خاص.. إعداد- سماح عادل
هل الحج طقس ديني إسلامي أم أن له جذور تاريخية، الدراسات تقول أن الشعوب القديمة عرفت الحج كطقس ديني، كما كان القربان أو تقديم الأضحية للإله عادة معروفة قديما.
القرابين..
بالنسبة للمصريين القدماء يقول الباحث الأثري “على أبود شيش” أنهم كانوا من أوائل شعوب العالم احتفالا بالأعياد، وكانت الأعياد في مصر القديمة كثيرة، وتصنف إلى “أعياد السماء” و”الأعياد الدنيوية” و”السياسية” والجنائزية وغيرها. وأن الاحتفال بالعيد لديهم اتخذ بعدا دينيا عميقا، وتضمن فكرة القربان أو “الأضحية”، ويرجع سبب فكرة القربان إلى الخوف من غضب الطبيعة. حيث أن الشعوب القديمة توصلت إلى حيلة للتقرب إلى الآلهة، عن طريق المنح والعطايا التي تتنوع ما بين المأكولات والمشروبات والزهور والحبوب والقمح والحيوانات لتأكيد الإيمان بقوة الآلهة وسلطتهم وتحاشيا لغضبها، وكانت القرابين تقدم وفق طقوس خاصة، وفي محافل مقدسة.
ويضيف أن قرابين قدماء المصريين كانت تقدم تحت إشراف كهنة المعابد، وتراوحت القرابين بين عطايا من أفضل اللحوم والطعام الفاخر، جلبا لرضا الآلهة، كما كان للخبز قيمة عظيمة، وتم تقديمه ضمن القرابين الجنائزية التي تقدم على الموائد أمام المقابر ويظهر ذلك في العديد من النقوش والرسوم التصويرية في المعابد والمقابر. وكان يتم أيضا ذبح الذبائح وتقديمها كقربان للإله ومن ثم توزيعها على الفقراء.
والجدير بالذكر، أن عادة المصريين القدماء عند تقديم القرابين للإلهة أن يوضع جرس حول رقبة العجل، ليعلم كل الناس أنه سوف يقدم قربانا للإله ويوسعون له الطريق، وأيضا لكي يعلم الفقراء أن هناك أضحية فيذهبون إلي المعبد لنيل قدر من اللحم.
وهناك مشهد لذبح أضحية نلاحظ فيه أن مساعد الجزار يمسك وعاء ويسكب منه الماء فوق الذبيحة، في نفس اللحظة التي يقوم فيها الجزار بعمله . حيث أن أهتم المصريون القدماء بالنظافة، تنظيف الذبيحة ومكان الذبح كان شيئا أساسيا في تجهيز الأضاحي في مصر القديمة.
الحج..
وبالنسبة للحج كطقس ديني يوضح الباحث الأثري في علم المصريات “سيف العراقي” أن المصريين القدماء كان لهم الأسبقية في ممارسة طقس الحج قبل الأديان السماوية، فكلمة “دين” في الأصل كلمة مصرية قديمة. وقد كانت مدينة “منديس” فوق أحد التلال الأثرية القديمة، والذي يُسمى حاليًا بـ”تل الربعط، مكانا مقدسا كانت تتم مراسم الحج لدى المصريين القدماء فيه. واتخذت “منديس” موقعًا ضمن حدود الإقليم السادس عشر من أقاليم مصر السفلي “الوجه البحري”، ويبلغ امتداد ذلك التل ما يقرب من 230 فدانًا، وكان يمتد حتى حدود آثار تل تمي الأمديد بمحافظة الدقهلية حاليًا.
ويوضح أن قصة “منديس” في النصوص المصرية القديمة، تعود إلى الاسم “جدت”، والتي كانت مقر حكم الأسرة الفرعونية الـ”29″، إذ كان كبش “منديس” المعبود الرئيسي للمدينة وكنتيجة مباشرة بارتباطه بالآلهة الكبار، أمثال “رع و أوزير” نال قدسية واسعة بين المصريين، بسبب الاعتقاد الذي كان سائدا في ذلك الوقت أن أرواح الآلهة الكبار تكمن في هيئة الكبش.
واكتسبت “منديس” أهمية خاصة مثل أهمية “أبيدوس أو العرابة المدفونة” في سوهاج كمقر أبدي للآلهة “أوزير”، لدرجة أن مدينة “منديس” صارت قبلة تحج إليها “مومياوات الموتى” قبل مواراتها مثواها الأخير إلى العالم الآخر. ولأول مرة تم ذكر اسم هذه المقاطعة في النصوص المصرية القديمة، ضمن سجلات الأسرة الرابعة “عصر بناة الأهرامات”، حيث توجد جبانة كاملة للكباش المقدسة، وبها توابيت جرانيتية ضخمة من “الجرانيت الأسود” لهذه الكباش، حيث تدفن فيها وما تزال هذه التوابيت باقية في التل حتى الآن.
الحج إلى أوزير..
والجدير بالذكر أيضا أن المصري القديم كان حريصا على تصوير مشاهد الحج على جدران مقابره، فكان يحج المصري القديم إلى قبر “أوزير” بمدينة “أبيدوس” المعروفة باسم “كعبة الحج عند المصري القديم” جنوب محافظة سوهاج، وتعرف مدينة “أبيدوس” بـ”عرابة أبيدوس” نسبة للعرابة المدفونة سابقا، وتتبع حاليا مركز البلينا بسوهاج، فكانت تتبع الإقليم الثامن في مصر العليا القديمة وعرفت باسم “أبيجو”. وأعطى المصري القديم قداسة لـ”أبيدوس” لوجود معبد “خنتي أمنتي” إله الغرب في “أبيدوس” المعروف بـ”عالم الموتى” و”إمام الغربيين”، في الطريق المؤدي إليها وإلى مقابر الملوك بها.
وقد ازدادت قدسيتها بداية من عصر الأسرات، حيث أتخذها المصريون مقرا لضريح المعبود “أوزير” بعد أن اعتبروا مقبرة الملك “جر” أحد ملوك الأسرة الأولى هي مقبرة المعبود “أوزير”، ووفقا لأسطورة إيزيس وأوزوريس الشهيرة أصبحت قبلة الحج في مصر القديمة، أما أسمها فقد تحور من “أب ــ جو” بالمصرية القديمة إلى “أبيدوس” باليونانية، وداخل الصالة الأولى التي تضم٢٤ عمودا على صفين معبدا وهذا المعبد هو الوحيد في مصر تقريبا الذي وجد كاملا، وصمم بشكل فريد على هيئة زاوية قائمة بخلاف الشكل التقليدي للمعبد المصري.
حرص المصري القديم منذ عصر الدولة الوسطى وحتى عصر الرعامسة على تصوير رحلتي الذهاب والإياب للحج ل”أبيدوس” على جدران المقابر في مدينتي “بني حسين وطيبة”، فوصل عدد المقابر التي صورت مشاهد الرحلة 35 مقبرة، كما عُثر على ما يقرب من 2000 لوحة تصور الرحلة، فضلًا عن موائد القرابين والتماثيل، وبعض الأدوات الجنائزية التي خلفها زوار المقبرة.
و هناك بعض الطقوس التي قام بها المصري القديم أثناء الإعداد لرحلة الذهاب للحج، تمثلت في تجهيز المراكب وتحميل جميع القرابين ومتطلباته واحتياجاته في الرحلة، بالإضافة لطقوس أخرى أقامها المصريون القدماء في معبد “خنتي أمنتي” المقر المقصود من رحلات الحج.
كانت فترة الحج إلى قبر “أوزير” في جنوب سوهاج تستمر ما بين يومين لـ6 أيام، وتبدأ الطقوس في الصباح بقراءة بعض التعاويذ والتراتيل مع كهنة المعبد، وتقديم القرابين أبرزها تماثيل صغيرة مصنوعة من الطين المختلط بالقمح والشعير، بالإضافة إلى تقديم التماثيل المدون عليها التعاويذ وبعض من أنواع الخبز، فضلًا عن ذبح بعض الحيوانات وتقديم الأسماك.
كما أن هناك طقوسا أخرى قام بها المصريون القدماء في مدينة “منف”، باعتبارها مدينة رئيسية في مصر القديمة، فكانت تقدم فيها الأضحيات والقرابين للمعبودات الموجودة بها، بالإضافة إلى الطواف حول حجر مقدس.
و معنى كلمة حج في اللغة المصرية القديمة النور أو الضياء وفقا لكتاب (د. بدوى وكيس- 171)، أما كلمة “حج از” أي “حجاز” فهي من “حج” المصرية و “آز” بمعنى توجه أو أرتحل وتوضع بجوارها علامة تفسيرية على شكل: ساقان تمشيان فيكون المعنى: توجه إلى أو سعى إلى الضياء وفق كتاب (نديم السيار.. المصريون القدماء أول الحنفاء 474). كما أورد “لويس عوض” في كتابه “مقدمة في فقه اللغة العربية” أن كلمة “كعبة” جاءت من كلمة مصرية قديمة وهي “كابا”، وانتقلت إلى العربية وتطورت إلى أن أصبحت “كعبة”.
المناسك..
يقول “مجدي شاكر” أثري بوزارة الآثار أن المصريين عرفوا الحج، وكانت لهم بعض المناسك المشابهة لتلك التي يمارسها المسلمون في الوقت الحالي، مدللا على ذلك برسومات بعض الجداريات المصرية القديمة. ويوضح أنه: “لم تنقطع فكرة الحج في عهد المسيحيين، ففكرة الطواف والملابس والتحلل كل ذلك مارسه المصري القديم رغم اختلاف المعتقد، حيث كان المصري دائم البحث عن سبب وجود العالم، وعرف أن هناك قوة عظمى هي التي تدفعه وظل يبحث عنها ويحاول التقرب لها بمختلف الطرق”.
ويضيف أن رحلة الحج كانت تتم لمنطقة العرابة المدفونة في محافظة سوهاج، وذلك لوجود معبد “خنتى أمنيتى” وأنه كانت أعز أمنية لكل مصري أن يدفن فيه، أو على الأقل يزور هذا المكان، ليتلقوا هدايا الآلهة من قرابين وبخور وليضمن لنفسه مكانا بين المتميزين من الموتى ويشارك في أعياد “أوزير”، ورغم أن غالبية الشعب المصري كانت ذات دخل لا يسمح بوجود فائض يكفى لنفقات الحج المرتفعة، لذا كان بعض الموظفين يستغلون فرصة تكليفهم بمهام رسمية بالقرب من أحد المراكز الدينية، ليقوموا بتحقيق تلك الأمنية العزيزة بزيارة المكان وترك لوحة أو نقش لدى المعبود لينول البركة، وعندما يعود يشيد لوحة يثبت بها ذلك ويضعها في مقبرته. مؤكدا أنه: “كان المصري يهتم بيوم الدفن مثل اهتمامه باختيار مكان القبر، ولا توجد مدة محددة تفصل بين الوفاة ويوم تشييع الجنازة، والذي كان يتأخر بسبب رحلة الحج لأبيدوس، حيث كان يوضع تابوته في وسط قارب مزين وبجواره نسوة من أقاربه يندبن ويولولن، ويقف كاهن ليقدم له القرابين ويحرق البخور أمام المومياء، وأمام ذلك قارب آخر به عدد من النساء يولولن في اتجاه الجثة وقارب آخر للرجال ورابع لزملائه وأقاربه”.
حيث أن موعد رحلة الحج كان اليوم 8 من الشهر الأول من فصل الفيضان، حيث كانت احتفالات “أوزير” تجرى في هذا الوقت، ويتواكب مع عيد “أوزير” الذي يستمر من الثامن من الشهر الأول للفيضان حتى يوم السادس والعشرون من نفس الشهر والليلة الكبيرة في يوم 22 من نفس الشهر. وبجانب الحج ل”أبيدوس”، كانت هناك زيارات ل”بوتو” و”سايس” و”هليوبوليس” وكلها مدن لها قدسيتها، وكانت لها مقاصير تشارك في عيد “أوزير”، وبعد العودة والانتهاء من رحلة الحج كانت المراكب تعود للشاطئ الغربي، وتبدأ رحلة تشييع الجنازة بوضع التابوت على زحافة يجرها أربعة ثيران، ليجرى لها طقس فتح الفم وصب الماء أمامها، ويتخلل ذلك ولولة الزوجة وهى تحتضن مومياء زوجها، وكانت أحيانا ترافق كل هذا الراقصات والمغنيات للموكب”.
ملابس الحج..
وكشف الباحث عن أنه بدراسة الملابس المستخدمة في الحج الإسلامي والمصري، فإن الملابس تعتبر جزء مهما من المناسك الإسلامية، وهي ذات اللون الأبيض وهي نفس الملابس المستخدمة في مناظر الحج المصري إلى منطقة أبيدوس، ومدون الكثير من هذه المناظر على جدران المقابر سواء الأفراد أو النبلاء، حيث اعتبرت مناظر رحلة الحج شيئا حرص المصري على تسجيلها على جدران مقبرته.. واللون الأبيض له الكثير من الدلالات من حيث الصفاء والتسامح والتقوى والورع والسمو والغفران من الذنوب، والأبيض في الهيروغليفية (حدج).
في الحج الإسلامي يقوم الحجاج بتغطية الكتف اليسرى وتحتوي على القلب، وبالفعل هناك مناظر الحج المصرية تظهر تغطية الحجاج الكتف اليسرى دون الكتف اليمنى، وربما لما يحمله اللون الأبيض من قيم عالية، وأن الجانب اﻷيسر من الجسد الذي يغطيه الحاج يحتوي على القلب، وأن الله في هذا اليوم يريد أن يغفر للحجيج جميعا، لذلك يريد أن يراها بيضاء مثل اللون اﻷبيض الذي يغطي القلب والذي يكون منبع الغل والحقد كما هو أيضا منبع من الخير والإحسان. لذلك يغطي كل الحجيج الكتف اليسرى لأن الله يريد أن يرى كل القلوب بيضاء وهو غافر لما بداخلها من الشرور، واعتبر الفراعنة أن القلب هو أهم ما يزين الإنسان ويجمله.
عيد “بو با سطة”..
في حين كشفت الدراسة التي أعدتها الباحثتان الدكتورة “خديجة فيصل مهدى” و”دعاء مهران” وصدرت عن مركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية أن معابد الأقصر والكرنك وأبيدوس كانت تشهد تجمعات ضخمة من المصريين القدماء تستمر عدة أسابيع وتتوقف فيه أنشطة البلاد. وكانت المعابد يتدفق عليها العرافون والحجاج فيما تشهد البلاد رواجا في حركة النقل بالسفن وفي التجارة، وإن عيد “بو با سطة” الذي كان يقام تكريما للإله “باستت” في شرق دلتا نهر النيل كان يجتذب 700 ألف حاج من الرجال والنساء، وكان يتعين على المؤمنين الذين يحجون إلى المدينة المقدسة التي يجري بين جنباتها العيد المقدس “الحج” أن يمارسوا شعائر منها: ذبح أضحية كان يفضل أن تكون من الثيران المسمنة، وتقدم كقرابين للإله صاحب الاحتفالية، أو صاحب المعبد الذي يحج إليه الناس وتردد أناشيد معينة تمجيداً لمعبودهم والطواف حول حجر أو مبنى مقدس.
https://www.youtube.com/watch?v=5JMzU6QbO1U