حاورته – سماح عادل :
النوبة، أرض الذهب.. رغم أننا مصريين إلا أننا لا نعرف شئ عن النوبة وتاريخها.. من يبحث فقط هو من يستطع التعرف على أرض الذهب وتميزها وتاريخها الطويل.. التي تغني لها المطرب والملحن المبدع المصري الراحل أحمد منيب “مشتاقين يا ناس لبلاد الدهب”.. حاورت (كتابات) الشاعر النوبي “رامي يحيى” ليحكي لنا عن النوبة..
(كتابات): بداية نريد أن نعرف تاريخ النوبة.. وهل يوجد تعتيم متعمد عليه ؟
- الشق الأول من السؤال يجيب على الشق الثاني منه.. فكونك لا تعرفي عن تاريخ النوبة فهذا يعني بالضرورة وجود تعتيم متعمد, وإلا كنتِ كونتِ عنه فكرة ولو سطحية من مناهج التعليم.. والتعتيم المتعمد لا يستهدف التاريخ النوبي فقط وإنما يستهدف التاريخ المصري بشكل عام.. فتوجه الدولة منذ الحقبة الناصرية توجه استعرابي مبالغ فيه، لدرجة العمل على تهميش ونفي كل الثقافات المصرية الأصيلة ما دامت غير عربية أو لا تسعى للاستعراب، وكأن مصر بكل هذا القدم بدء تاريخها مع الاحتلال العربي/الإسلامي، والذي تتبناه المناهج المصرية وتدرسه بوصفه فترة ازدهار للدولة المصرية، فيخرج أبناءنا يعرفون “الخليفة المأمون” بوصفه قائد عظيم لدولة الخلافة.. دون أن يعرفوا إنه قتل الآلاف من المصريين الرافضين للاحتلال، وفي نفس الوقت لا يعرف هؤلاء الطلاب أي شئ عن تاريخ أجدادهم الحقيقيين ونضالاتهم منذ سقوط دولتنا على يد الفرس، “نهاية عصر الأسرات”.
أما إجابة الشق الأول من السؤال فهي صعبة جدًا.. فتاريخ النوبة يعود لآلاف السنين، فحضارة وادي النيل كانت أغلب الوقت ذات جناحين، شمالي وجنوبي، وبينهما دارت كل الأشكال الممكنة بين حضارتين في تلك العصور، إلى أن فقد الجناح الشمالي استقلاله على يد الغزاة الفرس، بينما بقى الجناح الجنوبي محافظ على استقلاله لقرون طويلة، فقد ضاع جيش الفرس في صحراء النوبة، وهزمنا الرومان في القرن الثاني الميلادي وهزمنا العرب في القرن السابع، فترة تألق كل منهما، فأول غزو للمعسكر الجنوبي كان على يد دولة المماليك البحرية، والذي أخضع المعسكر الجنوبي لكن سمح له باستقلالية إدارية، ثم كان السقوط التام للمعسكر الجنوبي على أيد الوالي العثماني الأشهر “محمد علي”، وهنا كان أول احتلال خارجي يتمكن من إخضاع وادي النيل بالكامل.
(كتابات): حدثنا عن قضية النوبة ؟
* هي قضية ثقافة وهوية بالمرتبة الأولى.. ثم تأتي قضية الأرض كحق تاريخي أصيل، فنحن مواطنون في هذه الدولة ومن حقنا أن تهتم دولتنا بتراثنا وثقافتنا وأن نرى في مناهج التعليم والمنتجات الثقافية ووسائل الإعلام ما يعبر عن ثقافتنا وهويتنا النوبية بوصفها جزء أصيل من الثقافة المصرية الغنية والمتنوعة، كما يحق لنا العودة لأراضينا التي خرجنا منها خلال “عصر التهجيرات” بداية من 1902 وحتى 1964.
(كتابات): هل بدأت معاناة أهل النوبة بتهجيرهم وقت بناء السد العالي أم قبل ذلك ؟
- حتى نفهم حقيقة معاناة النوبيين يجب أن نفهم جيدًا الوضع “الرسمي” للدولة المصرية، بداية ترسيم حدود سياسية مستقلة لمصر عن دولة الخلافة كان بعد محاولة استيلاء “محمد علي” على كرسي السلطان العثماني في الأستانة، فأجبر السلطان العثماني على استقلال نسبي لمحمد علي والاعتراف به والي مدى حياته على مصر وعلى ما سيطرت عليه قواته، وعلى توريث هذه المستعمرات، على أن يبقى تابعًا أسميًا للسلطنة العثمانية، وبقيت هذه العلاقة قائمة حتى انتهت تمامًا علاقة دولة “محمد علي” بالدولة العثمانية سنة 1914 حين أعلنت بريطانيا نهاية علاقة دولة محمد علي بالدولة العثمانية، وذلك بعزلها الخديوي “عباس حلمي” الثاني وتنصيب عمه غير الشقيق حسين كامل “سلطانًا” على مصر وما تبقى لدولة محمد علي من مستعمرات، وهذا هو استقلال لمصر عن الدولة الإسلامية منذ السقوط في قبضتها في القرن السابع الميلادي، وإن كان ليس استقلال إنما انتقال من احتلال تركي إسلامي إلى آخر بريطاني، مع الإبقاء على أسرة “محمد علي” كمندوب للمحتل الفعلي للبلاد، وإن كان الشكل القانوني لمصر وقتها إنها سلطنة مستقلة بذاتها تتبعها عدة مستعمرات من ضمنها في الجنوب (النوبة وكردفان ودارفور).
وفي سنة 1899م بدأت معاناة أهل النوبة، حين وقع اللورد “كرومر” ممثل المحتل البريطاني مع “بطرس غالي” ممثل الحكومة المصرية مع هزيمة الثورة العرابية في الشمال، ثم الثورة المهدية في الجنوب، هنا أجبر المستعمر البريطاني الحاكم الصوري لمصر بفصل شمال وادي النيل عن جنوبه، لكن الفصل لم يعيد الوضع كما كان عليه في الجنوب قبل غزو جيش محمد علي له، إنما كان هناك مخطط استعماري بريطاني لعزل مصر عن عمقها الإفريقي، فمن الجنوب جاء الدعم الشعبي الوحيد متمثلًا في الثورة المهدية للثورة الوطنية في مصر متمثلة في الثورة العرابية.
بناء عليه كان المخطط الاستعماري باختلاق منطقة عازلة شعبيًا بين شمال الوادي وجنوبه، وذلك عن طريق تفرغ مناطق من سكانها، واختلاق منطقة غير مأهولة بالسكان، لضمان قطع التواصل المجتمعي، فكانت ضربة المشرط عند شمال بلاد النوبة القديمة حيث نقطة التماس الطبيعية بين شمال الوادي وإفريقيا السوداء واهبة النيل، فوجد النوبيين أنفسهم مقسمين بين حدود سياسية لدولتين، وقبل أن يستوعب السكان الحدث شرعت بريطانيا عام 1902 في بناء خزان أسوان وتحويل أجزاء واسعة من أراضي النوبة “المصرية” لخزان مياه يحمي استثماراتها الزراعية في شمال الوادي.
وأكبر دليل على أن المقصود من اختيار المكان هو تمزيق النوبيين تحديدًا لا غيرهم هو أن حين تم اعتبار خط عرض 22 هو الحد الفاصل بشكل واضح لا يقبل اللبس أو التشكيك تم استثناء “مثلث حلايب” ليخضع إداريًا لحاكم الخرطوم بدلاً من القاهرة، لتسهيل الخدمات وبسبب الصلات العائلية والبشرية بين سكان المثلث والأهالي تحت خط 22.
(كتابات): كيف تعاملت الدولة المصرية مع قضية النوبة ؟
- تصر الدولة المصرية، محتلة كانت أو مستقلة، على تنفيذ طموحات المخطط البريطاني بإخلاء المنطقة من سكانها.. أو إذا أجبر على إعمار المنطقة فيفضل ضخ سكان من مناطق أخرى غير السكان الأصليين للمنطقة، وهُم من يشكلون بشكل طبيعي عملية التحول المجتمعي الطبيعي بين شمال الوادي وجنوبه، ولجأت في ذلك لكل الوسائل، بداية من إغلاق عيون الخزان والبدء في تخزين المياه دون سابق إنذار لسكان المناطق المتضررة.. كما حدث في افتتاح الخزان، مرورًا بالتهجير القسري.. كما حدث عند بناء السد العالي، وصولًا لوضع قوانين وقرارات جمهورية معطلة للدستور كما هو الوضع الآن.
(كتابات): ما هي النشاطات التي يقوم بها النوبيون لاستعادة حقوقهم ؟
- نتحرك بكل السبل القانونية والسياسية الممكنة.. فهناك قضايا عدة تنظرها المحاكم المصرية، وكلها تعاني من التطويل والمط وإضاعة الوقت، بينما يواجه أي نشاط سياسي بحملات حقيرة للتشويه وشيطنة القائمين عليها.
(كتابات): ما رأيك في “محمد منير” والذي يعتبره البعض نموذج للنوبي الناجح ؟
* المشير “حسين طنطاوي” من قرية أبو سنبل.. وهو أيضًا ناجح في مجاله.
(كتابات): هل تعد برنامج يتحدث عن تاريخ العرب وما الهدف منه ؟
- أعددت برنامج للحديث عن تاريخ مصر وقت الغزو العربي.. حمل البرنامج اسم “كيميت تحت الاحتلال العربي”.. و”كيميت” هو الاسم الأصلي لبلادنا قبل أن يطلق عليها المحتل العربي اسم “مصر”، يهدف البرنامج بالأساس لتوضيح إننا كنا مستعمرين من قبل العرب المسلمين ولم نكن نحن أصحاب هذه الإمبراطورية التوسعية.
(كتابات): في كتاباتك وشعرك هل تحاول أن تخرج من أسر اللغة العربية الفصحى.. وهل هذا موقف مقاوم منك ؟
- اللغة العربية لا تأثرني فهي غير مستخدمة أصلاً في الشارع المصري.. فقط يستخدمها الساسة ورجال الدين، وأغلبهم يخطئ أخطاء فادحة في استخدامها، فهي لغة متروكة ونادراً ما يجيدها أحد، وهي غير صالحة للاستخدام اليومي.
وإن كنت بالطبع لا أنكر عدم حبي لأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية لبلدي فهي لغة واحد من المستعمرين الذين عاثوا فسادًا في هذا الوادي الطيب.
- رامي يحيى شاعر، ومعد برامج، وكاتب مقالات معروف ينتمي لأرض النوبة، صدر له ديوان في قصيدة نثر العامية “صعلوك” 2006, وحصل على الجائزة المركزية للثقافة الجماهيرية، وديوان “الغريب” 2010، وحصل على جائزة التميز الإبداعي من الملتقى العربي الأول لقصيدة النثر، وديوانه الثالث “كلام كريم” ويختلف عن سابقيه بتضمنه لمقاطع من اللغة العربية وكتاب سرد بالعامية بعنوان “أساطير”، وديوان بعنوان” بأكد جنوني”.
