20 سبتمبر، 2024 3:52 م
Search
Close this search box.

“كوم شفيقة” قصة قصيرة

“كوم شفيقة” قصة قصيرة

 يكتبها: محمد فيض خالد

رُبَّما لم يخطر بباِل ” شفيقة ” المُعدمة أنَّها ستصبح بمرورِ الوقت أشهر سيدات القرية، أشهر من امرأة العمدة ابنة محضر المحكمة ” عبدالبديع أفندي العِتر” ،فالأيام حُبلى بالمفاجآت ، أمام غرفتها التي أكلتها الرطوبة ساحة كبيرة، يلقي الناس بكناستهم ،ولأنَّها فقيرة لازت بالصَّمتِ ، اكتفت أن ترعى عنزاتها بقايا ما يُلقى ،لم أعرف متى اتخذ أطفال القرية كوم ” شفيقة ” مكانا للعب ، وناديا يجتمعون إليه في ليالي سهرهم ،وساعاتهم الطوال التي تَسبق السَّحور، تعتمد رأسها بيدها كالصغار تنتظر مثلهم مرور ” أبو السعود المسحراتي ” ،كي يُدفئ جلد طبلته السَّميك ، تهم متطوعة تجمع القش من فوقِ الكوم في حماسٍ تشعله ، تُمرّر يدها في أُنسٍ فوق وجهها ،وهي تُحوقل وتُبسمل داعية الله أن يجعلها أيام خير وبركة ، وأن يقدر لابنها ” عبدالغني ” الإعفاء من العسكرية.

تَظل في انجذابٍ لقصصِ الصِّبيان إلى أن يتفرقوا في أعقابِ ضارب الطَّبل ، يُرددون خلفه أسماء أصحاب البيوت ، ” شفيقة ” مَهيضة الجناح ،بلا عزوة ولا عشيرة ، بيد أنَّها ترى في ناس القرية أهلها ،لم تَتأفف يوما وهي ترى الرُّكام يتزايد من أمامها ،تُشيّعه بعيٍن مُنكسرة ، قائلة وهي تَهشّ على عَنزاتها وتحجِّز على فراخ الدجاج المبعثر فوق الكوم :”فضاء الله متسع للجميع ” .

تَجرّأت يوما فأقامت جِدرانا من الّطينِ ، عرّشتها بحصيرٍ قديم ،وغرست إلى جوارها شجرة نبق، اتخذته مَوقدا وفُرنا للخَبيزِ ،ومن خَلفهِ غرفة كبيرة للتِّبنِ ومَربطا لبقرتها العَجفاء، مع الوقت تغافلت عن كلامها القديم ، يتَهلّل وجهها مع كُلِّ جدار تُقيمه حتى استولت على المكان ،لم يمهلها القدر، حين استيقظت ذاتَ صَباحٍ على جَلبٍة كبيرة ،رجالٌ غرب في سياراتٍ رسمية ، جَاءَ بهم العمدة ومن خَلفهِ الخَفر، فردوا على عَجلٍ أدوات المساحة ، خَطَّطوا المكان بالجير، وثبتوا فوق الجُدران علامات حَمراء ،امتدت بعد أيام شهية الفؤوس لتلتهم جدرانها ، حتى ساوتها بالأرضِ.

نبشوا التراب وزرعوا أعمدتهم الخرسانية التي ملأت المكان ،لازمت الصمت ، تَربَّعت أمام عتبها بوجٍه مُحتقن ، تَلعن أيام المدرسة والتعليم ، وتَسبّ العمدة ، انتهى العمل وبرز المبنى يَتلألأ في زَهوٍ تحت الشمس ، فاضت الفصول بصياحِ التلاميذ ،ورنين جرس نحاسي كبير لا يتوقف. رَجعتُ قريتنا بعد سَفرٍ طويل ، لم أجدها ، سألت من أجابني بأنَّها مَاتت منذ عامين ، وجدوها مُلقاة تحتَ جدارِ المدرسة ، تَعلّقت بالُمحالِ ، أن يتركوا لها الكوم ، ترعى عنزاتها وتهش دجاجاتها ، لكن خَابَ ظنَّها ومات معها الأمل.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة