خاص: حاورته- سماح عادل
“علي الحديثي” كاتب عراقي، اسمه “علي عبد الرحمن عبد الرزاق”، مواليد بغداد في 1968، حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة عربية، ويعمل مدرسًا، وهو عضو اتحاد الأدباء، وعضو نقابة الصحفيين. بدأ الكتابة في منتصف التسعينات، ونشرت له عدة قصص في الصحف المحلية والعربية. صدر له:
1- المعبث، مجموعة قصصية/ 2013.
2- ذكريات معتقة باليوريا، رواية / 2015.
3- جئتُ متأخرا، رواية / 2016.
4- ارفعوا صوت التلفاز، رواية/ 2017.
5- ذكرأة، رواية ستصدر خلال أيام.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- يمكنك القول إن عام 1989 هو المنطلق الحقيقي لولادة القلم، وإن كانت حينها مجرد إرهاصات أولية للكتابة، ولكن لا يعني أنه لم يكن شيء قبل هذا العام، فمنذ طفولتي وأنا شغوف بمجلتَي (مجلتي والمزمار)، وتوسع الأمر بعد ذلك على مجلات أكثر، ليصل الأمر بي إلى الكتاب الذي بدأت علاقتي به بشغف في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
حتى كان عام 1995 عندما كتبت أول قصة لي بتوجيه من الشاعر “منذر عبد الحر”، بعنوان (شارعي الحزين)، إلا أنها كأيّ بداية كانت متعثرة بأسلوبها القصصي، وبرغم أن قصتي “الشاي” التي نشرت في العام نفسه في إحدى الصحف العراقية، وهي التي منحت قلمي حينها صورته القصصية، إلا أني أعتبر “شارعي الحزين” هي المنطلق الحقيقي.
(كتابات) في رواية “جئت متأخرا” هل هناك تأثر بالتفكير الوجودي؟
- برغم أن سؤالك اقتصر على رواية “جئتُ متأخرا”، إلا أن أغلب سردياتي (رواياتٍ وقصصا) تدور في فلك الفلسفة الوجودية، فمنذ أن قرأتها وأنا أجد نفسي تائهة في دروبها.
(كتابات) في رواية “جئت متأخرا” رصد لإشكالية المثقف المنعزل الموزع بين الدين والفلسفة.. حدثنا عن ذلك؟
- عندما أصدرت روايتي “جئتُ متأخرا” أخبرني أكثر من صديق أنه مرّ بهذه المرحلة، وأعني بها الالتزام الديني، فهناك ارتباط – بغض النظر عن صحة الأمر أو خطئه – هناك ارتباط بين الدين والثقافة والانعزالية، وإن لم يكن عموما إلا أنه حصل كثيرا بل كثيرا جدا، كما تلمسّته في الواقع ممن حولي، فكلا الشخصين يرى أنه يعيش في عالم آخر غير العالم المحيط به، مما تتولّد في داخله رؤية سلبية للمجتمع، فينجرّ لا إراديا نحو الانعزال
والانعزال يفتح آفاقا أوسع وأجمل في عالم القراءة والكتابة، وقد حاولت في رواية “جئت متأخرا” أن أرسم صورة من صور الصراع بين النصوص الدينية والنصوص الفلسفية داخل الملتزم دينيا والذي يبحر في كتب الفلسفة وغيرها، وكثير من الفلاسفة عندما يتحدثون عن سيرتهم نجد أنهم كانوا ملتزمين دينيا في مطلع حياتهم.
(كتابات) في الرواية علاقة البطل بالمرأة شائكة اعتمادا على إيمان بالحب العذري.. كيف تصور المرأة في رواياتك؟
- عندما أتحدث مع بعض الأصدقاء أمازحهم وأقول لهم “كتاباتي لا تقرأها النساء”، ربما ذلك لقلة أو ضعف الوجود النسوي فيها، وربما لغلبة الطابع الفلسفي الوجودي فيها.. وربما.. وربما… ولكن من يقرأ ما بين السطور فسيجد أن المرأة هي المحرك الأساس لصراع الأبطال في رواياتي، فهي إن ضعف وجودها في رواياتي إلا أن تأثرها واضح جلي على شخصية البطل سواء في أفكاره أو أفعاله.. أما ما يتعلق بالحب العذري أو الأفلاطوني فهو كذبة تاريخية، ولا وجود له.
(كتابات) في رأيك هل تعيش الثقافة العراقية نهضة وخاصة في مجال الرواية؟
- من يطّلع على الساحة الثقافية العراقية اليوم فسيجدها كالنهر العذب الذي يسر الناظرين، وقد كثرت فيه القوارب الإبداعية، وقد كان للرواية نصيبها الكبير “المفاجئ”.. فظهرت فيه قوارب تأخذك بحرفها إلى عوالم من الجمال، ولكن في الوقت نفسه، هناك قوارب تحتاج إلى صيانة.. وقوارب على النهر أن يرميها خارج أمواجه.
(كتابات) هل تشهد حركة النشر انتعاشا ما في العراق ولِمَ في رأيك؟
- نعم، هناك حركة دؤوبة لدور النشر، وقد أثبتت بعض الدور وجودها الفعّال النشط حتى على مستوى الوطن العربي، برغم عمرها الزمني القصير، ويمكن أن نعزي الأمر إلى الرغبة العراقية في أن يكون للعراق وجود حقيقي ليس في الكتابة الإبداعية فقط، بل أن يكون مبدعا في القراءة والكتابة والطباعة، إلا أن مشكلة التوزيع لم تزل بحاجة إلى جهد أكبر.
(كتابات) هل عملك كمعلم ساعدك في التفرغ للكتابة والأدب؟
- أمر مؤكد، فمهنتي مدرسا للغة العربية أعطتني المجال الأوسع في إتقان اللغة الأدبية، وكذلك منحتني وقتا جيدا مناسبا للتفرغ للكتابة، علما أن الإبداع لا علاقة له بمهنة معينة.
(كتابات) بدأت بكتابة القصة القصيرة ثم اتجهت للرواية أيهما أقرب إليك؟
- الحرف هو الأقرب إليّ سواء كان قصة أم رواية، فكلاهما قريب إليّ، وتوجهي لم يجعلني أترك القصة عن عمد، ولكن الرواية تحتاج إلى وقت أكبر مما يشغلني عن كتابة القصة، وقد كتبت بعض القصص حتى بعد توجهي للرواية، ولديّ مجموعة قصصية جاهزة للطبع.
(كتابات) هل عملت بمجال الصحافة؟
- نعم عملت سابقا، وعلى مضض، وقد تركتها الآن، فالصحافة لا تستهويني لأنها مليئة بالقيود، فلكل مؤسسة إعلامية سياسة وضوابط يجب على الصحفي التقيد بها، فالصحفي غالبا يكتب ما يريده الآخر، بخلاف الأديب الذي يكتب ما يريده هو.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب وما هو جديدك؟
- من المؤكد أن أي كاتب سيواجه صعوبات، صعوبات تحمل رأي الآخر، والتي يكون منها آراء شخصية وليست فنية، وإن أعطاها صبغة فنية، صعوبات الفكرة التي يريد الكاتب كتابتها والتي قد تتضمن نقدا لحالة مجتمعية مسيطرة على عقول الناس، صعوبات الصياغة في طرح الفكرة، فالكاتب ليس عليه أن يطرح الفكرة فقط، بل عليه أن يتقن فن طرح الفكرة بطريقة ممتعة مقنعة، الكتابة فن صعب.
أما عن جديدي، فهناك رواية (ذَكْرَأَة) والتي ستصدر خلال أيام، فضلا عن روايتين ومجموعة قصصية لم تزل مخطوطات.
قصة الصرخة..
لعلي الحديثي
“مزدحمة الشوارع بالخطوات المجنونة.. مبعثرة هنا وهناك.. الفضاء يضيق بالنظرات الملونة التي تتقاذفها العيون فوق الأرصفة وبين المحلات.. محيطة به كأذرع الأخطبوط، باحثاً عن مكان لا يراه فيه احد ليخرجها إلى حيز الوجود.. العيون ـ كما يظن ـ تترصده.. والآذان تتجسس عليه.. ما تحدث اثنان أو أشار أحدهم إلا شك في نفسه وداعبته الظنون وظن أنه هو المقصود حتى لو كانت الإشارة في الاتجاه المعاكس…
أقلقته كثيراً وهو يشعر أنها تعرقل سيره وهي مخبوءة.. لا يعرف عنها شيئاً.. من أبن؟.. كيف؟.. متى جاءت؟.. غير أنه متيقن من وجودها منذ أن عرف الوجود، وإلاّ لا يمكن أن تكون قريبة العهد به لتنمو بهذا الشكل المريب.. كبيرة جداً بل فوق ما يتصور هو نفسه، حتى نسجت عناكب الشك حول عقله خيوطاً من أنها معه مذ كان جنيناً، ليزداد خوفاً وقلقاً حينما يحمل شيئاً أكبر منه.. ولكن.. ألا يمكن أن تكون هي التي تحمله! فكل شيء جائز في عالم أبله…
ضاق بها ذرعاً وهي تعبث به، غاصّة في بحر دمائه من دون أن يستطيع فعل شيء.. خُيِّل إليه أنه علبة ما وجدت إلاّ لإخفائها عن الأنظار.. لا يستغرق استخراجها سوى ثانية أو أقل، إلا أنها ظلت تشتت دواخله، كل لحظة تمر به تبيعه عاماً مشوّهاً بالأحلام والأحزان.. في غربة الليل المقفر.. حيث العقول الراقدة في غرفها المظلمة.. خلف الجدران، حين يوصد باب غرفته، ويشعر انه بعيد بعد اللامتناهي عن البشرية الثرثارة، التي يؤلمه أنه منها.. حيث لا صوت إنسان يزعجه.. لا نظرة عين تمزق وجوده.. في الأماكن النائية، حيث ليس سوى نباح الكلاب – الملكة التي لا تُنازَع في مملكة الليل -.. بإمكانه أن يتقيأها ويقذف بها.. ولكن الشخص المسجون في أعماقه السفلى يرحل في نوم عميق أقرب إلى الموت منه إلى النوم.. يستيقظ شخص آخر لا يعرف من يكون ؟ ليخمد ما أوقد الراقد…
– أنت منهم..لا تختلف عنهم بشيء.. أخرجها و لا تبالي بهم.. ليسوا خيراً منك.. أثبت أن ملك نفسك.. أنك تفعل ما تريد لا ما يريدون..
كلمات يهمس بها الشخص في أذنه، تنتابه رغبة عارمة لإخراجها بينهم، إنها المنقذ لوجوده.. هكذا يراها.. إنها ذاته.. إنها هو.. نعم.. هو.. إن خبّأها خبّأ نفسه.. انتفض بشدّة وكل مسامة في جسده فم يصرخ:
– أرهم من أنت…. أرهم من أنت…
لم يشعر الاّ بساقيه تعدوان بشراهة السجين حين يطلق سراحه.. يعدو بعنف كأنه يُغلق بعدوه أفواهاً من الأرض كادت تبلعه..
– أرهم من أنت.. أرهم من أنت…
صوت يتساقط مع أشعة الشمس.. يخرج من بين ذرات التراب.. من داخله.. من ملابسه.. حتى لسانه يبدأ ينطق بها بعدما صار دولة مستقلة عن جسده.. راكضاً بين الشوارع والمدن.. حيث تتشابك الخطوات بالنظرات.. إلاّ أنه الليالي تلعب لعبتها، حائكة الثوب الذي ستلبسه إياه.. باثّة النعاس في ذلك الشخص ليصل إليهم والنوم يعانق عينيه عناق القبر لساكنه..
في الوقت ذاته، كان الراقد يستيقظ خطوة فخطوة، وقف بينهم محملقين في هذا المعتوه الذي يركض أمامهم.. أحس بذعر شديد وهو يقف بينهم.. هذا يترحم عليه.. وذاك يضحك.. وآخر مشدوه بما يجري.. أيقن أنه ملغي من حساباتهم، وأنه الآن في عداد اللا موجودين، اسمه ـ منذ الآن ـ لا محالة سيدرج في قائمة المجانين، والأطفال ـ منذ اليوم ـ سيركضون وراءه بالطماطم وقشور الرقي.. كان الغد يرتسم له في وجوه الناظرين له.. وصياح الأطفال.. فرائصه ترتعد.. جسده يضمحل.. يده تعبث بالهواء تتقي بها ضربة الفراغ الممتد أمامه.. لا شيء سوى الفراغ.. الظلام.. فراغ.. ظلام.. فرا.. ظلا.. فـ.. ظـ….لا………..
صرخة مزق بها حجاب الصمت البشري …
لا يعرف بوجه من خرجت؟.. ليسقط بعدهاً شاعراً بيد خفية ألقته بقوة على الأرض بعدما انتهت مهمته وخان الأمانة.. وأخرج الصرخة المخبوءة في آخر لحظة من حياته.. إنها وجوده.. تحطمت العلبة متناثرة أشلاؤها… خرجت …
ـ من يأويني ..
تساءلت محدقة في العلبة التي كانت آمنة مطمئنة فيها.. وبعد قليل ستُلّم أشلاؤها وتوارى.. فزعت وهي تفكر بضياعها..
ـ لا.. لا.. إنه سيبقى.. نعم.. أنا سأبقى.. أنا منه.. أنا هو.. سأبقى.. سأبقى..
أخذت ترقص وتتجول بين الأرجل.. أمام العيون.. فوق الرؤوس.. وهي تغني:
ـ أنا سأبقى … أنا سأبقى…
لا أحد يراها.. لا أحد يسمعها ..
ـ ما هذا ؟!
زعقت وهي تنتبه إلى ما ترى.. عيون صماء .. آذان عمياء .. شلت الأرجل فلا أحد بعد اليوم يأكل بها.. الأغلال كأنها الأفاعي التفت حول الأيدي، فعلى ماذا سيمشون؟
ـ يا إلهي… صرخت مرة أخرى وهي تضم وجهها بين كفيها.. ما أرى ؟.. عراة.. رجالاَ ونساءً.. بعضهم ينظر إلى بعض.. نظراتهم سكاكين يجزون بها رأس الحياء ملقين بها في مزابل قاذوراتهم..
ـ هل نفخ في الصور؟
التفتت يميناً وشمالاً..
ـ لا.. لا.. لم تقم الساعة بعد..
أخذت تتجول كأنها تبحث عن شيء والخوف قد ألجم فاهها.. فجأة توقفت وهي ترى مرآة.. فراحت تتجمل وتتزين لتنظر ـ ولأول مرة ـ لنفسها في المرآة ..
وقفت.. نظرت.. هربت.. هربت.. ارتطمت.. سقطت.. دوار يعتريها.. تساءلت:
ـ بِمَ ارتطمت؟!
نهضت، فتحت عينيها كأنها تلتهم الزمن اللامتناهي بهما..
ـ قفل ؟!
تلمسته.. حاولت رفعه.. تحريكه.. ثقيل.. ثقيل جداً.. تساءلت ساخرة:
ـ كيف يحملونه؟ أم إنه وسام الصمت؟.. نعم.. وسام الصمت.. لا بد أنهم فخورون به.. أغبياء..
تحركت شفاهها بكلمتها الأخيرة وصقور الغضب تحلق بها عالياً في سماء الوهم:
ـ سأحطمه.. وليكن بعدها ما يكون..
وقفت بعيداً عنهم.. تركض.. تركض.. تر.. تطم.. تسقط.. ما زال كما هو.. تعاود مرة.. مرتين.. آلاف المرات.. كل شيء كما هو .. يتفرقون.. يتملكها الفزع وهم يتركونها وحدها في العراء.. صرخت.. حاولت الإمساك بهم.. لا جدوى.. من يراها؟ من يعرفها؟.. لا أحد في الشوارع سواها وهذه الأشلاء المبعثرة.. أحست برغبة غريبة لا تعرف: أهي الضحك؟ أم البكاء؟ إنهما سواء.. علام الضحك وعلام البكاء؟
استلقت فوق الأرض.. مدت ساقيها في الشوارع والدروب.. كلما مرت بدار أغلقت الباب بوجهها.. فتحت ذراعيها تحتضن السماء بعدما يئست من الأرض وهي تضحك.. تضحـ… تضـ……….”.