12 فبراير، 2025 5:50 م

قصة الحضارة (5): الدولة وليدة الملكية الخاصة والحروب

قصة الحضارة (5): الدولة وليدة الملكية الخاصة والحروب

 

خاص: قراءة- سماح عادل

في الحلقة الخامسة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء. يتناول الكتاب الدولة، وكيف نشأت واستطاعت أن تجد الوسائل التي تؤكد من خلالها وجودها، في أذهان ونفوس المحكومين. كما يتناول القانون ومراحل تطوره وعلاقته بالتقاليد في التحكم في سلوكيات الناس.

الباب الثالث: العناصر السياسية في الحضارة..

يحكي الكتاب عن التنظيم السياسي للإنسان البدائي يقول: “ليس الإنسان حيوانا سياسيا عن رضى وطواعية، فالرجل من الناس لا يتحد مع زملائه مدفوعا برغبته بقدر ما يتحد معهم بحكم العادة والتقليد والظروف القاهرة؛ فهو لا يحب المجتمع بقدر ما يخشى العزلة، ولذلك تراه يتحد مع غيره من الناس لأن اعتزاله يعرضه للخطر، ولأن ثمة أشياء كثيرة يمكن أن يجود أداؤها بالتعاون أكثر مما يجود بالانفراد.

كانت القبيلة أول صورة للنظام الاجتماعي الدائم – ونقصد بالقبيلة جماعة من أسرات ترتبط بأواصر القربى، وتشغل بقعة من الأرض على سبيل الشيوع ولها طوطم مشترك وتحكمها حكومة بعينها وفق قوانين معينة؛ فإذا ما اتحدت عدة قبائل تحت رئيس واحد تكونت بذلك العشيرة؛ فالعشيرة هي الخطوة الثانية نحو تكوين الدولة؛ لكن التطور في هذه السبيل كان بطيئا إذ كان كثير من الجماعات بغير رؤساء  وجماعات أخرى كثيرة لن تقبل نظام الرئاسة- فيما نظن – إلا في وقت الحرب.

فالديمقراطية ليست من مزايا عصرنا التي يُزهى بها على العصور السوالف، لأنها تظهر على خير وجوهها في كثير من الجماعات البدائية حيث لا تكون الحكومة القائمة عليها سوى ما يشير به رؤساء الأسر في العشيرة – ولم يسمح قط بقيام السلطة جزافا. لكنها الحروب هي التي تخلق الرئيس وتخلق الملك وتخلق الدولة؛ كما أن هؤلاء جميعا هم الذين يعودون فيخلقون الحروب”.

الملكية الخاصة وصنع الحاكم..

وعن دور الملكية الخاصة في صنع الحاكم يوضح: ” فلما تطور نظام الحكم، وأصبحت الملكية هي الصورة المألوفة لدى أغلب القبائل، اشتقت الملكية وظائفها من وظائف هؤلاء، وجمعت تلك الوظائف كلها في يدها: وظائف المقاتل والشيخ الوالد والكاهن؛ وإنك لترى الجماعات تحكمها قوتان: تحكمها الكلمة في وقت السلم، ويحكمها السيف إبان الشدائد؛ وإذن فالقوة لا تستعمل إلا حيثما يفشل الإرشاد بالقول؛ وقد سار القانون والعقائد الأسطورية جنبا إلى جنب خلال العصور، يتعاونان معا على حكم البشر، أو يتعاقبان الواحد بعد الآخر، ولم تجرؤ دولة من الدول حتى يومنا هذا أن تفصل بينهما، ومن يدري لعلهما يعودان فيتحدان غدا”.

وعن الحرب التي كانت تدور بين البدائيين: “ومع ذلك فحياة البدائيين قد تخللتها حروب لا تنقطع؛ فالصائدون كانوا يقاتلون من أجل المصائد التي لم تزل عامرة بصيدها، كما كان الرعاة يقاتلون في سبيل المراعي الجديد من أجل قطعانهم، والزارعون يقاتلون ليستولوا على التربة العذراء؛ وكل هؤلاء وأولئك كانوا يقاتلون حينا بعد حين ليثأروا لقتل، أو لينشئوا ناشئتهم على الصلابة والنظام، أو ليجددوا الحياة الرتيبة المملولة، أو ليظفروا بغنيمة يسلبونها أو أسيرة يخطفونها، وقليلا ما حارب هؤلاء وأولئك من أجل الدين؛ نعم لقد كان بينهم أنظمة وعادات تحدد القتل، كما هي الحال بيننا – فعينوا ساعات بعينها أو أياما أو أسابيع أو أشهرا لا يجوز للهمجي الكريم النفس أن يقتل أحدا خلالها؛ وكذلك حددوا بعض القواعد لا يجوز عصيانها، وبعض الطرق لا ينبغي أن يعتدي عليها، وبعض الأسواق والمستشفيات لا ينشب فيها قتال.

لكن الحرب مع هذا كله كانت هي الأداة المختارة للانتخاب الطبيعي بين الأمم والجماعات البدائية. ولم يكن للنتائج المترتبة على الحروب نهاية تقف عندها فقد كانت عاملاُ لا يرحم في اقتلاع الشعوب الضعيفة والقضاء عليها، ورفعت مستوى الإنسان من حيث الشجاعة والعنف والقسوة والذكاء والمهارة؛ وحفزت الإنسان على الاختراع، وأدت إلى صنع آلات أصبحت فيما بعد أدوات نافعة، وإلى اصطناع فنون للحرب سرعان ما انقلبت فنونا للسلم؛ “فكم من السكك الحديدية اليوم تبدأ على أنها جزء من خطة القتال، ثم تنتهي وسيلة من وسائل التجارة! ” وفوق هذا كله عملت الحرب على انحلال الشيوعية والفوضى اللذين سادا الجماعات البدائية وأدخلت في الحياة نظاما وقانونا، وأدت إلى استرقاق الأسرى وإخضاع الطبقات وقيام الحكومات؛ فالدولة أمها الملكية وأبوها القتال”.

الدولة أمها الملكية وأبوها القتال..

وعن الدولة وظهورها في تاريخ الإنسان يقول: “الدولة مرحلة متأخرة في سلم التطور لم تكد تظهر قبل عهد التاريخ المدون، لأن قيام الدولة يقتضي تغيرا في مبدأ التنظيم الاجتماعي من أساسه فيكون المبدأ هو أن يكون الحكم لمن يسيطر بدل أن يكون لذوي القربى كما كانت القاعدة السائدة فيالمجتمعات البدائية، وإنما يكون نظام السيطرة في أنجح حالاته إذا ما ربط عدة جماعات طبيعية مختلفة، بعضها ببعض برباط يفيدها من نظام وتجارة؛ وحتى وهو في هذه الحالة تراه لا يدوم طويلا إلا في القليل النادر، اللهم إلا إن كان تقدم في الاختراع قد زاد من قوة القوى بأن وضع في يديه أدوات وأسلحة تمكنه من كبت الثورة إذا اشتعلت؛ وفي حالة السيطرة الدائمة ترى مبدأ التسلط يميل إلى إخفاء نفسه حتى لا يكاد يدس نفسه في ثنايا اللاشعور.

إن كل دولة تبدأ بالقهر لكن سرعان ما تصبح عادات الطاعة هي مضمون الضمير ثم سرعان ما يهتز كل مواطن بشعور الولاء للعلم.  والمواطن في ذلك على صواب، فمهما تكن بداية الدولة فسرعان ما تصبح دعامة لا غنى عنها للنظام، لأنه إذا ما ربطت التجارة طائفة من القبائل والعشائر، نشأت بين الناس علاقات لا تعتمد على القرابة بل تعتمد على ما بين الناس من اتصال، وإذن فلابد لمثل هذه العلاقة من أساس للتنظيم يصطنع لها اصطناعا”.

القرية كتنظيم..

وعن مجتمع القرية: “فالقرية هي التي حلت محل القبيلة والعشيرة وأصبحت هي صورة التنظيم الاجتماعي المحلي؛ فأقامت لنفسها حكومة بسيطة تكاد تكون ديمقراطية، حكومة قوامها مناطق صغيرة يجتمع عنها رؤساء الأسر؛ لكن مجرد وجود هذه الجماعات وكثرة عددها، استلزم تدخل قوة خارجية تنظم ما بينها من علاقات، وتنسجها جزء  من شبكة اقتصادية أوسع، والدولة هي التي سدت هذه الحاجة مهما يكن فيها مما يخيف ويفزع أول أمرها؛ أنها لم تَعُد قوة منظمة وكفى، بل أصبحت كذلك أداة توائم بين مصالح مئات الجماعات المتضاربة التي منها يتألف المجتمع في صورته المركبة.

ولما تم للدولة ذلك مَدَّت حبائلها من سلطان وقانون وأخذت توسع نطاقها شيئا فشيئا؛ وعلى الرغم من أنها صيَّرَت الحرب الخارجية أكثر تخريبا مما كانت قبل تكوينها، إلا أنها استطاعت أن توسع السلام الداخلي وتثبت أركانه؛ ولك أن تعرف الدولة بأنها سلام في الداخل استعدادا للحرب في الخارج؛ ولم يلبث الناس أن يتبينوا أن دفع الضرائب للدولة خير لهم من التقاتل بعضهم مع بعض، خير لهم أن يدفعوا الجزية للص واحد عظيم من أن يدفعوا الرشوة للجميع، وإذا أردت أن تعلم ماذا عسى أن يقع في مثل هذا المجتمع إذا خلا من الحاكم لفترة من الزمن”.

وسائل لتسهيل قبول الدولة..

وعن الوسائل التي لجأت إليها الدولة لتصبح مقبولة لدى الناس: ” على أن الدولة التي تعتمد على القوة وحدها سرعان ما يتقوض بناؤها، لأن الناس وإن يكونوا بطبعهم أغرارا، فهم كذلك لطبعهم ذوو عناد؛ والقوة مثل الضرائب تبلغ أكثر نجاح لها إذا ما كانت خفية غير مباشرة؛ ومن هنا لجأت الدولة – لكي تبقي على نفسها – إلى أدوات كثيرة تستخدمها وتصطنعها في بث تعاليمها – كالأسرة والكنيسة والمدرسة – حتى تبني في نفس المواطن عادة الولاء للوطن والفخر به؛ ولقد أغناها هذا التنشيء عن مئات من رجال الشرطة، وهيأ الرأي العام للتماسك في طاعة وانصياع، فمثل هذا التماسك لابد منه في حالة الحرب؛ وفوق هذا كله فإن الأقلية الحاكمة حاولت أن تحولّ سيادتها التي فرضتها على الناس فرضا بقوتها إلى مجموعة من القوانين من شأنها أن تُبَلور سلطانها من جهة، وإن تقدم للناس ما يرحبون به من أمن ونظام من جهة أخرى وهي تعترف بحقوق “الرعية” اعترافا تستميلها به إلى قبول القانون ومناصرة الدولة”.

القانون والتقاليد..

وعن القانون يقول الكتاب: ” فالجماعات الفطرية تتمتع بحرية نسبية من قيود القانون؛ أولاً لأنها محكومة بعادات هي في صرامتها وفي استحالة الخروج عليها كأي قانون، وثانياً لأن جرائم العنف في أول الأمر تعتبر مسائل خاصة يقضى فيها بالثأر الشخصي الذي تُسفح فيه الدماء.

إن التقاليد لتكوّن أساسا ثابتا مكينا تراه مستقرا تحت الظواهر الاجتماعية كلها؛ فهي بمثابة الصخرة الراسخة في أسفل البناء، وقوامها ألوان الفكر وضروب الفعل التي خلع عليها مر الزمان هالة من تقديس، وهي تُمِدُّ المجتمع بشيء من الثبات والنظام إذا ما انتفى القانون أو تغير أو اضطرب؛ فالتقاليد فيما تعطيه للجماعة من استقرار تشبه الوراثة والغرائز فيما تعطيانه من استقرار للنوع البشري، كما تشبه العادات بالقياس إلى الفرد الواحد؛ والتقاليد هي الاطراد المكرور الذي يحفظ للناس عقولهم في رءوسهم لأنه إذا لم تكن لدى الإنسان هذه القنوات التي ينزلق فيها التفكير والعمل انزلاقا لا شعوريا يسيرا،  لاضطر العقل أن يتردد إزاء كل شيء وسرعان ما يلوذ بالجنون مهربا؛ والغرائز والعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية كلها تتحدد وفق قانون اقتصادي يستغني بالقليل عن الكثير، لأن العمل الآلي هو أنسب طريقة يستجيب بها الإنسان للمثير الخارجي إذا تكرر، أو للموقف المعين إذا تجدد حدوثه؛ أما التفكير الأصيل والتشديد في السلوك فهو اضطراب في مجرى الاطراد، ولا يستطيعه الإنسان إلا في الحالات التي يريد فيها أن يغير من سلوكه المألوف بحيث يلائم الموقف الذي يحيط به، أو في الحالات التي يأمل فيها أن يكافأ على تشديده وتفكيره كسبا موفوراً.

فإذا أضيف إلى هذا الأساس الطبيعي وهو التقاليد، تأمين يأتيه من السماء عن طريق الدين، وأصبحت تقاليد آبائنا هي كذلك ما تريده لنا الآلهة من سلوك، عندئذ تصبح التقاليد أقوى من القانون، ويبعد الإنسان عن حريته البدائية بعدا جوهرياً”.

وعن الفرق بين القانون والتقاليد في التأثير على الناس: “إنك إذا جاوزت حدود القانون فقد كسبت إعجاب نصف الناس الذين يحسدون في أعماق نفوسهم كل من يستطيع أن يتغلب بذكائه على هذا العدو القديم؛ أما إذا جاوزت حدود التقاليد فأنت قمين أن تصطدم بمقت الجميع لأن التقاليد تنشأ من الناس أنفسهم، بينما يفرض عليهم القانون فرضا من أعلى؛ القانون عادة مرسوم قضى به السلطان، أما التقاليد فهي الانتخاب الطبيعي لألوان السلوك التي ثبتت صلاحيتها في خبرة المجتمع، والقانون يأخذ في حلوله محل التقاليد حين تحل الدولة محل الأسرة والقبيلة والعشيرة والمجتمع القروي، وكلها أنظمة طبيعية؛ ثم يتم حلول القانون محل التقاليد حين تظهر الكتابة، وتتدرج القوانين في انتقالها من تشريع يهبط إلى الخلف عن طريق ذاكرات الشيوخ والكهنة، إلى نظام تشريعي صريح مكتوب على ألواح، لكن حلول القانون محل التقاليد لم يكمل في يوم من الأيام؛ وستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة من وراء القانون حين يقرر الإنسان أي نوع من السلوك ينبغي أن يسلك، وحين يحكم على أنواع السلوك بالخير والشر؛ ستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة وراء العرش، “هي الحكم الأخير الذي يقضى في حياة الإنسان”.

تطور القانون..

وعن مراحل تطور القانون يقول: “وأول المراحل في تطور القانون أخذ الإنسان لنفسه بالثأر فيقول الرجل من البدائيين: “إن الثأر ثأري وسأرد عن نفسي ما لَحِقَ بي”، والخطوة الثانية نحو القانون والمدنية من حيث التصرف إزاء الجريمة هي الأخذ بالتعويض بدل الثأر، فكثيرا جداً ما استعمل الرئيس سلطته أو نفوذه لكي يحافظ على حسن العلاقات بين أفراد جماعته – ليحمل الأسرة الراغبة في الأخذ بالثأر على أن تستبدل بالدم المطلوب ذهباً أو متاعاً؛ ثم ما هو إلا أن نشأت “تَعْرِيفة” قانونية، تحدد كم من المال ينبغي أن يدفع ثمناً للعين وكم للسن وكم للذراع وكم للحياة.

ولما كانت هذه الغرامات أو التعويضات التي تدفع اجتناباً للثأر، تتطلب تقديراً للجريمة وللتعويض بحيث يتلاءمان، اتخذت خطوة ثالثة نحو القانون وهي قيام المحاكم، حيث كان الرؤساء أو الكهنة أو الشيوخ يجلسون مجلس القضاة ليقضوا فيما ينشب بين الناس من خلاف، ولم تكن هذه المحاكم

ورابع الخطوات التي خطاها القانون في تطوره، هي أن تعهد الرئيس أو تعهدت الدولة أن يحول دون الاعتداء وان يُنزل العقاب بالمعتدي؛ وليس بين فض النزاع وإنزال العقاب بالمعتدين وبين محاولة اتقاء وقوع النزاع إلا خطوة واحدة؛ بهذا لم يَعُد الرئيس قاضياً وكفى، بل أصبح إلى جانب ذلك مشرعاً يسنُّ القوانين، وأضيفت إلى مجموعة القوانين العامة الشائعة بين الناس، والتي استمدوها من تقاليدهم مجموعة أخرى من “القوانين الوضعية” التي مصدرها مراسيم الحكومة؛ ففي الحالة الأولى تصعد القوانين من أسفل، وفي الحالة الثانية تهبط على الناس من أعلى؛ وفي كلتا الحالين ترى القوانين مصطبغة بمسحة السلف الغابر، وتشم فيها رائحة الأخذ بالثأر الذي جاءت تلك القوانين بديلاً له؛ لقد كان العقاب في الجماعات البدائية قاسياً  لأن تلك الجماعات لم تكن آمنة على حياتها، ولذلك ترى صرامة العقاب تقل كلما ازداد النظام الاجتماعي استقراراً.

وتستطيع القول بصفة عامة أن “حقوق” الفرد في المجتمع الفطري أقل منها في حالة المدنية؛ فأينما وجَّهت النظر وجدت الإنسان يولد مكبلا بالأغلال: أغلال الوراثة والبيئة والتقاليد والقانون؛ والفرد في الجماعة البدائية يتحرك في شبكة من القوانين التي تبلغ بصرامتها وتفصيلاتها حداً يجاوز المعقول، فألف تحريم يحدد سلوكه وألف إرهاب يشل إرادته”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة