17 نوفمبر، 2024 12:29 ص
Search
Close this search box.

مع كتابات..عمار الثويني: العراق الأمل واليأس والعشق الأبدي

مع كتابات..عمار الثويني: العراق الأمل واليأس والعشق الأبدي

خاص: حاورته- سماح عادل

“عمار الثويني” كاتب عراقي، عمل في مجال الاتصال التسويقي والعلاقات العامة. تمثل الرواية والأدب اهتمامه الكبير حيث أصدر ثلاث روايات: “في ذلك الكهف المنزوي”، و”القديسة بغداد”، و”مشحوف العم ثيسجر”، وله مخطوط رواية رابعة “الغول البهي”. يكتب عدة مقالات نقدية وعمل في فترة من الفترات مع صحيفة البيان الإماراتية حيث نشر نقداً وعرضاً لأكثر من 40 كتاباً في شتى حقول المعرفة.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

  • شغفي بالقراءة بدأ من عمر صغير، وساعدني في ذلك مكتبة والدي رحمه الله التي كانت تحوي عدداً جيداً من كتب الشعر والتاريخ والتراث إضافة إلى جلساته الأدبية والثقافية التي يقيمها وكنت أحرص على حضورها والاستماع لما يدور فيها.

تطور هذا الأمر في فترات الشباب عندما بدأت أشتري الكتب، خاصة الأدبية والفلسفية والفكرية، وأطالع هذه الكتب وقت الفراغ. وعلى الرغم من أن طبيعة عملي في السنوات الأخيرة تستهلك معظم ساعات اليوم، وقد أثرت بشكل كبير في حيز الوقت المتاح للقراءة، أحرص على استثمار كافة أوقات الفراغ للقراءة والمطالعة. ليست لدي طقوس خاصة في القراءة، ولكن عندما أقرأ، فإنها من أجل الفائدة والتحليل وليس لمجرد المتعة. القراءة بالنسبة لي شغف أبدي وعشق لا حد له، والمكتبة محراب مقدس والقارئ الدائم ناسك يستحق التبجيل.

(كتابات) في (رواية القديسة بغداد) هل كنت تسعى لتأريخ أحداث الحرب من خلال حكايات عن الضحايا؟

  • الرواية ارتباط وثيق بالتاريخ، ولكن هذا الارتباط ينبغي أن يكون إنسانياً أكثر مما تقريرياً أو إعادة محاكمة التاريخ أو القفز على حقائقه المعروفة إلا في حالات استثنائية جداً وتقتضي من الكاتب التنويه لهذا التلاعب كي لا يربك القارئ. وفي هذا العمل الذي يمتد فضاؤه الزمني من حرب الخليج الأولى مروراً وانتهاء يالحرب ومن ثم حرب تحرير الكويت والحصار فسقوط النظام السابق وصولاً إلى الوقت الحاضر، اعتمدت العديد من التقنيات في متن السرد: المونولوجات، الصور القديمة ودفتر الذكريات القديم، والرسائل، رغبة مني في التأكيد أن الأزمة الخطيرة التي عصفت بالعراق والعراقيين منذ زمن بعيد لا تتعلق باختلافات مذهبية أو دينية أو مجتمعية، بل الباعث في كل مسبباتها هو اندثار الإنسانية.

رواية (القديسة بغداد) هي رواية الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، والأماكن الثلاث: الكرامة (المدينة المفترضة)، والعراق- بغداد، والسويد، ورواية الشخصيات الثلاثة أصدقاء طارق، (حامد وأكرم وأيمن) والحروب الثلاث: حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، والأحلام الثلاث الموؤدة. ولكن في جوهرها، كانت الرواية مثلما تفضلت سيرة الحروب بلسان الضحايا.

(كتابات) في رواية (القديسة بغداد) انتقدت الأوضاع في الوقت الحالي وما يحدث من نهب منظم .. حدثنا عن ذلك؟

  • الرواية حكاية المجتمع والولوج إلى عوالمه السفلى والحديث عن المهمشين. كان النهب المنظم والتخريب جزءاً من حالة “الفرهود” التي ارتبطت بتاريخ العراق الحديث ولأسباب تتعلق بغياب الإنسانية وبدأت في الأربعينات عندما تم نهب بيوت اليهود الذي تم تسفيرهم ومن ثم حالة الفرهود التي حدثت عند سقوط الملكية. حالة “الفرهود” حالة مجتمعية وما حصل خلال الأيام الأُول لسقوط النظام أمر متوقع، بل كان الكثيرون يعدون العدة لها حتى سميت لدى العراقيين بـ الحواسم”، والتي تعدت من سرقة قصور النظام السابق وأزلامه إلى الاستيلاء على الحدائق والأماكن العامة والفارغة وتشييد بيوت غير مرخصة، بل طال هذا الاستيلاء حتى البساتين والمقابر. أردت الإشارة المقتضبة لما حصل في فترة “الفرهود” باعتباره مؤشراً لأزمة إنسانية امتدت منذ عقود، بحيث ضعضع إيمان وانتماء الناس لوطنهم، وخلق حالة من التناقض لدى الفرد العراقي حتى وصل الأمر لنهب تاريخه وحضارته عند الهجوم على المتحف العراقي وسرقة عشرات الآلاف من القطع النفيسة وتهريبها وتحطيم الآثار العملاقة عندما عجز الفرهوديون عن نقله خشية أن يسطو عليه غيرهم.

(كتابات) في رواية (القديسة بغداد) رصدت الحنين الجارف للوطن الذي يعاني منه المغترب احكي لنا عن ذلك؟

  • كتبت رواية (القديسة بغداد) في فترة ربما تصل إلى ثمانية أشهر، ولكن كل حرف منها سردته في أجواء “خاصة جداً” وفي فترة شوق جارف مثلما تفضلت. خلال تلك الفترة، كنت استثمر مثل هذه الحالات لاسترسل بالسرد بعدما وضعت الخطوط العريضة للعمل، له ليقيني أن هذه الفرصة من حال الذوبان في العمل قد تأتي غداً وربما لن تؤوب إلا بعد أسابيع. إبان تلك الموجات من العشق الجارف، عدت بالذاكرة تماماً لتلكم السنين التي تحدثت فيها عن “أدويسة الحرب والسلام”.

الأحاديث التي كانت تتردد في الشارع، حال الخوف والهلع واليأس، المصائر المجهولة أو المعلومة التي رحلت في عز شبابها وعطائها لإشباع نزوة عشاق الحروب. وأسقطت الحال المخيالي لحياة طارق لما يتعلق بعشق ابنته للعراق على ابنتي الكبيرة فاطمة التي كانت تلم فيها مثل هذه الحالات عندما نعود من الإجازة السنوية من العراق. لقد كانت هذه الرواية بالنسبة تجربة تزاوج فيها الحزن والفرح، النوستالجيا والنظر للمستقبل بعين التفاؤل، العراق وبغداد الأمل واليأس، العشق الأبدي وتعذر العيش في ذلك الواقع الذي غادره طارق، لكنه- أي العراق وبغداد- لم يغادراه.

(كتابات) عملت بالترجمة في رأيك كيف تفيد الترجمة في إثراء ثقافة شعب ما؟

  • الترجمة هي أم الثقافة ورافدها الحيوي المتجدد والنافذة التي نطل فيها على العالم، ونرى العالم من خلالها. على مر التاريخ، كانت الترجمة هي المصدر الأكثر غزارة للتلاقح الثقافي وصنو الرقي والتقدم الذي تحققه الدول في كافة المجالات. وما حصل في فترة العصر العباسي الموسوم بالعصر الذهبي للحضارة العربية والإسلامية، خير شاهد على أهمية ودور الترجمة في إثراء تلك النهضة. الترجمة تقرب الشعوب، وتعرف بالآخر، وتشكل في الوقت ذاته مرجعاً مهماً لكافة العاملين بالمعرفة والعلوم من طلاب وباحثين ومبدعين وقراء.

خلال مشاهداتي للإصدارات في السنوات الأخيرة، أعتقد أنها الأكثر غزارة وإنتاجا بالمقارنة مع العقد الماضي. ومع ذلك فما ينقل للعربية كماً ونوعاً لا يضاهي ما يصدر من ترجمات في العديد من دول العالم، حتى تلك التي لا يصل تعدادها إلى عشر سكان الوطن العربي. واقع الترجمة من واقع الكتاب والثقافة وازدهارها مرتبط بهما. وكذلك الأمر لما يتعلق بالمترجمين والحاجة إلى وجود مترجمين متفرغين تماماً لهذه المهنة الإبداعية لا أن تكون هواية تمارس في وقت الفراغ.

(كتابات) هل تستمع بالترجمة وهل أنت مع الترجمة الحرفية أم مع صياغة النص وكأنه إبداع؟

  • الترجمة متعة لا تضاهيها متع أخر، خاصة عندما يرى الإنسان اسمه مدوناً في عمل مميز ومهم لكبار الكتاب العالميين. مع ذلك، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المترجم هي “الأمانة” في نقل النص وعدم الشطوح. وبالنسبة لي لما يتعلق بترجمة الروايات، أميل إلى نقل النص الأصلي بحذافيره دون تأويل أو تفسير، والتزم بمبدئي الخاص “لا اجتهاد مقابل النص الصريح”. ولكن مع هذا الالتزام الدقيق، أرى أن الترجمة الأدبية يجب أن تكتب بلغة أدبية، بينما الترجمة العلمية تأخذ الجانب الواضح جداً، والصحافية بلغة الصحافة، وتلتزم النصوص القانونية بالترجمة الحرفية تماماً.

إعادة كتابة النص بطريقة جديدة وإضافة الرتوش يشكل “خيانة للنص” كما حصل مع عديد من الترجمات التي عنونت كتباً صدرت بأسماء واضحة إلى عنوانين جديدة بذريعة كونها الأقرب للمعنى، فتحول المترجم إلى طبيب تجميل. الترجمة الأدبية الدقيقة، ولكن بمعايير اللغة الأدبية، هي الحل الأنسب للترجمة، فالقارئ يريد مترجماً جيداً يثق به وبقدراته وأمانته في نقل النص الأصلي للعربية، ويستمتع في الوقت عينه بنص سلس.

(كتابات) قمت بعمل قراءة لحوالي ٤٠ كتاب في مختلف نواحي الثقافة وتقوم بعمل قراءات لروايات.. ما تقييمك لحال النقد في العراق والنقد العربي؟

  • النقد العربي على العموم بحاجة إلى دور أكبر واهتمام أوسع. عندما أوجز الحديث عن النقد العربي، وعن قراءة الأعمال الروائية بشكل خاص، أرى ثمة حاجة إلى مدرسة نقدية تبعد عن اتخام الكتابات بالمصطلحات والغموض، وأن تكشف جمالية النص وإبداعات الكاتب. عندما يكتب الناقد عرضاً لرواية ما، فإنه يجب أن يختلف عند نشره في مجلة أدبية متخصصة أو عندما يقدمه في جريدة يومية يطالعها عشرات الآلاف أغلبهم لا معرفة لديهم بالنقد ومصطلحاته.

ومن جانب آخر، حتى قراءة الأعمال الروائية تخضع للكثير من المجاملة ويفضل البعض قراءة النصوص لكتاب معروفين، فثمة حالة قد أبالغ في وصفها بأنها “استنكاف” من قراءة أعمال جديرة لأنها أصحابها غير مشهورين. ومن جانب ثالث، ثمة حاجة لوجود مدارس نقدية عربية وأن يجري الاعتراف بها عالمياً لا أن تكون قائمة تماماً على منهجية على المدارس والاتجاهات النقدية السائدة في الماضي والحاضر في الغرب بشكل خاص. شخصياً، أرى ثمة حاجة للاهتمام بالنقد من جانب المؤسسات الثقافية وحتى الأكاديمية التي تشجع للأسف على الأساليب القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب. الصحف ووسائل الإعلام والنقاد العاملون بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لمواكبة كل ما يصدر من أعمال وأن تخصص أسبوعياً مثلاً قراءة لعملين لكي يطلع القراء عليها.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟

  • الثقافة في العراق، وفي ظل الأنظمة السياسية التي تعاقبت عليه مروراً بالوقت الحالي، هي مريضة لكنها لا تموت. عندما نتحدث عن نهضة، فإنها “مجتمعية” ولكن ما يحصل في مجال الثقافة إنها فردية أو نخبوية، وثمة تغييب أو تحجيب لدور الثقافة والمثقفين في العراق بشكل متعمد، خاصة بعد التغيير.

الثقافة الآن تلونت بلون واحد معروف، الأيدلوجية الدينية مقابل الحزبية قبل التغيير، مما خلق شرخاً واضحاً ومتعمداً في المجتمع، فغاب الفن والإبداع والسينما في ظل الوهن الفاحش للتعليم والثقافة. ما يؤسف له أن هذه الحالة من التغييب المتعمد للثقافة والمثقفين أفضت إلى عدم قبول الآخر، وأفرزت حالات من التطرف المجتمعي، وأثرت بشكل واضح في كافة مفاصل الحياة، خاصة الإنسانية. مع أنني متفائل بقدرة المجتمع العراقي على النهوض من كافة الكبوات التي تعرض لها على مر التاريخ، لكن واقع الثقافة مهول الآن، وبحاجة إلى ما يشبه “الثورة” للنهوض بها وانتشالها من سطوة القوى المتصارعة والمتصدية للحكم والتي تريد قبر الثقافة وتغييب المثقف ودفنه حياً بكل وسيلة.

(كتابات) في رأيك هل تتميز الرواية العراقية بمميزات خاصة وهل هي في معظمها تأريخ أدبي لأحداث المجتمع؟

  • من الصعب حصر الرواية العراقية ومزاياها في أسطر، خاصة في ظل التطورات الكبيرة التي شهدتها على مر عقود. لكنني شخصياً أرى الرواية العراقية تحمل الكثير من السمات المبدعة، وهي عالمية بامتياز في ظل البحث والسعي الكبير للروائيين العراقيين للتجديد وتثيمتها بمواضيع غير مطروقة. الكاتب العراقي يعيش ليكتب، لا يكتب ليعيش، وهو يملك ثقافة واسعة وارثاً عميقاً وتاريخاً حضارياً يمتد لآلاف السنين فضلاً عن تنوع مجتمعي وأحداث سياسية مضطربة وعاصفة منذ أكثر من قرن، مما يتيح له الكثير من المواضيع والثيمات للكتابة والتجديد في فنه.

أضف إلى ذلك، فإن الكاتب العراقي قارئ ممتاز، وله اطلاع عال في عالم الرواية والنقد، وأنا أتحدث هنا عن الكثير من الكتاب/الكاتبات العراقيات، ويدرك أن جمهوره قارئ للأدب العالمي يبحث عن الجديد والإبداع وبما يوازي اطلاعه. لذلك يحرص على تقديم أعمال لها وقعها الكبير لدى الناقد والقارئ والمتابع، وأن يجدد بين عمل وآخر لا يبقى مقمطاً لأسلوب واحد أو مواضيع وثيمات متشابهة. قائمة الكتاب العراقيين كبيرة ولا يسع الحديث عن عشرات المبدعين العراقيين، وأنا شخصياً استمتع بقراءة الروايات العراقية، وكذلك الحال مع العديد من الروايات العربية.

(كتابات) ما هي الصعوبات التي واجهتك ككاتب وما هو جديدك؟

  • بالنسبة للأعمال الجديدة، فعندي رواية جاهزة “الغول البهي” التي تتناول الجريمة الاجتماعية وقت الحصار وقررت المشاركة فيها ضمن فئة الأعمال غير المنشورة لجائزة كتارا. وعندي رواية مترجمة جاهزة لكولن ولسون “عالم العنف” التي تعتبر من بواكير أعماله الروائية الوجودية، ولم أتفق مع دار نشر حتى الآن. لدي مشاريع عديدة في كتابة رواية خامسة، وقصص قصيرة، وقراءات لأهم 40 رواية عراقية صادفتها إضافة إلى إعداد كتاب على شكل نصوص.

أكبر التحديات التي أواجها تتعلق بالنشر والتوزيع، فالكثير من الناشرين تحولوا إلى تجار لا يهمهم قيمة العمل وجودته، بل أن ينقد المؤلف التكاليف ويبحثون عن “أعمال خفيفة” وليست عميقة أو كبيرة بحجة رغبة القراء بالحصول على أعمال معدودة الصفحات وسهلة القراءة.

جزء من رواية “في ذلك الكهف المنزوي”..

التي تصور واحدة من أهم الفترات التاريخية في العراق، الأسابيع التي تلت انتهاء حرب تحرير الكويت عام 1991 واندلعت فيها أوسع انتفاضة ضد النظام الحاكم في حينها.

(لم يعد يفصله عن قدره المحتوم الذي اختطه لنفسه إلا سويعتان، حين قرر بغتة العودة إلى البيت والجري بكل ما أوتي من قوة لأمر استجد في باله. كان ذلك الوقت بالنسبة له إيذانا بأزوف أعظم اللحظات وأكثرها سمواً إلى نفسه، بل إن حياته كلها لن ترتقي إلى تينك الساعتين، فتمنى لو أن الزمن يتوقف في تلك اللحظات، أو يتسلحف بسيره، أو أن يطير لأي مكان يشاء مثلما تفعل الطيور بأجنحتها.

عندما لاحت تباشير الصباح في الأفق، خامر أسعد شعور غريب لم يألفه آنئذ، لكأنه يرى هذا المشهد، الذي آنسه كل يوم تقريباً منذ نعومة أظفاره، للوهلة الأولى في حياته. وكيف لا وهو الذي طالما استهواه منظر الشمس وهي تشرق واثقة ثاقبة بعد أن تقطع أوصال الفجر. وبالكاد أخذته سنة من النوم هو ورفاقه في تلك الليلة، بعد أن توالت الأخبار تترى بأن القوات الحكومية أعادت إحكام قبضتها الحديدية على معظم المحافظات والمدن التي انتفضت عليها دون رحمة عقاباً لكل من شهر السلاح بوجهها. وما إن تناهى إلى مسامع الجميع بأن الانتفاضة كانت مجرد زوبعة في فنجان عاش معها الثوار نشوة التغيير ونسمة الحرية لفترة لم تتعد أسبوعين، وإن الأمر مجرد أيام وربما ساعات حتى تعود الأمور سيرتها الأولى، طفق الكثير منهم بالنزوح من بيوتهم، في الوقت الذي آثر آخرون الفرار عبر الحدود خلال الأيام الماضية قاصدين المخيمات التي ضربت على الحدود مع السعودية لحماية الفارين من جحيم القوات الحكومية المتجحفلة، خاصة وإن أسمائهم وتفاصيل ما قاموا به لن تخفى على استخبارات النظام وأعينه التي ما برحت ثاقبة ونشطة حتى في أحنك الظروف وأشدها وطأة.

كان الطريق العام بعيداً، فاضطر إلى قطع طريق مختصر للوصول إلى المنزل. وما إن أستأذن رفاقه وشرع بالجري قاصداً بيته الكائن في قلب المدينة حتى بدأ شعور غريب يساوره في تلكم اللحظات صاحبه تقلب شديد في حالة الجو حتى لاحت كأن كل فصول السنة تستعرض ما لديها من أوجه: مطر خفيف مصحوب ببرق ورعد، وزخات من المطر الذي ينهمر دون سابق إنذار كأنه السيل، وغيوم ترخي بسدولها على الأفق لكنها ما تلبث أن تستسلم لجبروت ضوء الشمس الذي ينسل من خلالها ليقطعها إرباً إرباً، وهكذا دواليك.

بالنسبة لأسعد لم يكن تقلب الجو بالأمر المستغرب أو المربك، بل ما أثار فيه أيما دهشة هو ذلك الكم من الذكريات الهائلة التي هجمت على ذاكرته اليقظة بأدق تفاصيلها كأنها شريط سينمائي يتمسرح أمامه. لقد لاحت جميع الأمكنة والبيوت والشوارع والأزقة تتحدث إليه بدءاً من البزول الرابضة على أطراف المدينة مروراً ببيوتات الشعر التي يقطنها البدو الرحل بين أوان وآخر ومن ثم قلعة المدينة وبساتين النخيل التي تحف بالبيوت والحي العسكري وصولاً إلى مضيف الشيخ ظافر الذي يفضي إلى الشارع الذي يقطنه والكائن قبالة سوق المدينة.

ـ يا إلهي، علام كل هذه التفاصيل وإلاّم تشير؟ تساءل أسعد مع نفسه وهو يعدو قاصداً بيته لجلب بعض القذائف وبندقية أخرى نسي والده أن يأتي بها في تلك الليلة.

خلال تلكم اللحظات سرحت ذاكرة أسعد، وهو يحث الخطى مسرعاً آناً ومهرولاً في أوان آخر وقتما يضطر لالتقاط أنفاسه، عندما بدأت الدولة بشق البزول في عند أطراف الكثير من المدن والمناطق الزراعية، حيث شرعت آلات ضخمة وعملاقة تزمجر وهي تشق بطن الأرض وجوفها لتصنع حفراً عملاقة بنحو متناسق وتتوسع حول مدينة الكرامة وصولاً إلى القرى القريبة منها كأنها صف مرصوص من واحات مياه لا قاع لها.

حينما توزعت تلك البزول وبدت معالمها بالظهور بعد أن خلّفت ورائها تلالاً جبارة من التراب من باطن الأرض، كان أسعد في سني الدراسة الابتدائية وشاهد هو ورفاقه كيف إن تلك الحفر العميقة قد غدت لكل من يمر بها هاجساً مرعباً حال ولادتها وحتى قبيل أن تستوي بالماء لأنها بدت مستغرقة في جوف الأرض فلم يجرؤ أي أحد في المغامرة للوصول إلى باطنها حتى أكثر الصبية شيطنة، فقد كانت تغري المرء بالنزول إلى جوفها بسهولة، أما الخروج منها فلن يكون سهلاً إلا بمشقة بالغة. جاءت في حينها شركات من أوروبا الشرقية وعملوا لشهور طوال وحفروا قرابة عشرين بزلاً. كان هؤلاء العمال ذوو البشرة البيضاء والشعر الملون يلاطفون الأطفال والناس الذين يمرون بهم بإيماءات وكلمات ودية مدركين بالفطرة أنى يتعاملون مع أناس المنطقة وما هي تقاليدهم ومعتقداتهم لكأنهم أخذوا دروساً في ذلك.

وعندما كان يمر أسعد بجوار تلك البزول جيئة وذهابة مع تباشير الصباح الأولى وفي أوقات المساء أثناء ما كان يستعد لمراجعة المواد الدراسية التي تتطلب حفظاً عن ظهر قلب “الدرخ” مثل الأحياء والأدب والمواد الاجتماعية استعداداً للامتحانات الوزارية، شاهد كيف غاصت تلك البزول بالمياه ودبت الحياة فيها بسرعة منجبة رصوصاً من نباتات البردي التي كانت تقف شامخة كأنها أسنان مشط يتماهى لونها الأخضر الفاتح المائل إلى الصفرة مع لون المياه الأخضر المزرق الشفاف الذي لم يألفه سكان المنطقة من قبل. لقد باتت تلك البزول شطراً من حياة الناس بسرعة فكانت حديث المقاهي والمجالس والمدارس والمسافرين والقادمين إلى مدينة الكرامة، إذ إن أمهر السباحين لم يجرؤ على الاقتراب منها والغوص فيها خشية الغرق، وطفق أهل القرى المجاورة يسلكون طريقاً آخر في رحلتهم جيئة وذهاباً لمدينة الكرامة خوفاً على أنفسهم وأطفالهم من الانزلاق فيها. بعدها، تساءل السكان عن جدوى هذه المعالم المائية التي صادرت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية لأنها لم تأت على ملوحة الأرض واعترت الدهشة الكثيرين منهم متسفهمين: “أنى لها إن كانت حقاً مالحة لتنبض بألوان الحياة المائية، ومن جاء بالأسماك التي باتت هذه البزول جميعاً تعج بها وكيف تكاثرت بهذا الشكل والسرعة؟”

لقد خلدت تلك البزول في ذاكرة الجميع مرة وإلى الأبد مع قصة السمكة العملاقة التي اصطادها الفلاح أبو بشار من قرية آل نوري المجاورة عندما شاهد ما ظن أنها حوت تسبح برشاقة الكوسج في منتصف أحد البزول القريبة عند ساعات الفجر الأولى مخلّفة وراءها أمواجاً من المياه الهادرة كأنها باخرة عملاقة تمخر عباب البحر. لحسن الحظ كان أبو بشار في طريقه في رحلة صيد مصطحباً مع بندقيته فسدد إطلاقة أولى أصابت السمكة في رأسها دون أن تموت وسدد الثانية والثالثة والرابعة والخامسة حتى استسلمت تلك السمكة العملاقة إلى قدرها المحتوم. هُرع أهل القرية عند سماعهم هدير الرصاص فألقوا الحبال وأخرجوا ذلك الكائن العملاق من جنته بعد ساعات وجاءوا به بسيارة حمل تعاون عليها أكثر من عشرين رجلاً لنقل وحش الماء هذا إلى سوق المدينة. لقد بثت هذه السمكة الرعب في كل من شاهدها لأن ذيلها الطويل كان يتدلى خارج سيارة النقل التي تقل ثمانية أشخاص.

تجمع الناس في حينها لمشاهدة هذا الحوت “سمكة البني العملاقة” التي أثارت اهتمام الجميع بحجمها غير المألوف ونظراتها الذي بثت الرعب في الجميع كأنها توجه اللوم لهم. كان أسعد من بين أولئك المتجمهرين لأنها المرة الأولى ربما التي يحتشد فيها مئات الناس من كل حدب وصوب لرؤية لكائن غريب، حتى إن بعض الصيبة اعتلوا أعمدة الكهرباء وسطوح المحال والمنازل المشرفة على السوق عندما فتح بلاسم البياع باب المزاد على هذه السمكة بسعر عشرة دنانير ليرتفع ثمنها بعد ساعة وليصل إلى أكثر من مئتين وخمسين ديناراً، والذي كان مبلغاً كبيراً في حينها. لقد اشتراها الشيخ ظافر ليقيم وليمة كبيرة دعا إليها المحافظ وجهازه الحكومي وأعيان المدينة والشيوخ الذين آنسهم طول السمكة ولذة الطعام ونوعه.

كان الكثيرون يقولون فيها حينها إن الحكومة زرعت تلك الوحوش لترعب الناس وإنها ألقمت هذه البزول أسماك البني بدلاً من الكواسج من قبيل الخطأ فكان ذلك رادعاً للكثيرين ليعزفوا عن الاقتراب من هذه المستنقعات.

تذكر أيضاً التلال غير المستوية الرابضة على أطراف المدينة وكيف أنه كان يقصدها بصحبة أخوته وأصدقائه أحياناً للعب الكرة وأحيانا في مثل هذا الوقت من العام عندما ينبجس الكمأ من باطن الأرض فكان ذلك صيداً ثميناً لا يعوض. كانوا يعودون بهذا الكنز النفيس في مثل هذا الوقت من كل عام قبل فصل الربيع عندما يحين موسم الأمطار المصحوبة بالرعد فيتسابق الجميع في إصطياد الكمأ من شقوق في باطن الأرض وجمعه في أكياس ليأتوا به إلى بيت الحاج عباس. وبعدها، تعمد والدة أسعد وأخته شيماء إلى غسله وتنظيفه وقليه مع البيض ليتناوله أسعد وأخوته وأصدقائه في البراني في وقت ما قبل الظهيرة. كانت تلك من أحب الهوايات لأسعد وأصدقائه ريثما توقفوا عن ذلك العمل هم وجميع السكان بعد تعرض عدد من الأهالي للتسمم جراء بعض أنواع ملوثة من الكمأ الذي تم جمعه وبيعه في سوق المدينة.

وهناك، كان أسعد يلتقي في كثر من الأحايين بالبدوي دحام قبل أن يترك الأخير عمله في الرعي ويشتري له بيتاً صغيراً داخل المدينة ليمتهن حياكة وصبغ الصوف ونسجه. كان للبدوي دحام في حينها بيت من الشعر المتنقل الذي يضربه أينما شاء في ذلك الفضاء الرحب بعيداً عن أعين الناس. وحالما كان أسعد يلقي عليه التحية من بعيد، يبادر إلى دعوته إلى مقربة من تلك الخيمة مقدماً له ولأصدقائه حليب الجمال وأحياناً لبن الماعز الذي كان بالنسبة لأسعد أشهى وألذ من لبن البقر الطازج. كان دحام يحب أن يتحدث إلى هؤلاء الفتية لقتل الفراغ عن حكايات ومغامرات وقصص غريبة تفغر لها أفواههم من العجب وأحياناً يضحكون بصوت خافت غير مصدقين كيف أنه نجا من الموت عندما هجمت عليه ثلاثة من الذئاب الشرسة وكذلك قصة الجمل الذي باعه إلى أحد البدو الرحل وعاد إليه بعد شهرين قاطعاً مئات الكيلومترات في عرض الصحراء.

وعلى مشارف المدينة استذكر أسعد جدار قلعة المدينة التاريخية التي أصابها الإهمال وبقي أقل من نصفها شاهداً على تاريخ تلك المنطقة. لقد كان بجوارها حتى الأمس القريب المدفع الانجليزي العملاق الذي جاءت به مجموعة من الجنود البريطانيين المشاة بداية القرن عندما احتلوا العراق وأضلوا طريقهم ما بين البصرة وبغداد فاستراحوا بجانب ذلك الجدار لأن وجهاء المدينة خرجوا إليهم وطلبوا منهم عدم الدخول إلى المدينة لأنهم ضيوف غير مرحب بهم.

لقد جلبوا معهم في حينها هذا المدفع العملاق الذي لم يألفه أحد في مدينة الكرامة قط ما خلا جد والد أسعد، الحاج منصور، وكانت تجره ثمان من الخيول التي أصاب الهلاك بعضها والهزال البعض الآخر فاضطر هؤلاء الجنود إلى تركه بجوار قلعة مدينة الكرامة بعد يومين من وصولهم إليها بعد أن أخرجوا أبرة الإطلاق الخاصة به وليكملوا مسيرتهم إلى بغداد للالتحاق بالفرقة البريطانية الأولى التي تولت مقاليد الحكم. لقد بات هذا المدفع ببوزه الذي يوازي في الارتفاع أسطح منازل المدينة وعجلاته التي تشابه عربات ما قبل التاريخ مزاراً لكل من يقصد المدينة وبقي شامخاً ونابضاً بالحياة يجاهد كل ضروب التحدي كالصدأ والتآكل والشيخوخة على الرغم من تقادم عمره ومفارقة جميع الأشخاص الذين شاهدوا قدومه أول مرة قبل أكثر من سبعة عقود ونصف ما خلا المعمر رشيد الصباغ. لقد كان الشيء الوحيد الذي يدل على تشايخ عمر هذا المدفع هو غوصه في باطن الأرض بحيث لم يبق من عجلاته سوى نتوء صغير لا يزيد عن طول طفل صغير ومن بوزه ما يعدل ارتفاع غرفة صغيرة.

كتبت عنه الصحف الأجنبية كثيراً وقام العديد من الباحثين والمستكشفين والمصورين بالتقاط صور له، وعرضت في منتصف القرن تقريباً الحكومة البريطانية على الحكومة العراقية شراءه مقابل إنشاء مشاريع تنموية في مدينة الكرامة وما حولها من بينها محطة تحلية المياه ومستشفى صغير، ولكن مثل هذه الطلبات لم تلق استجابة. جرت عدة محاولات لنقله إلى المتحف الوطني، خاصة بعد حرب تشرين وإبان الحرب العراقية الايرانية، ولكنها خابت هي الأخرى لأنه كان من القوة بمكانة لا يتزحزح قيد أنملة لكأنه يقول قدري هنا وسأبقى هنا إلى الأبد. لقد كُتب لهذا المدفع أن يغادر المدينة في خاتمة المطاف وقبل أكثر من عامين عندما أمر وزير الدفاع العراقي بأن يخرج من باطن الأرض مهما يكن الثمن ولو كلف العمل عدة أشهر. جاءت فيها حينها فرق من الحرس الجمهوري بكامل العدد الهندسية وحفروا عميقاً وبحذر شديدين ليخرجوا بعد ثلاثة أيام من العمل الشاق هذا المارد العملاق من جوف الأرض سليماً كأنه قد قام للتو من رقاده في يوم البعث ويريد أن ينفض الغبار والطين والعلق من بدنه. خلّف ورائه حفرة هائلة في باطن الأرض لم يجرؤ أحد إلى النظر فيها. نُقل في شاحنة عملاقة وأقيم له استقبال رسمي في بغداد ووضع في أحد المتاحف العسكرية. التقط المسئولون له صورة بجانبه وقالوا معلقين: “مثلما هذا المدفع العملاق أظل طريقه كالتائه سيلقى من يحلم بضرب العراق وغزوه بالمصير ذاته، فنحن قوم سندحر بكل إمكانياتنا ما يتفوق عليه عدونا من أسلحة ومعدات متطورة.” ولعل من قبيل الصدفة، كما تذكرها أسعد، إن اليوم الذي سُيِّر بهذا المدفع إلى بغداد، انتقل إلى جوار ربه رشيد الصباغ، الذي بات أحد أكبر معمري العراق في وقتها والذي طالما استضافته وصورته الصحف الرسمية كلما تم الحديث عن ثورة العشرين وما رافقها من إرهاصات، ليسدل الستار عن الشاهد الوحيد الذي جايل هذا السفر المهم من تاريخ المدينة، لكأنه عاش ليحكي قصته وقصة ثورة مدينة الكرامة وسائر مدن العراق على الانجليز وليختتم فصولها برحيله.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة