، في حين يتجاهل السياق الذي أدى إلى ذلك. “فتقانات تعُقب الحالة المزاجية وخوارزميات التحليل الوجداني وتقنيات التخلص من الضغوط النفسية باستخدام التأمل، توضع في خدمة مصالح اقتصادية وسياسية بعينها؛ فهي ليست هبات لنا كي نصل إلى إزدهارنا الأرسطي”.

يعلق “ديفيز” على أسباب اهتمام الرأسمالية العالمية الآن بحل مثل هذه المشاكل: “يتعلق السبب بطبيعة الرأسمالية ذاتها. كان أحد الحاضرين في اجتماعات دافوس، في العام 2014، قد ألقى تعقيبًا حوى من الحقيقة أكثر بكثير مما قصد على الأرجح: «لقد أختلقنا المشكلة التي نحاول الآن حلها». كان يتحدث تحديدًا عن كيف أن ممارسة العمل مدة أربع وعشرين ساعة يوميًا، سبعة أيام في الأسبوع، إلى جانب الأجهزة الرقمية المتاحة دائمًا، قد أصابتا المسؤولين الكبار بالإجهاد البالغ ما جعلهم يضطرون الآن إلى الإستغراق في التأمل لمجاراة التبعات. على أي حال، يمكن تعميم التشخيص نفسه على ثقافة الرأسمالية ما بعد الصناعية على نطاق أوسع”.

لقد إنتكبت النُظم الاقتصادية الغربية بأزمة حادة منذ ستينيات القرن الماضي؛ جعلتهم يعولون بدرجة أكبر على إندماجنا الإنفعالي والسيكولوجي، (سواء كان ذلك من خلال العمل والعلامات التجارية، أو من خلال صحتنا ورفاهيتنا)، في الوقت الذي يكتشفون فيه الصعوبة المتزايدة في الحفاظ على هذا الإندماج. ولا تندرج أشكال الانفصال الذاتي؛ الذي يبرز في الأغلب باعتباره اكتئابًا أو أمراضًا سكوسوماتية Psychosomatic تحت بند المعاناة التي يشعر بها الأفراد فقط، بل تستفحل صعوبتها بالنسبة إلى صنُاع السياسة والمسؤولين حين تفسر على أساس اقتصادي. على رغم ذلك ترسم أدلة من علم الأوبئة الاجتماعية صورة مقلقة للكيفية التي تتركز بها التعاسة والاكئتاب في المجتمعات غير العادلة إلى حد كبير، والتي تُشيع فيها قيم تنافسية ومادية فجة. تشدد أماكن العمل بشكل متصاعد على الجماعة والإلتزام السيكولوجي، لكن ذلك يكون في مقابل ميل اقتصادي أطول أمدًا إلى التذرر Atomization وإنعدام الأمن. إن لدينا نموذجًا اقتصاديًا يخفف من آثار السمات السيكولوجية التي يرتكز إليها تحديدًا.

لقد اختلفت الحكومات والشركات بهذا المعنى، الأكثر تاريخية وعمومية، إذاً: “المشكلات التي تحاول الآن حلها”. وأنجز “علم السعادة” النفوذ الذي يتمتع به؛ لأنه يعد بتوفير الحل الذي طال إنتظاره. فقبل كل شيء، يستطيع اقتصاديو “السعادة” تحديد سعر نقدي لمشكلة البؤس والإستلاب. إذ قدرت مؤسسة “غالوب Gallup” لاستطلاع الرأي، على سبيل المثال، أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة يُكلف اقتصاد “الولايات المتحدة” خمسمائة مليار دولار أميركي سنويًا بسبب تدني الإنتاجية والإيرادات الضريبية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية. يسمح ذلك بالزج بإنفعالاتنا ورفاهيتنا إلى قلب الحسابات الأوسع للكفاءة الاقتصادية؛ حيث تؤدي تقنيات علم النفس الإيجابي والتقنيات المرتبطة بها دورًا جوهريًا في مساعدة البشر على استعادة طاقاتهم ودوافعهم. والأمل كامن في احتمال التغلب على الخلل الأساس في اقتصادنا السياسي الراهن من دون مواجهة القضايا الاقتصادية والسياسية الخطيرة. فغالبًا ما يدور “علم النفس” حول الكيفية التي تتحاشى بها المجتمعات النظر في المرآة.

السبب البنيوي الثاني للاهتمام المتعاظم بـ”السعادة”؛ مربك أكثر بعض الشيء، وهو يتعلق بالتقانة. فحتى وقت قريب نسبيًا، ظلت محاولات أغلب العلماء لمعرفة الطريقة التي يشعر بها فرد آخر، أو للتلاعب بها، تجري داخل مؤسسات محددة بشكل رسمي كالمختبرات والمصحات النفسية وأماكن العمل والجلسات النقاشية “Focus Groups”؛ أو ما شابه. تغيرت الحال الآن؛ فقد نشر (فيس بوك Facebook)، في (تموز) يوليو 2014، ورقة أكاديمية تضم تفاصيل بشأن الكيفية التي بدل بها الحالات المزاجية لمئات الآلاف من مستخدميه؛ وذلك من خلال التلاعب بالخلاصات الإخبارية، “News Feeds”، الخاصة بهم، ما سبب اندلاع نوبة احتجاجية بذريعة السرية التي أحاط بها (فيس بوك) بحثه. لكن مع إنقشاع الغيمة تحول الغضب إلى قلق: ترى هل يجشم (فيس بوك) نفسه عناء نشر ورقة كهذه في المستقبل، أم يكتفي بمواصلة التجربة على أي حال ويحتفظ بالنتائج لنفسه ؟

إن رصد مشاعرنا وحالاتنا المزاجية يغدو إحدى وظائف بيئتنا المادية. في العام 2014، اختبرت الخطوط الجوية البريطانية “بطانية سعادة” تصف مستوى رضا المسافر عبر الرصد العصبي؛ إذ يتحول لون البطانية من الأحمر إلى الأزرق كلما استرخى الركاب أكثر؛ ما يعطي مؤشرًا إلى طاقم شركة الطيران بأن ما يقدمونه من رعاية مناسب إلى حد كبير. ويتوافر الآن في السوق قدر من التقانات الاستهلاكية لقياس وتحليل مستوى السعادة؛ بدءًا من ساعات المعصم إلى الهواتف الذكية إلى “فيسل Vessyl”؛ وهو كوب ذكي يرصد ما تتناوله من سوائل من ناحية آثاره الصحية.

كان إحدى الحجج النيوليبرالية المؤسسة، دعمًا لـ”السوق”، تزعم أنه يعمل كجهاز أستشعار رحب، يلتقط الملايين من رغبات الأفراد وآرائهم وقيمهم، ويحولهم إلى أسعار. ربما نكون على أعتاب “عصر ما بعد نيوليبرالي” جديد لم يعُد فيه “السوق” الأداة الرئيسة لإلتقاط مثل هذا الوجدان الاجتماعي، فبينما تغرق أدوات رصد سعادتنا حيواتنا اليومية، تبرز طرق أخرى للتقدير الكمي للمشاعر فوريًا بصورة قد تتوغل بها في حيواتنا أكثر من الأسواق.

كانت المخاوف الليبرالية بشأن الخصوصية تعتبرها عادة شيئًا في حاجة إلى الموازنة في مقابل الأمن. لكن اليوم، نحن مضطرون إلى التصدي لحقيقة أن قدرًا ضخمًا من المراقبة يجري بهدف تحسين صحتنا وسعادتنا والإشباع المعنوي أو لذاتنا المحسوسة. وبصرف النظر عن البواعث وراء ذلك، فإننا لو تصورنا وجود حدود للمدى الذي ينبغي لحيواتنا أن تخضع فيه للإدارة بشكل محترف، فلا ريب أن هناك حدودًا للقدر الذي ينبغي أن نطمح إليه من الإيجابية البدنية والنفسية. إن أي انتقاد للمراقبة الواسعة ينبغي أن يتضمن الآن انتقادًا لتعظيم الرفاهية، حتى إن جاء ذلك على حساب الصحة والسعادة والثراء.

لا يشير إستيعاب تلك الإتجاهات باعتبارها تاريخية أو سوسيولوجية في حد ذاته إلى الطريقة التي ربما تعرضت بها للمقاومة أو الرفض. لكنه يحظى بفائدة تحررية عظيمة: من خلال تحويل اهتمامنا النقدي نحو العالم في الخارج، لا إلى الداخل نحو مشاعرنا وأدمغتنا وسلوكنا. غالبًا ما يقال إن الاكتئاب “غضب إنقلب إلى الداخل”، وفي كثير من النواحي، فإن علم السعادة “نقد إنقلب إلى الداخل” على رغم كل توسلات مختصي علم النفس الإيجابي كي “نُبصر” العالم من حولنا. ليس في استطاعة الإفتتان الذي لا هوادة فيه بكميات المشاعر الذاتية غير أن يحول الإنتباه النقدي بعيدًا عن المشكلات الاقتصادية والسياسية الأوسع. لذلك، بدلاً من السعي إلى تبديل مشاعرنا، ها قد حان الوقت المناسب كي نستدعي ما قلبناه إلى الداخل ونحاول توجيهه إلى الخارج مرة أخرى. وواحدة من طرق البدء هي إلقاء نظرة متشككة على تاريخ قياس السعادة نفسه. (10)

هنا ظهرت لنا اختيارات محددة، تدفعنا إليها رأسمالية اليوم ضمن إستراتيجيتها الحديثة.. يوضح الباحث قائلاً: “هكذا كانت وستظل الخيارات: إما النقود وإما الجسم؛ الاقتصاد أو الفيسيولوجيا؛ الدفع أو التشخيص. لو قدر للسياسة أن تصبح علمية وتتحرر من هراء التجريد، فسيكون إنطلاق المشروع من خلال الاقتصاد أو الفيسيولوجيا أو توليفة ما منهما”.

حين أطلق هاتف (iPhone 6)، في (أيلول) سبتمبر 2014، كان التجديدان الجوهريان فيه كاشفين تمامًا: تطبيق يراقب النشاط الجسدي، والآخر يمكن استعماله في السداد داخل المتاجر. أينما أبتغى الخبراء رصد عاداتنا في التسوق؛ أدمغتنا أو مستويات إجهادنا النفسي، فهم يسهمون في المشروع الذي وضع “بنتام”، (غيرمي بنتام Jeremy Bentham؛ فيلسوف إنكليزي، يُعتبر من مؤسسي مذهب النفعية)، أسسه. ومنزلة المال في هذا العلم مثيرة للاهتمام؛ ففي حين تتعرض المفاهيم الأخلاقية والسياسية للهجوم بوصفها تجريدات عقيمة وغبية، ينظر إلى لغة الباوندات والبنسات على أنها على علاقة طبيعية وراسخة إلى حد ما بمشاعرنا الداخلية. إن هذه المنزلة الإستثنائية التي تعزى إلى الاقتصاد منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن، بوصفه أقرب إلى أن يكون علمًا طبيعيًا من أن يكون علمًا اجتماعيًا، هي من إرث هذه النظرة إلى العالم.

قد تبدو “مشكلة القياس” مسألة جافة تتعلق بالمنهجية العلمية. فلا ريب أننا نعلم جميعًا ما كان “بنتام” يقصده؛ حين قال إن على الحكومة أن تسعى إلى تحقيق السعادة القصوى للجميع؛ فهل نحن في حاجة حقًا إلى أن يتوقف تفكيرنا عند تفاصيل كيفية حساب هذه السعادة ؟.. نستطيع بالطبع أن نهب “بنتام” منزلة فيلسوف ونتجاهل تطلعاته التقنية والإبتكارية. كما نستطيع أن نتأمل الطريقة التي يعمل بها “مذهب المنفعة” نظريًا من خلال ممارسة ألعاب تحليلية داخل قاعة البحث الفلسفي.

يستمر “ديفيز”؛ شارحًا: “كانت النقطة الطاردة في الرأسمالية تتعرض للإزاحة. فمنذ «آدم سميث» وصولاً إلى «كارل ماركس»، كان ينظر إلى المصنع والعامل على أنهما مؤشران يحددان سعر ما يُباع داخل السوق. لكن منذ العام 1870 فصاعدًا، تغير كل هذا. صارت “الحاجات” الداخلية للمستهلك الآن هي محل إنبعاث التساؤلات المتعلقة بالقيمة. من هذا المنظور، أصبح العمل لا يعدو أن يكون شكلاً من “المنفعة السلبية”؛ نقيض “السعادة”، نتجشمه كي نجني مزيدًا من النقود كي ننفقها على تجارب ممتعة، (“نحن نعمل كي ننتج وهدفنا الوحيد هو الاستهلاك، وينبغي أن تتحدد أنواع وكميات السلع التي ننتجها في ضوء ما نحتاج أن نستهلكه”. ويليام ستانلي غيفونز William Stanley Jevons؛ “The Theory of Political Economy”)، كان الإحساس الذاتي وتفاعله مع الأسواق يرفع لمنزلة القضية المركزية لعلم الاقتصاد”.

في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه، (نظرية الاقتصاد السياسي)، كان يرى “غيفونز” بوضوح ان كتابه يُعد بداية جديدة لفرع معرفي أكثر صرامة مما في مستطاع المشتغلين في حقل الاقتصاد السياسي تحقيقها؛ إذ لم تكد ترسي الدعائم الرياضياية الصحيحة حتى ترتكز دراسة الاقتصاد إلى أسس موضوعية جديدة.

بالنسبة إلى “غيفونز”، كان كل شيء مسألة توازن مقيسة من ناحية الكم. وقد جعله إفتتانه بخصائص العقل الشبيهة بخصائص الآلة؛ رائدًا لنوع من التفكير السبراني Cybernetic، الذي سيتمخض لاحقًا عن علم الحواسيب.

يصف “ديفيز”؛ السوق لهؤلاء الفلاسفة والمنظرين، ما قبل “غيفونز”؛ “كان السوق عبارة عن بيان سيكولوجي واسع يكشف رغبات المجتمع ويمثلها”.

أما “غيفويز” فقد حول السوق بفاعلية إلى آلة رحبة لقراءة العقل، تعمل فيها الأسعار – أي النقود – أداة تجعل من هذه القراءة أمرًا ميسورًا. هكذا كانت الحال، النقود ليست أداة عادية، وعلم الاقتصاد ليس بالعلم العادي. صار النموذج الأمثل لإخراج عالم الإنفعالات والرغبات غير المرئية إلى حيز الرؤية؛ مرتبطًا الآن على نحو وثيق بالنموذج الأمثل للسوق الحرة.

لقد درس الاقتصاديون الكلاسيكيون الرأسمالية من ناحية الجهد والعرق والمردود المادي الناتج. أما “غيفونز” فقد عرضها بوصفها مجرد لعبة هواجس ومخاوف، وقدمها بشكل رياضياتي.

وجاءت إرهاصات تطبيق تلك التنظيرات الحديثة على السوق.. تم افتتاح أول مركز تسوق في العالم بـ”باريس”، في العام 1852، متيحًا تجربة التسوق التي نعرفها الآن. لم يسبق للمنتجات قط أنها عُرضت مفصولة على نحو سحري عن منتجيها، وغير حاملة لشيء سوى بطاقة سعر تعرض ألم الحصول عليها.

يُعد “غيفونز” واحدًا من مهندسي ما يشار إليه في الأغلب باعتباره كائنًا اقتصاديًا “homo economicus”، وهو تصور بائس إلى حد ما للكائن البشري الذي لا يكف عن الحساب، وتحديد الأسعار للسلع، ويسعى بشكل عُصابي خلف مصالحه الشخصية عند كل منعطف.

في نهاية القرن التاسع عشر صار للكائن الاقتصادي معنى؛ باعتباه نظرية علمية تساعد في فهم الأسواق، ولم يكن هناك على الإطلاق ما يستلزم تطبيقها خارج الحلبة المالية. كانت نظرية تعظيم المنفعة، كما طورها “غيفونز” وآخرون في سبعينيات القرن التاسع عشر، مفيدة إلى حد أنها فسرت لِم يشتري الناس ويبيعون. لكنها لم تتجاوز ذلك، بيد أن هذه النظرية الاقتصادية توسعت بشكل كبير خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى أن وصلت إلى خدمة الوظيفة العامة الأوسع نفسها، والتي سعى مذهب “بنتام” النفعي الأصيل إلى تحقيقها. إن ما بدأ بوصفه نظرية عن المبادلات في السوق تضخم شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح نظرية عن العدالة.

إن علم الاقتصاد أصبح يستخدم بوصفه أساسًا لاتفاق عام أوسع يتجاوز حدود السوق. إذ تتسع التقنيات التي تبتكر لدراسة الإتزان في تبادلات سوق خاصة صغيرة من أجل إصدار أحكام على خلافات أخلاقية عامة كبرى. تأمل ماهية النشاط الغريب الذي يدور في القلب من هذا: مواطنون منتشرون في أنحاء “أميركا” مطلوب منهم أن يغمضوا أعينهم وأن يتخيلوا ما يتعين عليهم شخصيًا دفعه للحيلولة دون وقوع حادث ما بعيد. لابد أن يغوصوا داخل أعماقهم بحثًا عن رقم ما يعتقدون أنه مساوٍ لقيمة تنظيف الشريط الداخلي. يا لها من تقنية عجيبة تقوم على إستبطان غريب من المُحال تمامًا إثبات دقته بأي شكل، بل تحظى بسلطة تفوق، لنقل، شهادات القضاة أو المسؤولين المنتخبين أو خبراء الحياة البرية.

ومع ذلك تتنامى السلطة السياسية لمثل هذه التقنيات بمرور الوقت.. تُمثل هذه التقنيات مراوغة بين نظرة ديمقراطية تتطلب سماع صوت الناس، وعلم بنتامي ينادي بأن الأرقام وحدها هي الجديرة بالثقة. لكن المُحصلة صعبة التناول هي أن الناس ربما يتكلمون، لكن شريطة أن يتبنوا المقاييس والأسعار باعتبارها لغتهم. وكي تكون لهم كلمة عليهم تقليد الآلة الحاسبة.

بعد العام 2008، الذي شهد أكبر أزمة مالية منذ العام 1929، قادت إلى أطول ركود منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت هذه هي الأرضية التي أعتقد عدد هائل من واضحي الذكاء ضرورة مناقشة الاقتصاد السياسي على أساسها. فقد يكشف إنعام النظر داخل الدماغ عن الخطأ الذي جرى بالضبط. هكذا لم تكن الضغوط الإستراتيجية التي مارستها البنوك على التشريعات المالية منذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعدًا هي الملومة، ولا الباب الدوار بين “البيت الأبيض” و”غولدمان ساكس”، (غولدمان ساكس Goldman Sachs: بنك إستثماري عالمي مقره “نيويورك”، يُطلق عليه “صانع الصفقات الرقم 1 في وول ستريت”؛ والإشارة هنا إلى الشبهات التي حامت حول استفادة البنك من حزمة إنقاذ القطاع المالي البالغة 700 مليار دولار من خلال علاقته بوزير الخزانة آنذاك، “هنري بولسون Henry Paulson”، والذي كان رئيسًا للبنك في وقت سابق.)، كما لم تكن حقيقة أن البنوك الإستثمارية كانت لديها القدرة على رشوة وكالات التصنيف الائتماني لتمتدح المنتجات المالية التي لا قيمة لها. كلا، كانت المشكلة التي عصفت بدنيا المال تتمثل في إحدى مواد كيمياء الأعصاب الخطأ.

وأمام هكذا آليات سوق نيوليبرالي حديثة، نجد الأحوال على الطرف المقابل من سوق العمالة أكثر إشراقًا، لكنها لا تقل وحشية بطريقة أو بآخرى. كما يرى “ديفيز”. ففي حين تتصدى “آتوس” و”إيه فور إي” و”إينغوس” لبلادة وتشاؤم الفقراء، يجني مستشارو العافية الراقون مبالغ هائلة من خلال تلقين النخب بالشركات كيفية الإبقاء على أنفسهم داخل حالة من اللياقة السيكوسوماتية المُثلى. فدروس كـ”البرنامج الرياضي للشركات”، Corporate Athlete Course، الذي يقدمه؛ “د. غيم لوهر Jim Loehr”، ومدته يومان ونصف اليوم بقيمة 4.900 دولار، تُعرف المديرين التنفيذيين بإستراتيجيات نخبوية في إستثمار الطاقة تمكنهم من تحقيق مستوى أداء رفيع للعافية الجسدية والعقلية. ويبيع معلم الإنتاجية الأميركي، “تيم فيريس Tim Ferriss”، النصح بشأن الطريقة المُثلى التي يوظف بها المديرون الكبار أدمغتهم في أثناء يوم العمل، بعد عمله السابق في بيع مكملات غذائية مشكوك فيها، لتحسين وظائف الدماغ.

تنتقل دائرة الاستشارات هذه بسلاسة بين مجالات خبرة منفصلة بشكل واضح. إذ تمتزج سيكولوجيا الدافعية مع فيسيولوجيا الصحة، منتجة بين الحين والآخر إستبصارات من مدربين رياضيين وخبراء تغذية يضاف إليها خليط من شائعات “علم الأعصاب” وممارسات التأمل البوذي، فتتداخل مفاهيم شتى عن “اللياقة” و”السعادة” و”الإيجابية” و”النجاح” من دون شرحٍ واف عن الكيفية أو السبب. والفكرة التي تلازم كل هذا هي أن هناك شكلاً مثاليًا واحدًا للوجود الإنساني: مجدًا في العمل؛ سعيدًا، يتمتع بالصحة، وفوق كل شيء، ثريًا. ويُبنى علم يختص بكمال الصفوة مستثمرًا نجاح هذه الرؤية الرأسمالية البطولية. لكن الجانب الآخر من هذا، والقوة الدافعة الحقيقية وراء الكثير من البرامج المعنية بعافية المديرين التنفيذيين، هو مجموعة من المخاطر التي خضعت للبحث الجيد الذي أجراه رجال أعمال على درجة عالية من التنافسية، والتي أشتهرت بين العامة باسم، “الإنهاك” Burn-Out، وتشمل: الفرصة الكبيرة للإصابة بالنوبات القلبية، والسكتات الدماغية، والإنهيارات العصبية.

وعليه؛ فإن إحدى طرق إستيعاب “النيوليبرالية” هي دراسة كيف تطورت الأمور: تصاعد أجور التنفيذيين؛ المستويات غير المسبوقة للبطالة؛ الهيمنة المتزايدة للقطاع المالي على بقية الاقتصاد والمجتمع؛ توسعة تقنيات إدارة القطاع الخاص لتشمل كل مناحي الحياة.

وعلى مستوى تفصيلي؛ تطرح شعارات مثل “أفعلها فقط”، و”أستمتع أكثر”، Enjoy More، والتي تخص (نايك Nike) و(ماكدونالدز McDonald’s)، على الترتيب، الأوامر الأخلاقية في مرحلة ما بعد الستينيات النيوليبرالية. حيث تُصبح المباديء الأخلاقية المفارقة الأخيرة لمجتمع يرفض السلطة الأخلاقية، وكما دفع به “سلافوي غيغيك Slavoj Zizek”، فقد صار الأستمتاع فريضة تفوق الإمتثال للقواعد. وبفضل ما لـ”مدرسة شيكاغو”، (مدرسة تطويرية في علم الاقتصاد)، من تأثير في المنظمين الحكوميين، فإن الأمر لا يختلف بالنسبة إلى ربحية الشركات.

وهكذا؛ ينشأ “الاضطراب الاكتئابي التنافسي” المرتبط بالنيوليبرالية، لأن الإلزام بتحقيق نفع أكبر – سواء كان مقيسًا من خلال النقود أو الأعراض البدنية – يخصخص. وتُصبح إمكانية، بل ضرورة، أن تُضحي المؤسسات والناس أكثر ثراءً ونجاحًا وصحة، أشد إلحاحًا. ويصير المنطق القائل أننا نتحمل مسؤولية سياسية أو أخلاقية معينة نحو الضعفاء، ما يتطلب منا فرض قيود على الأقويا، معطلاً في حضرة “مدرسة شيكاغو” للاقتصاد أو مدرسة “سانت لويس” للطب النفسي. إذ تشدد السلطة ببساطة على القياس والتصنيف والمقارنة ووضع القوي في مواجهة الضعيف من دون إصدار أحكام، كاشفة للضعفاء مدى قوتهم المحتملة، ومؤكدة للأقوياء أنهم يربحون، على الأقل في الوقت الراهن.

لقد برهنت توليفة من “علم النفس الإيجابي” وتحليلات وسائل التواصل الاجتماعي؛ على أن الأمزجة والإنفعالات الاجتماعية تنتقل عبر الشبكات، تمامًا كإكتشاف “كريستاكيس” بالنسبة إلى السلوك الصحي. فعلى سبيل المثال، وجد الباحثون في “جامعة بيهانغ Beihang University”، بالصين، من خلال تحليل محتوى رسائل الوسائط الاجتماعية، إن أمزجة بعينها مثل الغضب تميل إلى الإنتقال أسرع من غيرها عبر الشبكات. ويشتهر الإطار السلبي للعقل، بما فيه الاكتئاب ذاته، بأنه مُعد اجتماعيًا.

ان عددا قليلا من ادوات المرافبة الجديدة قد اخترع بهدف التلاعب بنا او انتهاك خصوصيتنا لاغراض سياسية ، بل على العكس؛ كان اختراعها مدفوعابفطرة علمية نزيهة هي ان رخاء البشرية سيتحسن اذا امكن استيعاب طبيعة الرفاهية على نحو افضل من خلال تعقبها باستمرار.

وحتى تضمن تلك المنظومة التوليفية سهولة انتشار أفكارها وتمهيد الذهنية الجمعية لما تصدره من مباديء؛ عليها القيام ببعض المهام.. يقول “ديفيز”: “إن الممارسات والأفكار التجارية لا تنتشر من تلقاء نفسها؛ حتى إن بدا أن لها منافع واضحة، بل تحتاج إلى دفعةً ما. وقد يتطلب الأمر أحيانًا إزالة عراقيل سياسية وثقافية قبل تبني تلك الممارسات والأفكار في مرحلة لاحقه..”.

ومن أهم تلك المهام والخطوات التنفيذية، آلية “المراقبة السيكولوجية”.. ليصل الباحث البريطاني إلى شرح تلك الآليات: يشتق مصطلح “بيانات data” من الأصل اللاتيني، “datum”، وهو الذي يعني حرفيًا: “ما يعطى”. وهذه في الأغلب أكذوبة فاضحة. ذلك أن البيانات التي تُجمع من خلال الدراسات المسحية والتجارب السيكولوجية نادرًا ما تُمنح عن طيب خاطر، بل تُنتزع بقوة الخضوع للمراقبة بسبب تفاوت القوى، أو تعطى لقاء شيء آخر، كمقابل مادي أو فرصة للفوز بلوح ذكي مجانًا. في أغلب الأحيان، تُجمع تلك البيانات بطريقة سرية، كشأن المرايا أحادية الإتجاه التي تراقب من خلالها مجموعات الدراسة. في العلوم الاجتماعية، كعلم الإناسة، تُعد الشروط التي تجمع البيانات وفقًا لها، (في تلك الحالة، من خلال المشاركة والمراقبة المطولتين)، مسألة تفكير مستمر. لكن في العلوم السلوكية، يُضمر المصطلح البريء، “data”، عتادًا ضخمًا من القوة يمكن من خلاله دراسة ومراقبة وقياس وإقتفاء أثر الناس، سواءً قبلوا أو لا.

من الواضح أن هذا البُعد السياسي كان لايزال جليًا في عشرينيات القرن الماضي، حين كانت وكالة “غيمس والتر طومبسون”، (الدعائية، التي لها الريادة في مجال تطوير فنون الإعلان إلى علم مستقل؛ ومن أوائل الوكالات التي اعتمدت آلية استطلاع آراء المستهلكين)، تتوسع خارج الحدود. مع أنه قد تراجع عن الأنظار في السنوات التالية، حين صار السؤال عن آراء الناس أو إحساسهم أو نياتهم للتصويت أو طريقة تلقيهم بعض العلامات التجارية، مسائل بسيطة. الوضع مشابه بالنسبة إلى السؤال عن “السعادة”، فمؤسسة “غالوب” تستطلع آراء ألف شاب أميركي بشأن إحساسهم بـ”السعادة” أو “الرفاهية” يوميًا، كما تتيح لهم تتبع المزاج العام بإسهاب، يومًا تلو الآخر. ونحن على دراية كبيرة الآن بفكرة أن المؤسسات النافذة لديها الرغبة في معرفة مشاعرنا وطريقة تفكيرنا، وأن هذه الرغبة لم تُعد تبدو مسألة سياسية. على رغم ذلك لا يمكن إنكار أن هياكل السلطة التي تتيح الحصول على البيانات السلوكية والسيكولوجية هي التي شكلت، وبقوة، الإمكانيات المضمرة لتلك البيانات. إن الانفجار الذي تشهده حاليًا البيانات المتعلقة بـ”السعادة” و”الرفاهية” ناجم بلا ريب عن تقانات وممارسات المراقبة الحديثة. وهذه بدورها تستند إلى التباينات المسبقة في توزيع السلطة.

وهنا نجد أنه في المقام الأول، هناك الصعود الأشهر للبيانات العملاقة Big Data. مع رقمنة مختلف تعاملاتنا اليومية مع تجار التجزئة؛ ومقدمي الرعاية الصحية؛ والبيئة الحضرية؛ والحكومات وغيرها، تتيح تلك الجهات تسجيلات أرشيفية ضخمة؛ يمكن تحصيلها باستخدام قوة تقنية كافية. تنظر الشركات إلى الكثير من تلك البيانات التي تجمعها، والتي تعتقد أنها تسيطر على ثروات لا حصر لها بالنسبة إلى هؤلاء الذين يرغبون في التكهن بالطريقة التي سيتصرف بها البشر في المستقبل، بوصفها ملكية ثمينة، والعديد منها، مثل الـ (فيس بوك)، تميل إلى حجب تلك البيانات؛ وهكذا تتمكن من تحليلها لمصلحتها، أو بيعها إلى شركات تعني بأبحاث السوق.

يعلق الخبير الاقتصادي المصري، “مجدي عبدالهادي”، على تلك التوليفة الغرائبية التي تستعين بها سياسات النيوليبرالية كمنظومة متكاملة تقيم بها أودها حاليًا، قائلاً: “يحتاج استمرار التراكم الرأسمالي بأوسع معانيه لـ «عظمة» يغري بيها الناس لتقديم قواهم الإنتاجية من الوجهتين، وجهة «قوة عملهم» لتحقيقه ماديًا، ووجهة «طلبهم الفعّال» لتصريفه تداوليًا؛ ومن ثم تجديده اجتماعيًا، أي قواهم الإنتاجية كعاملين ومستهلكين في ذات الوقت”.

متابعًا: “ذلك التراكم الرأسمالي؛ في سعيه لتحقيق هذا، لا يكفيه الإكراه بالتجويع؛ إذ أن قدرة النظام على الإنتاج وحاجته للتراكم المتزايد تجاوزت، مع تصاعد إنتاجية العمل الاجتماعي، مستوى الكفاف البسيط منذ زمن بعيد، وهو ما فرض مستويات استهلاك أعلى من ذلك الكفاف؛ فأصبح على النظام تطوير أشكال أرقى من الإغراء؛ فبدأ في تقديم صياغاته للسعادة، وهكذا إنتقل المجتمع من التعامل مع «حاجات» الإنسان، إلى خلق «رغبات» له؛ فالحاجات منشأها طبيعي، فيما الرغبات اختراعات اجتماعية، حتى ولو كانت تحويلاً مُطورًا أو مُشوّهًا، لا فارق، لغرائز وحاجات طبيعية”.

ومن خلال هذه الرغبات، أصبح بمقدور النظام إغراء الناس بتقديم المزيد من العمل، بل وإجبارهم عليه مع تحوّل هذه الرغبات لمتطلبات شبه ضرورية، أي كفاف اجتماعي، فيسعون لمزيد من الدخل، يقدمونه من الجهة الأخرى للتراكم في صورة طلب استهلاكي فعّال، معتقدين إنهم بذلك يحققون سعادتهم.

وكما يرى “عبدالهادي”؛ المشكلة هنا ذات وجهين :

أولهما: أن هذه المطالب الجديدة تفرض ضغطًا جديدًا على الناس، وهو ما يمكن ملاحظته بيُسر بمقارنة الأجيال الحالية بالأجيال السابقة، وتحديدًا في مجال الكماليات التي أصبحت ضرورات، التي كما وفّرت منافعًا جديدة، فإنها خلقت ضغوطًا أكبر بكثير، خصوصًا مع كون الآليات الطبيعية للنظام لا توفّر الإشباع، للجميع؛ بحكم آليات المنافسة، وقيود النظام نفسه فيما يتعلق بتوزيع الدخل..

أما ثانيهما: فهو الجانب الذاتي المتعلق بكون أغلب هذه المطالب الجديدة؛ مُختلق أو يمثل صياغات مُعممة ومفروضة بقصف إعلامي وإعلاني كثيف، يخلق إغترابًا استهلاكيًا، موازيًا للإغتراب الإنتاجي السابق،  يسعى فيه الإنسان لإشباع رغبات مُنمطة، بفعل ذلك التشويش الإعلامي/الاجتماعي على ذاتيته، رغبات لا تحقق سعادته الحقيقية وفقًا لمطالبه الذاتية الخاصة جدًا، غير الخاضعة بالضرورة لصياغات النظام المفروضة بمنطق “الإنتاج الكبير” التنميطي.

هذا بالإضافة إلى أزمات الرأسمالية المزمنة، وحاجتها لتصريف فوائض الإنتاج وتوسيع الاستهلاكية، ومشكلات الأطراف الأكثر عمقًا في هذا الصدد.

……………………………………………..

المـصـــادر :

  • ترجمة: سعد عبدالعزيز – (“إسرائيل اليوم” : العالم العربي يفضل “تل أبيب” مستقرة والديمقراطية الإسرائيلية نموذج يُحتذى !) – صحيفة (كتابات) – بتاريخ 19 تشرين ثان/نوفمبر 2018.
  • ارجو مراجعة دراسة (البحث عن جذور السيسي التاريخة)؛ وبالاخص المقالة الثالة منها بعنوان (داعشوفوبيا.. لاجهاض الثورات) – لكاتب السطور – (الحوار المتمدن) – العدد: 5055 بتاريخ 25 كانون ثان/يناير 2016.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=502239

  • ناهض حتر – (ربيع زائف.. نقد الثورات العربية لعام 2011 من وجهة نظر حركة التحرر الوطني) – مركز التقدم الأردني للتنمية والثقافة – الطبعة الأولى 2013.
  • ناهض حتر – (ربيع زائف…) – مرجع سابق.
  • وثائقي (تحقيق خاص: شركات إسرائيل الأمنية.. خطر يهدد الأمن القومي العربي) – قناة الجزيرة إنتاج 2018 – https://www.youtube.com/watch?v=npV39sRCs8E&t=4s
  • “الدليل الأميركي لمكافحة التمرد” – المعهد المصري للدراسات – ترجمة: خالد أحمد، أحمد مولانا – 28 آذار/مارس 2018.
  • “الدليل الأميركي لمكافحة التمرد” – مرجع سابق.
  • “الدليل الأميركي لمكافحة التمرد” – مرجع سابق.
  • ويليام ديفيز – (صناعة السعادة.. كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية ؟) – ترجمة: “مجدي عبدالمجيد خاطر” – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت – أيلول/سبتمبر 2018.
  • ويليام ديفيز – (صناعة السعادة) – مرجع سابق.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب