خاص : بقلم – د. محمد دوير :
(1)
ولد “كارل ماركس” لأبوين يهوديين، كان والده “هيرشل موردخاي ماركس ليفي”؛ محامي من اليهود الإشكناز، ولد في 1777، وتعلم تعليمًا علمانيًا، فدرس القانون في “ستراسبورغ” على خلاف أخيه؛ “صموئيل”، الذي صار حاخامًا. و”هنرش” رجل مستنير اهتم بـ”كانط” و”فولتير” وأعجب إلى حدٍ كبير بالثورة الفرنسية وتشبع عقله بالروح الثورية، فترك تأثيرًا طاغيًا على “كارل”. وهو أول محامٍ يهودي في “ترييف-Trier” التابعة لولاية “بروسيا” الألمانية، حيث تخصص في “قانون نابليون-Code Napoléon” على وجه الخصوص.
تزوج “هيرشل”؛ في عام 1814، من سيدة يهودية ذات أصول هولندية تُدعى: “هنرييتا برسبورغ-Henriette Pressburg”، والدها تاجر وجدها حاخام وكانت أختها متزوجة من مؤسس شركة “فيليبس”. و”هنرييتا” سيدة منزل نصف متعلمة لم تنشغل في حياتها سوى بشيئين تربية أولادها التسعة وبث روح وتعاليم الديانة اليهودية في نفوسهم.
وفي منطقة “الراين”؛ التي عادت بروسية بعد هزيمة “نابليون”؛ في “واترلو” 1815، منع اليهود من شراء الأراضي، ومن الزواج بحرية، ومن اختيار مكان إقامتهم، وممارسة المهنة التي يختارونها، ويجب على اليهود النادرين الذين عينوا أثناء النظام الفرنسي في وظائف رسمية، التخلي عن خدمة الدولة، وفي “تريفز” بالخصوص، ثلاثة يهود شملهم هذا الإجراء منهم: “هيرشل ماركس ليفي”، فكان عليه أن يختار بين مهنته أو ديانته، فيُغير الديانة في 1815، أي قبيل مولد “كارل” بثلاث سنوات، حتى لا يسري عليه قانون منع اليهود من ممارسة المحاماة، ويُغير اسمه من “هيرشل” إلى “هنرش”، ولكنه لم يختار الكاثوليكية كما كانت تُدين مدينة “ترييف” واختار اللوثرية كمذهب جديد له.
(2)
في الخامس من آيار/مايو عام 1818، ولد الطفل الثالث للأسرة التي تكونت من أحد عشر فردًا، تسعة أبناء منهم أربعة ذكور وخمس بنات، وأبوين. وهو “كارل هنرش ماركس”، ذو البشرة السمراء؛ لذلك وصف وهو شاب: بـ”المغربي” أو “الزنجي” نظرًا لملامحه التي لم تكن أبدًا قريبة من ملامح اليهود. وتلقى تعليمه الأساس في “ترييف”، ثم انتقل إلى مدرسة “ترييف” العليا؛ في عام 1830، “12 سنة”. وفي تشرين أول/أكتوبر من العام 1835، “17 سنة”، سافر إلى “بون” في بداية رحلته مع المعرفة الإنسانية ودراسة القانون نزولاً على رغبة أبيه، وعلى غير رغبة “كارل”؛ الذي انشغل كثيرًا بالبحث الفلسفي والأدبي.هناك انضم لـ”نادي الشعراء”؛ الذي ضم عددًا لا بأس به من السياسيين الراديكاليين. وخلال عدة أشهر أصبح رئيسًا له، ولكنه تعثر في دراسته للقانون وترك الكلية بعد عام.
كانت تلك السنة التي قضاها في “بون” فرصة لكي يكتشف العالم من حوله، حيث انغمس في “جماعة أبناء ترييف”، واكتشف قدرته على الحوار واستفاد من ثقافته السابقة وحوارات أبيه في نادي “الكازينو”، الذي أسسه كصالون فكري وسياسي، وظل هكذا حتى قرأ كتاب “هيغل”: (فينومنولوجيا الروح)، فهم منه أن الحياة الحقيقية هي حياة الفكر، فيدرك أهمية الفكر وأولويته في نشاط الإنسان، وفي تلك الفترة ظل “هيغل” هو منارته التي يدور حولها فترة شبابه المبكرة.
في صيف 1836، تعرف على والد زوجة المستقبل؛ “جيني”، وهو البارون: “فون ويستفالين-von Westphalen”، وشاطره حوارات مستمرة وصداقة مبكرة رغم فارق السن، وأحاديث مطولة حول الأدب والفن والاهتمام بـ”غوته” و”سرفانتيس” و”شكسبير”. ثم التحق في تشرين أول/أكتوبر من نفس العام؛ “18 سنة”، بجامعة “برلين” لدراسة القانون، ولكنه كان شغوفًا بدراسة الفلسفة التي رأى فيها المدخل الأساس لكل معرفة معتقدًا أنه بدون الفلسفة لا يمكن إنجاز شيء حقيقي ذا قيمة، مما دفعه لدمج الفلسفة بالقانون في دراسته. وفي نفس العام أيضًا – 1836 – الذي يُعد عامًا محوريًا في تاريخ تطور “ماركس”، اهتم أكثر بدراسة “هيغل”؛ الذي كان يُمثل حينئذ منارة الفكر الفلسفي، وصارت أفكاره العقيدة الرسمية للمهتمين بالفلسفة في “أوروبا” عامة و”ألمانيا” بصفة خاصة، وكانت جامعة “برلين” بؤرة هذا الأثر الهيغلي وأفكاره حول دور الدولة وقيمتها في التصور الفلسفي عمومًا، وأن العقلانية تكمن في الدولة البروسية التي رآها “هيغل” تعبيرًا عن علاقة الفكر بالمجتمع.
في “نادي الدكتور-Doktor Klub”؛ الذي تكون من مجموعة مثقفين شبان تُناقش فلسفة “هيغل”، تعرف “كارل” على: “الهيغليين الشبان-Young Hegelians”؛ في 1837، بقيادة “فيورباخ”، ومن حوله: “برونو باور-Bruno Bauer” و”أدولف روتنبرغ” وآخرين، وقوام أفكار هذه المجموعة نقد الأفكار الغيبية في فلسفة “هيغل”. ولكن بعد فترة بدأ “ماركس” ينظر بمنظور آخر أدى به في النهاية إلى الانقلاب على فلسفة “هيغل” والسير عكسها تمامًا، معتقدًا أنها لا توحي له بشيء نافع ومفيد باستثناء تقديره لدور الفكر في التاريخ، فـ”هيغل” كشف بالفعل عن دور العقل في الواقع الفعلي، ولكنه أيضًا باسم الفكر سمح لهذا العقل بأن ينسحب من الحياة، جاعلاً من الحتمية أساس الوجود دون تدخل لإرادة البشر في تغيير واقعهم.
لم يكن “هيغل” فحسب هو الذي انسحب من عقل “كارل”، فقد توفي في العام 1838؛ والده “هنرش”، مما ترك أثرًا نفسيًا وماديًا قاسيًا عليه لم يُعادله أثر آخر في حياته رغم امتلاء حياة “كارل” بالمآسي، علاوة على أنه كان مصدرًا لتمويله بنفقات الدراسة والمعيشة، وكان تأثيره الفكري عليه مما لا يمكن تجاهله، فعن طريقه استوعب قضايا الحرية والدين والأخلاق والثورة. لقد كان “كارل” مقربًا من والده بدرجة كبيرة، وبعيدًا – إلى حدٍ ما – عن أمه التي رآها لا تهتم سوى بتعليمه العبرية وصلوات اليهود.
يستمر “كارل” في “برلين” لخمس سنوات: “1836 – 1841″، تنتهي بحصوله على الدكتوراه؛ في 15 نيسان/إبريل1841، في موضوع: “الفرق بين ديمقريطس وأبيقور في الفلسفة الطبيعية-The Difference Between the Democritean and Epicurean Philosophy of Nature”، إنه بحث حول علاقة الفلسفة بالعالم. وما دفعه لهذا البحث في الفلسفة المادية لدى الإغريق هو دراسة أصول الفكر المادي، ونظرته إلى فكرة أن مصير الفلسفة هو نفسه مصير “سقراط”، حينما تجرع السم طوعًا.
(3)
انشغل “ماركس”؛ في سنواته الفكرية الأولى بالتأسيس الفلسفي، وحينما تخصص في الاقتصاد السياسي بعد ذلك كان لهذا التأسيس أثره الواضح على فرضياته العلمية؛ بحيث يمكن القول بأنه أقام نظرياته الاقتصادية على قاعدة فلسفية مادية واضحة وصريحة. فمنذ أن كتب مقالاً عن “ما الملكية ؟”، على أثر إصدار قانونًا في البرلمان البروسي يُجرم كل من يقطع أشجار من حدائق الأغنياء، منذ ذلك الحين و”ماركس” يبحث عن طريق يكشف من خلاله حقيقة الأشياء. هنا تعرف على إثنين كانا لهما أكبر الأثر عليه، بعد والده ووالد زوجته، هما: “أرنولد روغ” Arnold Ruge” 1802-1880″، أستاذ الفلسفة في جامعة “هال” والمشرف على (حوليات هال)؛ التي يُصدرها الهيغليون الشبان، تلك التي كان ينشر فيها “فيورباخ”، والثاني هو “ولهلم ويتلنغ”؛ وهو خياط ألماني لأجيء ينتسب إلى جمعية سرية تدعو إلى المساواة وإلغاء الاستغلال.
كان عام 1840 هو عام الانغماس بجدية في الحياة العامة؛ حيث التصق بـ”برونو بوير”، وهو لاهوتي بروتستانتي يؤمن بالأفكار الليبرالية، والأكثر وعيًا من بين الهيغليين الشبان، ونشرا معًا مجلة بعنوان: (أرشيفات إلحادية-Atheistic Archives)، لم يصدر منها سوى عدد واحد وتوقفت. وفي عام 1841؛ أصدر “فيورباخ” كتابه المهم: (جوهر المسيحية)، حيث أشار فيه إلى أن منتجي الفكر والسلع، أي: “المثقفين والعمال” هم المنوط بهم تغيير الدولة والمجتمع والتحرر الشامل، فالدولة ليست كما يقول “هيغل” فوق الطبقات. التقط “كارل” تلك الفكرة من “فيورباخ” فشجعته على مواصلة طريقه وأكدت انفصاله عن هيمنة “هيغل”. كان “إنغلز” هو الآخر قد قرأ (جوهر المسيحية) ـ ويقول في هذا الصدد: “منذ ذلك الوقت أصبحنا؛ ماركس وأنا، فيورباخين”، كان كتاب (جوهر المسيحية) من المؤلفات التي أسهمت في تحول “ماركس” و”إنغلز” من الفلسفة إلى السياسة بكل ما تتضمن الكلمة من أبحاث وممارسات.
بدأ “ماركس” حياته المهنية في الجريدة الرينانية في “كولونيا”؛ 1842، وكتب ستة مقالات من أهمها مقال عن: “رقابة الصحف”؛ ومقال عن: “الزواج المدني”؛ وآخر عن: “الملكية”، وكان من المواظبة والوعي والقدرة على الكتابة أن وصفه “موزس هس-Moses Hess1812-1875″، صاحب الجريدة بكلمات موجزة ومعبرة، حيث قال: إنك ستجد “روسو” و”فولتير” و”دولباخ” و”ليسنغ” و”هيغل” مجتمعين في شخص واحد…، ولكن سرعان ما تخضع الجريدة للرقابة الشديدة لضمان عدم مهاجمتها للحياة السياسية العامة أو لحكام الدول المجاورة والصديقة. في تلك الأثناء تخلى أستاذه؛ “بوير”، عن العمل السياسي بعدما يأس من العودة للجامعة التي فُصل منها لإعتناقه أفكارا ليبرالية متطرفة.
وجدير بالذكر أن “ماركس” في تلك الفترة كان قد أشار في مقال له؛ في 16 تشرين أول/أكتوبر 1842، إلى الشيوعية؛ حيث وصفها بأنها: “حركة ترجع أصولها إلى أفلاطون وإلى الطوائف اليهودية والى الأديرة المسيحية الأولى، وأنها تتقدم في فرنسا وفي بريطانيا العظمى وألمانيا”. وبعد شهر من هذا المقال، أي في تشرين ثان/نوفمبر 1842، بدأ في رسم ملامح مشروعه الفكري الذي سيستمر معه بقية حياته بمقال عن: “الملكية” – الذي أشرنا له – كان هو الدافع لاتجاهه إلى الاقتصاد السياسي. بعد هذا المقال المحوري بدأ في رحلة القراءة في الاقتصاد السياسي فقرأ لـ”سيسموندي” وتعرف منه على القيمة المضافة وتركز رأس المال، وتعرف على “جيمس مل”، و”روبرت أوين” و”سان سيمون” و”لويس بلان” و”شارل فورييه”… الخ. وفي تقديري أنه في تلك اللحظة التاريخية أتضح لـ”ماركس” ماذا يجب عليه أن يفعل ؟.. وكيف يسير خطواته الأولى فلسفيًا وسياسيًا وثوريًا.
(4)
في حزيران/يونيو 1843؛ تزوج من “جيني-Jenny”، واستمر في التدفق النظري باتجاه الواقع في الفلسفة والاقتصاد السياسي، بيد أنه كان مشغولاً بقطع روابط الصلة مع الفلسفة الألمانية تحديدًا، قبل أن يستقل قطار التأصيل النظري في الاقتصاد السياسي. كتب في 1843، (نقد فلسفة الحقوق عند هيغل) و(في المسألة اليهودية). في الكتاب الأول كشف للمرة الأولى عن الدور التاريخي للطبقة العاملة وتحدث عن حتمية الثورة الاجتماعية، والنظرة العلمية للعالم. وفي الكتيب الثاني تناول المسألة اليهودية من منظور مدني؛ وأشار إلى أن اليهود إذا أرادوا أن يعيشوا في العالم حياة طبيعية فلابد لهم من العيش كمواطنين يؤمنون بحقوق المواطنة المتساوية ويدافعون عنها ويندمجون في المجتمع الأوروبي مع ضرورة التخلي عن فكرة “الغيتو” أو الحياة وفقًا لتعاليم التوراة.
لم تكن الحياة في “بروسيا” قادرة على تحمل ضربات “ماركس” السياسية أو الثورية، فكانت “باريس” هي محطة انتقاله الأولى، حيث وطأت قدماه مدينة الأنوار؛ “باريس”، في 13 تشرين أول/أكتوبر 1843، حيث كانت تعج بكل أصناف الفكر والحراك الثوري كمسرح للعمليات التي تُدار عليه آخر معارك البورجوازية الفتية مع بقايا الإقطاع المدعومة بقوى عسكرية. ويبدو أن المشهد كان مُربكًا ومُعقدًا بصورة تليق بعقل “ماركس” ورغبته في تحليل ظواهر تصلح لبناء تصورات مركزية في بناءه الفلسفي. في “فرنسا” كانت الصحف منتشرة بصورة لافتة للنظر، والتنظيمات والحركات السرية والعلنية تملأ كل مكان، من بينها: (عصبة المنفيين)؛ التي ستكون أولى اختيارات العمل السري لـ”ماركس”، ويبدو أنه بدأ يشعر بأن “فرنسا” ستكون ذات أهمية خصوصًا في ضميره ووجدانه، فلطالما تذكر حواراته مع والده عن الثورة الفرنسية وعن “نابليون” وحلمه الإمبراطوري، ولطالما تذكر والد زوجته؛ “ويستفالين”، وهو يُحدثه عن قيم المساواة والعدل والحرية، ولطالما حلم هو شخصيًا بمجال يسمح له بأن يُعبر بحرية عن أفكاره التي ستُغير العالم بعد سنوات قليلة. شعر “ماركس” أنه أبن باريس أكثر من شعوره بالانتساب لأي مدينة أخرى، وأن “فرنسا” هي المجال الأكثر خصوبة وثراءً؛ بحيث تصلح كمجال تطبيقي أو تجريبي لفرضياته النظرية، باختصار كانت “فرنسا” هي المعمل التجريبي لأحد أهم علماء الاجتماع في التاريخ وواحد من صناع علم الثورة في العصر الحديث، فماذا قدم معمل التجريب له ؟.. وماذا أنتج المجرب هنا ؟
كان أمام “ماركس” برنامج عمل كبير شامل في “باريس”، في البداية كان يجب أن يبحث عن هؤلاء الذين سمع عنهم وقرأ لهم، منهم على سبيل المثال الكاتب الاشتراكي؛ “برودون” Proudhon”1809-1865″، الذي أسست أفكاره للأناركية وصاحب كتاب: (ما الملكية ؟.. إنها السرقة)؛ ويلخص فيه أزمة الإنسان في أسباب ثلاثة هي؛ النظام الرأسمالي من خلال استغلال الإنسان للإنسان، وجود الدولة، ويدعو هنا إلى اختفائها كرمز سلطوي يجب التخلص منه، وأخيرًا يكمن السبب الثالث في الدين وما يلعبه من تزييف لوعي الإنسان.
ثم العمل المشترك مع أستاذه؛ “أرنولد روغ”، في إصدار (حوليات ألمانية-فرنسية-German-French Annals)، تُعني بقضايا الفكر والسياسة في “فرنسا” و”ألمانيا”، ولكن ظل الخلاف بينهما حول طبيعة السياسة التحريرية للمجلة قائمًا حتى فشل المشروع، حيث يريدها “روغ” مجلة ليبرالية، فيما يراها “ماركس” مجلة ثورية تحريضية تنتقد الحكم المستبد في كل “أوروبا”.
وبينما هو منشغل بموضوعات المجلة والبحث في كل مكان بـ”باريس” عن القوى الثورية والعمل داخل العصبة؛ يُقدم له صديقه القديم؛ “موزس هس”، مسودة لكتاب عن جوهر المال يُشير فيه إلى مفهوم الاغتراب الهيغلي والعلاقة بين القيمة الاجتماعية والاقتصادية، ثم يطلع على مقال أرسل للمجلة بعنوان: “تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي”، لشاب ألماني أسمه: “فريدريك إنغلز” Friedrich Engels”1820-1895″، يكشف فيه عن العلاقة بين تكاليف الإنتاج والمنفعة كما تتبدى في المنافسة، ويتضمن نقدًا للاقتصاديين البورجوازيين وخصوصًا نظرية “مالتس-Malthus” في السكان، حيث كشف تهافتها، وأكد على أن التقدم العلمي قادر على تجاوز تلك الزيادة بمراحل نظرًا لقدرته على تراكم الإنتاج بصورة سريعة. من هنا بدأ يتأكد لديه الجسر الواصل بين الفلسفة والاقتصاد كما في كتاب “هس”، والعلاقة بين الملكية والتراكم كما ذكر في مقاله عن: “ما الملكية ؟”.
(5)
يبدو أننا هنا نقترب من جوهر المشروع الماركسي، ويبدو أيضًا أن وعي “ماركس” بطريقه، بغض النظر عن إدراكه له تمامًا، بدأ يتبلور في محددات معرفية تقترب من الوضوح. فبينما كان “ماركس” منشغلاً بالقضايا الفلسفية حدثت حادثتان؛ ظهور أول تلغراف، وهو ما يُعبر عن طفرة كبيرة في ثورة الاتصالات وانعكاس ذلك على نمو المعرفة والرأسمالية بالضرورة، في المقابل مجزرة لحركة العمال حدثت للنساجين السيليزيين؛ 1844. هنا توقف “ماركس” قليلاً أمام هذين الحدثين، وبدأ يُدرك أن هذه هي لحظة العمل الجاد فقرأ بكثافة ربما أعمق من المرة الأولى التي كانت منذ عام تقريبًا في الاقتصاد السياسي؛ بدأ بـ”فرانسوا كيناي”، الذي قسم المجتمع إلى طبقات ثلاث: “ملاك – عقيم – مزارعين”، فيما عُرف: بـ”مذهب الفيزيوقراط”، الذي يُعتبر أول إدراك منهجي للإنتاج الرأسمالي. إن ممثل الرأسمال الصناعي – طبقة المزارعين – يقود مجمل الحركة الاقتصادية، والزراعة تجري على أساس رأسمالي.
بعد ذلك قرأ “ماركس”؛ لـ”أوراي”، وحديثه عن الربح الصناعي كجزء من القيمة المسروقة من العمال، وتأكيده على أن العمل هو أساس الملكية الوحيد أو بمعنى آخر هو المفسر لطبيعة الملكية. بينما وجد عند “جون ستيوارت مل” تفسيرًا لسؤال عن سر التفاوت الاجتماعي والطبقي، فيما كان “ريكاردو” أهم عناصر التأثير في فهم “ماركس” للاقتصاد السياسي، لا سيما في تأكيده على أن العمل المأجور هو المصدر الحقيقي للثروة، وكذلك في إشارته لمفهوم القيمة، وهي على كل حال أفكار تدين إلى “آدم سميث” في التأسيس النظري. أما “سان سيمون” فقد تحدث عن صراع الطبقات ودور الأنوار العقلية في التقدم، ولا شك أن تأثير “سان سيمون” على “ماركس” كان مهمًا إلى درجة أن تطرف البعض في القول بأن “ماركس” لم يأتِ بجديد على ما ذكره، رغم عدم إقرار “ماركس” بهذا مباشرة. فيما قرأ أيضًا لـ”سيسموندي” ورؤيته أن الرأسمالية تتسم بخصوصية مميزة بخلاف أنظمة الملكية الخاصة الأخرى التي لم تكن بحاجة كبيرة لتصريف الإنتاج في الأسواق، وهو ما يُنتج في نهاية المطاف حالة الصراع والتنافس التي يترتب عليها تصورات مختلفة عما سبق.
لقد كانت كل هذه المؤلفات وغيرها مطروحة على عقل “ماركس”؛ في أواخر عام 1843 وأوائل عام 1844. بيد أن “ماركس” لم يكن متلقيًا سلبيًا لكل ما هو مطروح عليه، بل سنجده دائمًا منطلقًا من عقلية ناقدة.
هنا بدأت تتجمع خيوط نظريته في المعرفة، وأعني رؤية جديدة في جدليتها ومكوناتها وتاريخيتها وطرحها حلولاً لمشكلات الواقع وتصورًا عامًا للمستقبل، تنوعت مساحات العمق فيه. ولكن في النهاية لا نشك أنه قدم تصورًا جديدًا في علاقة الوعي بالواقع، وفي دور الثورة كلحظة تغيير جذري بكل ما تعني كلمة الجذرية من معنى. فوضع تصورًا عامًا لما يجب عليه أن يكتب فيه، برنامج النضال والبحث العلمي فيما عُرف بمخطوطات “باريس” أو (المخطوطات الاقتصادية-الفلسفية)؛ التي وضعها عام 1844، وكشف “جورج لوكاتش” عنها النقاب للمرة الأولى؛ عام 1932.
لقد وجد “ماركس” ضالته أخيرًا في هذا العام الذي كتب فيه “مخطوطات باريس”، وفي نفس العام التقى برفيق الدرب؛ “فريدريك إنغلز”، في آب/أغسطس 1844، في “فرنسا”، عندما كان “إنغلز” في زيارة لها لتسليم مقالة له عن تطور الرأسمالية في “أوروبا” من المرحلة المركنتلية إلى الصناعية، وفي لقاء مطول بين “ماركس” و”إنغلز” دارت فيه مناقشات مستفيضة حول مشروعهما الفكري، تناقش “ماركس” مع “إنغلز” حول كل شيء بما في ذلك الفلسفة الألمانية ذاتها، فأشار “ماركس” إلى أنه يُريد تجاوزها والخروج من أسرها ومن عباءة الفكر الهيغلي بعامة، لأنها فلسفة تُهمل علاقات القوة الاجتماعية في تحليل المفهومات، ويُبين له كيف ينوي تفسير تاريخ بني الإنسان، وتاريخ الدول من خلال علاقتها مع الاقتصاد ومع الملكية، وقد أثمر هذا اللقاء صداقة مستديمة ومراسلات كاشفة لعقل قادة الحركة الثورية في العالم.
ينتقل “ماركس” إلى “بروكسيل”؛ في شباط/فبراير 1845، لتعرضه لمضايقات أمنية في “باريس”، وهناك يلتقي بـ”إنغلز” مرة أخرى ويفكران سويًا في رسم إستراتيجية المستقبل، فيكتبان سويًا مخططًا عامًا سُمي فيما بعد: بـ (أطروحات حول فيورباخ)؛ وهو عبارة عن إحدى عشرة مقولة، وكانا يقصدان من هذه الأطروحات وكتابي: (العائلة المقدسة) و(الإيديولوجيا الألمانية)، تصفية حساباتهما مع القديم أي مع نسق “هيغل” ورؤية “فيورباخ” وآخرين ممن لمع نجمهم في سماء الفكر الأوروبي في ذلك الحين. ففي (العائلة المقدسة) – الذي كان نقدًا موجهًا ضد “برونو باور” – وضع “ماركس” و”إنغلز” أفكارهما عن الدور التاريخي للبروليتاريا، وقدما تعليلاً اجتماعيًا اقتصاديًا لدورها هذا. فعلى نقيض الاشتراكيين الطوباويين الذين لا يرون في البروليتاريا سوى جماعة مظلومة عاجزة. فإن “ماركس” و”إنغلز” يُبرهنان على أن الطبقة العاملة، بحكم وضعها في المجتمع الرأسمالي، يمكنها ويجب عليها أن تقوم بتحويل العالم تحويلاً ثوريًا.
(6)
وفي رحلة استمرت ستة أسابيع اصطحبه “إنغلز” إلى “إنكلترا”، حيث وطأت قدم “ماركس” للمرة الأولى، فيتعرف عن قرب بالمدن الإنكليزية التي تُحقق فيها الصناعة تقدمًا كبيرًا، وتوجد بها طبقة عاملة مؤهلة لأن تُصبح معمل التجريب “الثاني” الذي يبني عليه “ماركس” كل نظرياته في علم الاقتصاد السياسي بعد ذلك، فقد وجد بها المصانع والعمال والنقابات والنقابيين القادرين على فهم قضايا عمالهم ومصانعهم، وربما أوحى لهما هذا الزخم بفكرة إنشاء تنظيم دولي لكل العمال الثوريين لبناء مؤسسة سياسية ثورية تلعب دور التناقض مع الرأسماليين. وهذا ما حدث بالفعل حيث شكلا “لجنة المراسلات الشيوعية”؛ في نيسان/إبريل 1846، في “بروكسيل”، وهي ما ستكون نواة “العصبة الشيوعية” بعد ذلك. وبعد العودة تبدلت قليلاً الحالة المزاجية لـ”ماركس” جراء ضيق العيش خصوصًا؛ وأن الحوليات قد أغلقت بعد رفض الناشر طباعتها، ففكر في الهجرة إلى “أميركا”، ولكن طلبه قوبل بالرفض من حكومة “ترييف” التي ردت عليه بأنه مطلوب للعدالة، فرد على هذا الرد بالتنازل عن جنسيته؛ في 10 تشرين ثان/نوفمبر 1845. ومنذ ذلك الحين حتى وفاته لم يذكر أنه استعادها مرة أخرى وظل هو المواطن الأممي رقم واحد في العالم آنذاك.
لم تتبدل تلك الحالة حتى انتهى مع رفيقه “إنغلز” من تأليف: (الإيديولوجيا الألمانية)؛ في آب/أغسطس 1846، للرد على أفكار “فيورباخ” و”ستيرنر”، وفيه طرحا فكرة أن كل حديث عن الواقع سيكون مجردًا ما لم تُدرس الظروف الاجتماعية جيدًا وبيان كيف تشابكت لإنتاج هذا الواقع، وهذه مشكلة كل حديث سابق عن الاشتراكية أو الشيوعية، حيث جاءت كلها أحاديث مجردة من التحليل الاجتماعي العميق وفهم بنية المجتمعات. وأن الطبقات الحاكمة تهيمن بإيديولوجيتها على المجتمع، ولكي يتم التخلص من تلك الهيمنة فلابد من تسليح الطبقة العاملة بوعي مضاد، هذا الوعي هو الكفيل بإنتاج حالة ثورية قادرة على تجاوز الرأسمالية التي كانت ضرورة تاريخية في مرحلة من مراحل تطور المجتمعات.
أما عن “العصبة الشيوعية” أو “الرابطة الشيوعية”؛ فقد عقدت مؤتمرها الثاني في 29 تشرين ثان/نوفمبر 1847، وكلف المؤتمر “ماركس” و”إنغلز” بكتابة برنامج الرابطة ورؤيتها للشيوعية العلمية، وتم الإنتهاء منه – استكمل “ماركس” الكتابة فيه بعد سفر “إنغلز” إلى “بروكسيل” – في أواخر كانون ثان/يناير 1848، وأرسل إلى مقر الرابطة في “لندن”، ومنذ ذلك الحين أصبحت الماركسية هي النظرية العلمية لتنظيم العالم بطريقة ثورية، وأصبح البيان هو التعبير الملهم عن المباديء الأساسية للنظرية الثورية البروليتارية .
في 29 آب/أغسطس 1849؛ عاد “ماركس” إلى “إنكلترا” من جديد لتكون محطته الأخيرة التي يستقر بها ويُدفن فيها. ولكن ثمة صعوبات واجهته هناك؛ حيث لم يكن يُجيد الإنكليزية بطريقة تسمح له بالكتابة بها، ولم يكن بها حركة اشتراكية ثورية على غرار “فرنسا”، وأن النضال العمالي في “إنكلترا” كان نضالاً إصلاحيًا، حيث يقود النقابيون مفاوضات دائمة لإصلاح أحوال العمال بمصانعهم. ورغم ذلك فقد قدمت “إنكلترا”؛ لـ”ماركس”، “الباحث” ما لم تقدمه أي بلد آخر.
(7)
من جهة أخرى، لم تزل “فرنسا” في قلب “ماركس”، فهي المجال الخصب لتطبيق نظرياته وتحليلاته في الصراع الطبقي، فكتب فيها أربعة مقالات؛ جمعت بعد ذلك في 1850، تحت عنوان: (الصراعات الطبقية في فرنسا 48-1850) شرح فيها رؤيته النظرية وتحليله الطبقي. وقد أشار في المقالة الثانية إلى مصطلح: “ديكتاتورية البروليتاريا”، ربما للمرة الأولى، وأشار إلى فكرة الثورة الدائمة بوصفها صراعًا لا هوادة فيه للطبقة العاملة لكي تظفر بحقوقها. ولكن ضغوط الحياة تزداد عليه و”فرديناند” أخو “جيني” زوجته؛ وعدوه اللدود، يُصبح وزيرًا لداخلية “بروسيا”؛ في آذار/مارس 1850، وهو ما يعني مزيدًا من المضايقات الأمنية عليه فيترك غرفته ويُباع عفشه في المزاد، ولكنه يستمر فيتابع تطور العلم والانتقال الكامل من مرحلة البخار إلى الطاقة الكهربائية، ويرصد حركات العمال، ويرى كيف تلعب التكنولوجيا دورًا مهمًا في تسارع عجلة الإنتاج… الخ. ولكن عجلة الحياة تسير به في تضاد درامي، إنه تطور فكري مطرد وبؤس متواصل، وحركة عمالية تتقدم ببطء ونمط إنتاج رأسمالي ينمو بسرعة فائقة.
هنا أدرك “ماركس” أهمية أن يبقى متماسكًا حتى ينضج مشروعه ويضعه على عتبات التاريخ. “لابد أن يستمر..”؛ قالها “إنغلز” مبررًا عودته إلى “مانشستر” لمتابعة أعماله الصناعية ويوفر المال لـ”ماركس” لكي يستكمل مشروعهما المشترك، وقالها “إنغلز” مرة أخرى حينما توفي ابن “ماركس” المقرب إلى قلبه؛ “غيدو”، وهو ابن الخامسة وكادت وفاته أن تذهب بعقل “ماركس”.
تحت ضغوط هذه الظروف الإنسانية والاجتماعية يرقب “ماركس” معرضًا لأحدث المنتجات التكنولوجية، حيث تظهر فيه المكابس الهيدروليكية والمطابع القادرة على طباعة 5000 نسخة من كتاب في ساعة واحدة، إضافة إلى تنامي حركة القطارات بمعدلات سرعة فائقة، هنا يُدرك “ماركس” أن النظام البورجوازي يتقدم بسرعة تفوق كل توقع، وربما يوحي هذا بإنهيار يفوق المتوقع أيضًا فعليه أن يُسارع بإنتاج ما يُريد أن يقوله حتى تُصبح النظرية في يد الطبقة العاملة. ولكنه يكتب مرة أخرى عن “فرنسا” معلقًا على انقلاب 1851؛ في كتاب: (18 من برومير) مفسرًا فيه لماذا فشلت الثورة، وما هي النتائج المترتبة على ذلك ؟.. ومدى استفادة البروليتاريا منها. وأشار فيه أيضًا إلى دور الصراع الطبقي في حتمية انتصار البروليتاريا في معركتها الأخيرة مع قوى الاستغلال.
ويبدو أن ضيق الحياة جعله؛ في 1852، يقبل عرضًا أميركيًا – بعد أن فشل في السفر بنفسه إليها – للكتابة لجريدة (نيويورك ديلي تريبيون-New-York Daily Tribune) لمدة عشر سنوات، مقابل جنيه إسترليني واحد أسبوعيًا كمراسل لها من “لندن”؛ ولاسيما بعد حل العصبة. وبدأ في الكتابة بانتظام للجريدة وعاد من جديد للتفكير في مواصلة مشواره النظري والتفرغ لمشروع: (رأس المال)؛ الذي تحددت ملامحه عبر المقالات والمؤلفات السابقة، كانت الأسئلة المطروحة في ذهنه في حاجة إلى مزيد من القراءات والتمحيص والمراجعة، ولكنه كان قد وصل إلى أكثر من كشف علمي في سياق بحثه في الاقتصاد السياسي والفلسفة، كان الكشف الأول هو عملية الانتقال من الاغتراب الفلسفي – بمفهومه لدى “هيغل” أو تفسيره عند “فيورباخ” – إلى الاستلاب الاقتصادي، فقوة العمل حتمًا تنشأ في صورة سلعة تفصل بين العامل كإنسان والعامل كقوة عمل، كلاهما في موضع مختلف ومغترب عن الآخر كما يغترب الطفل عن أمه، ووجدنا هذا المعنى واردًا بصورة واضحة لأول مرة في “مخطوطات 1844”. بينما كان الكشف الثاني عن الصراع الطبقي والاجتماعي في إطاره التاريخي أو التفسير المادي للتاريخ، وعلاقة تغير نمط الإنتاج بتغيير المجتمعات بناءً على تناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وقد ظهر ذلك التحليل في كتابه سالف الذكر: (الصراع الطبقي في فرنسا).
أما الكشف الثالث فقد تبلور بصورة واضحة؛ في العام 1855، وكان قد أشار إليه بصور مختلفة في كتابات سابقة؛ ولا سيما العمل المأجور ورأس المال في محاضرة ألقاها؛ 1847، على اجتماع عمالي، وهو قانون فائض القيمة أو القيمة الزائدة. وإنطلاقًا من هذه التصورات النظرية بدأ في وضع خطة العمل لـ (رأس المال)؛ كالتالي: أن لديه تصورات مسبقة عن تناقض الرأسمال والعمل المأجور، ولكن ما قرأه في الاقتصاد السياسي ليس بالعمق الواجب، نعم لديه انتقادات كبيرة على مفكري الاقتصاد السياسي البورجوازيين؛ لكنها لم ترق بعد إلى مرحلة النقد الجذري المستفيض، لديه تقارير حديثة عن أعمال اللجان البرلمانية في “إنكلترا” و”بلجيكا” وبعض البلدان الغربية الأخرى، لديه دراية كافية بالحركة العمالية في “أوروبا”؛ سواء في شقها الإصلاحي في “إنكلترا” أو الثوري في “فرنسا”، يمتلك قدرًا من التواصل مع ثوار “أوروبا” بمختلف انتماءاتهم الإيديولوجية. انتهى ذلك كله بإخراج كتابه الأول: (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)؛ عام 1859، وطبع منه ألف نسخة في “برلين” بالألمانية، وهو نفس العام الذي صدر فيه: (أصل الأنواع)؛ لـ”داروين”. بعد إصدار هذا الكتاب المفتتح لـ (رأس المال) توقفت الحياة الفكرية قليلاً بسبب مرض زوجته بالجدري وضيق العيش.
(8)
كانت سنوات ما بعد: (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) ثقيلة ومرهقة في حياة “ماركس”، رغم أنها كانت فترة إنكباب على القراءة المتواصلة. ولم يُخرجه منها سوى الدور الثوري الذي ظل يراود “ماركس” طوال حياته، رغم نصائح “إنغلز” له بأن يتفرغ للكتابة. كانت الأممية أو الدولية الأولى 1864؛ هي التي أعادته من جديد إلى ساحة النضال، حيث دعاه السياسي الفرنسي؛ “لوبيز”، في صيف 1864؛ لحضور اجتماع للعمال الأوروبيين لمناقشة إنشاء منظمة جديدة كانت قد عُقدت اجتماعها الأول في العام الماضي، ولم يكن من السهل عليهم تجاهل صاحب (البيان الشيوعي)، وبعد طول تردد بين استكمال البحث في مشروعه الفكري والنضال المباشر بين صفوف العمال من أجل نقل الوعي إليهم والمساهمة في تنظيم صفوفهم؛ وقف “ماركس” حائرًا بين رغبة بعض تلاميذه؛ وخاصة في ظل هيمنة “باكونين” ورجاله على المنظمة الوليدة؛ ووجود كتلة لا يستهان بها من النقابين الإنكليز أصحاب التوجه الإصلاحي أصلاً، وبين رغبة “إنغلز” وقليلين في أن يبقى “ماركس” على حال إبتعاده عن العمل العام، فمن السهل جدًا قيام آخرين بهذا الدور الثوري، ولكن من الصعب أن يستكمل غيره هذا الجهد النظري الذي تنتظره البروليتاريا في العالم. وحسم “ماركس” الأمر وخاض التجربة – بدون “إنغلز” – فحضر الاجتماع التأسيسي بصفته مراقب وحل محله كممثل لـ”ألمانيا” رفيقه وتلميذه؛ “إيكاريوس”، في الاجتماع الذي عُقد بقاعة القديس مارتن في “لندن”؛ في 29 أيلول/سبتمبر 1864، وبذلك يعود “ماركس” للعمل الثوري المنظم بعد 12 سنة من الإنقطاع. ولكنه يواجه مقاومة شديدة من قبل الاتجاهات المختلفة داخل الأممية، لم تكن مجموعة “باكونين” فحسب، بل سنجد اتجاهًا يقدم تحليلاً خطيرًا وهو أن النضال من أجل رفع أجور العمال سوف يؤدي إلى زيادة أسعار السلع، كان صاحب هذا الرأي؛ “ويستون”، وهو من تلاميذ “أوين”، مما دفع “ماركس” لتقديم تقرير ألقاه في جلسة؛ حزيران/يونيو 1865، أشار فيه إلى أن زيادة الأجور لا تؤثر على أسعار البضائع بل تؤدي إلى تقليص أرباح الرأسماليين، وبينما يسعى الرأسماليون لتقليص الأجور إلى حدها الأدنى وإطالة يوم العمل إلى حدوده القصوى، فإن العمال يسيرون في الاتجاه المناقض لذلك.
تستمر الأممية في العمل المتعثر، وتتراكم المشكلات العمالية، ولكن الوعي ينمو ببطء، والحركة العمالية تكتسب كل يوم موقعًا جديدًا في بلد أو مدينة، ومع “كميونة باريس” 1871؛ انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب، وبدت أحلام اليقظة وكأنها قابله للتحقق، أصبح بإمكان المنظرين الحديث بجدية عن دور حقيقي للبروليتاريا في التاريخ، ومنذ تلك اللحظة الفارقة بدأ نجم “ماركس” أكثر وضوحًا للناظرين، وتحولت مقولاته وأفكاره إلى برنامج عمل للطبقة العاملة ولكل دعاة التغير. لقد قدمت تجربة “الكميونة” درسًا تاريخيًا لا يمكن تجاهله، وكان هناك من الأسباب الكثير في تحليل هزيمة “الكميونة”، من أهمها أن تلك الهزيمة سمحت بأن تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الحركة العمالية تتميز بطابع تطورها السلمي نسبيًا، وبانعدام نضالات الكادحين الثورية الحازمة. ومرد ذلك إلى أن مهمات التحويلات البورجوازية الديمقراطية في بلدان “أوروبا الغربية” كانت قد تحققت أساسًا.
(9)
بعد إصدار الجزء الأول من (رأس المال)؛ 1867، الذي كان بمثابة التشريع النظري الذي يؤصل للنزعة النقدية للنظام الرأسمالي، حيث وضعه على منوال أساتذة علم الاقتصاد السياسي السابقين عليه “شكلاً”، وعلى طريقة الجدل الهيغلي “منهجًا”. لذلك فقد أهتزت الأوساط العلمية لهذا التصور الجديد في تناول موضوعات الاقتصاد السياسي، ثم بعد “كميونة باريس”؛ 1871، أهتزت الأوساط البورجوازية والعمالية لهذا الحدث الثوري العظيم الذي نُسب في بعض مساعيه إلى أفكار “ماركس”، بعد هذين الحدثين، وكتابات أخرى كثيرة بالطبع، صرنا أمام مفكر من طراز رفيع يدعو إلى الثورة على النظام الرأسمالي وتجاوزه وبناء مجتمع جديد، مجتمع أقل ما يوصف أنه ما بعد حداثي، ولكنه: “ما بعد” بالمعنى الجذري، أي تجاوز النظام الرأسمالي نفسه الذي أسس دعائم الحداثة.
وظلت السنوات الباقية من حياة “ماركس” تتراوح بين المرض والتأليف، السعي إلى رسم ملامح لعالم جديد وتجذير فلسفة مختلفة حتى لحق الموت بـ”كارل ماركس”؛ في 14 آذار/مارس 1883. وفي مراسم دفن “ماركس”؛ التي حضرها القليل من الأصدقاء، يقول “إنغلز”: في 14 آذار/مارس، الساعة الثالثة إلا ربع بعد الظهر، توقف أعظم المفكرين الأحياء عن التفكير، لم يكن وحيدًا إلا دقيقتين، وعندما عدنا وجدناه نائمًا نومه الأخير في مقعده. وهي خسارة فادحة للبروليتاريا المناضلة في أوروبا وأميركا، وللعلم التاريخي، موت هذا الرجل، سيشعر الجميع قريبًا بالفراغ الذي تركه رحيل هذا العقل العظيم”.
.. هذا المقال جزء من كتابي: (ماركس ضد نيتشه، الطريق إلى ما بعد الحداثة).. لذا يُرجي العودة إليه لتوثيق مراجع هذا المقال.