خاص: قراءة- سماح عادل
تناول الكتاب الفنون والعلوم في الدولة الفارسية، وبين عدم اهتمام الفرس بالعلوم وإن كانوا مارسوا الطب، كما لم تشغلهم الفنون وإنما استعاروها من الحضارات التي سبقتهم. لكن تجميعهم لتراث الحضارات السابقة في فن العمارة أعطاهم تميزا وجمالا. وذلك في الحلقة الرابعة والأربعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
العلوم والفنون..
تناول الكتاب العلوم والفنون التي مارسها الفارسيون: “يلوح أن الفرس قد تعلموا ألا يعلموا أبناءهم أي فن من الفنون عدا فن الحياة. فأما الأدب فقد كان في رأيهم ترفاً قل أن يحتاجوا إليه، وأما العلوم فقد كانت سلعاً يستطيعون أن يستوردوها من بابل. نعم إنهم كانوا يستسيغون بعض الاستساغة الشعر والروايات الخيالية، ولكنهم تركوا هذين الفنين للمستأجرين وذوي المنزلة الدنيا منهم، وآثروا متعة الحديث الفكه على لذة السكون والوحدة في البحث والقراءة.
وكان الشعر عندهم ُيغنى أكثر مما يقرأ، فلما مات المغنون مات الشعر معهم. وكان الطب في بادئ الأمر من أعمال الكهنة، وكانوا يمارسونه على أساس أن الشيطان خلق 99999 مرضاً يجب أن تعالج بمزيج من السحر ومراعاة قواعد الصحة العامة. وكانوا يعتمدون في علاج المرضى على الرقى أكثر من اعتمادهم على العقاقير، وحجتهم في هذا أن الرقى، إن لم تشف من المرض، لا تقتل المريض، وهو ما لا يستطاع قوله عن العقاقير”.
الطب..
وعن اهتمامهم بالطب: “إلا أن الطب مع ذلك قد نشأ بين غير رجال الدين حينما زادت ثروة الفرس زيادة مطردة، حتى إذا كان عهد أرت خشتر الثاني تكونت في البلاد نقابة للأطباء والجراحين وحدد القانون أجورهم- كما حددها قانون حمورابي- وفقاً لمنزلة المريض الاجتماعية.
وقد نص القانون على أن يعالج الكهنة من غير أجر، وكان يطلب إلى الطبيب الناشئ عند الفرس أن يبدأ حياته الطبية بعلاج الكفرة والأجانب، كما نفعل نحن هذه الأيام، إذ يقضي الطبيب المقيم سنة أو سنتين في المران على أجسام المهاجرين والفقراء. بذلك قضى ربُّ النور نفسه إذ قال:
“يا خالق الكون يا قدوس، إذا شاء عبد من عباد الله أن يمارس فن العلاج، فأي الناس يجب أن يجرب فيهم حذقه؟ أيجربه في عباد أهورا- مزدا أم في عبدة الشياطين؟. فأجاب أهورا- مزدا بقوله: يجب أن يجرب نفسه في عبدة الشياطين لا في عباد الله؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانياً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثاً من عبدة الشياطين فمات، كان غير صالح أبد الدهر؛ ويجب أن يمتنع عن علاج أي عبد من عباد الله. وإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين وشفى؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانيا من عبدة الشياطين وشفى؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثا من عبدة الشياطين وشفى، كان صالحا أبد الدهر؛ وكان له إذا أراد أن يعالج عباد الله، ويشفيهم من أمراضهم بالمبضع””.
الفن..
وعن الفن يضيف: “ولما كان الفرس قد وهبوا أنفسهم لإقامة صرح الإمبراطورية، فإن وقتهم لم يتسع لغير الحرب والقتال، ولذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية، شأنهم في هذا شأن الرومان سواء بسواء. نعم إنهم كانوا يتذوقون جمال الأشياء، ولكنهم كانوا يكلون إلى الفنانين الأجانب أو إلى من في بلادهم من الفنانين أبناء الأجانب صنع هذه الأشياء، ويحصلون من الولايات التابعة لهم على المال الذي يؤدون منه أجور أولئك الفنانين. وكانت لهم بيوت جميلة وحدائق غنّاء، تستحيل في بعض الأحيان بساتين للصيد ومسارح للحيوان؛ وكان لهم أثاث قّيم غالي الثمن: من نضد مصفحة برقائق الفضة والذهب أو مطعمة بها، وسرر فرشت عليها أغطية جاءوا بها من غير بلادهم، وطنافس لينة جمعت كل ألوان الأرض والسماء يفرشون بها أرض حجراتهم. وكانوا يشربون في كؤوس من الذهب، ويزينون نضدهم ورفوفهم بمزهريات من صنع الأجانب . وكانوا مولعين بالعزف والغناء وبأنغام الناي والقيثار والنقر على الطبول والدفوف.
وكانت الجواهر كثيرة لديهم من تيجان وأقراط، إلى خلاخيل وأحذية مذهبة. وحتى الرجال أنفسهم كانوا يتباهون بحليهم يزينون بها أعناقهم وآذانهم وأذرعهم. وكانوا يستوردون اللؤلؤ، والياقوت، والزمرد، واللازورد من خارج بلادهم؛ أما الفيروز فكانوا يستخرجونه من المناجم الفارسية، وكان هو المادة التي تصنع منها الطبقة الموسرة أختامها. وكانت لهم حليّ ذات أشكال رهيبة غريبة تمثل في ظنهم ملامح الشياطين المعروفة لديهم. وكان ملكهم يجلس على عرش من ذهب تغطيه أكنان ذهبية مرفوعة على قوائم من الذهب”.
العمارة..
ويواصل في العمارة: “ولم يكن للفرس طراز فني خاص إلا في العمارة. فقد شادوا في أيام قورش، ودارا الأول، وخشيارشاى الأول مقابر وقصوراً، كشف علماء الآثار القليل منها، وقد يستطيع المعول والمجرف، وهما المؤرخان اللذان لا ينقطعان عن البحث والتنقيب، أن يكشفا لنا في المستقبل القريب ما يعلي من تقديرنا للفن الفارسي. ولقد أبقى لنا الإسكندر بفضل ما أثر عنه من كريم الشيم قبر قورش في بازار جادة، فأصبح طريق القوافل في هذه الأيام يمر بالطوار العاري الذي كان يقوم عليه من قبل قصر قورش وقصر ابنه المخبول.
ولم يبق الآن من هذين القصرين غير عمد قليلة محطمة في مواضع متفرقة، أو كتف باب أو نافذة عليها نقوش تمثل ملامح قورش. وعلى مقربة من هذا الطوار في السهل المجاور له يشاهد القبر وقد عدا عليه الزمان في خلال القرون الأربعة والعشرين، التي مرت به؛ فهو الآن ضريح حجري بسيط، يوناني في شكله وتحرج صانعه، يرتفع إلى ما يقرب من خمس وثلاثين قدماً فوق قاعدة مدرجة. وما من شك في أن هذا الأثر كان أعلى مما هو الآن وأنه كانت له قاعدة تتناسب مع ضخامته. أما الآن فإنه يبدو عارياً عطلاً من الزينة مهجوراً، توحي صورته بالجمال الذي لا يكاد يبقى منه أثر فيه؛ وكل ما يبعثه في النفس هو الأسى والحزن، لأن الجماد أبقى على الزمان من سواه.
وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس يقوم قبر دارا الأول منحوتاً في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح هندوسي، وقد نقش مدخله ليمثل لمن يراه واجهة قصر لا قبر، وأقيمت عند هذا المدخل أربعة عمد دقيقة حول باب غير شامخ. ومن فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلاد الخاضعة للفرس تحمل منصة رسم عليها الملك كأنه يعبد أهورا- مزدا والقمر. والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها تسري فيهما روح البساطة والرقة الأرستقراطية.
والمباني الفارسية الأخرى التي نجت من الحروب والغارات والسرقات وفعل الأجواء مدى ألفين من الأعوام، هي خرائب القصور. فقد شاد ملوك الفرس الأولون في إكباتانا مسكناً لهم من خشب الأرز والسرو المصفح بالمعادن، كان لا يزال قائماً في أيام يوليبويس (حوالي 150 ق.م)، أما الآن فلم يبق له أثر.
أما أروع الآثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الأرض الكتوم يوماً بعد يوم فهي الدرج الحجرية والأرصفة والأعمدة التي كشفت في برسبوليس. ذلك أن دارا ومن جاء بعده من ملوك الفرس قد أقاموا لهم فيها قصوراً يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي تنسى فيه أسمائهم. ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي شيدت عليها القصور.
وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت توصل إلى الزجورات، أي أبراج أرض الجزيرة، وتلتف حولها، ولكنها كان لها مع ذلك خصائص لا يشاركها فيها غيرها من المباني. ذلك أنها كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من ركاب الخيل أن يصعدوها جنبا إلى جنب”.
الجهل- منار..
وعن نموذج رائع للعمارة الفارسية يذكر: “وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخلا بديعاً إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الأرض المجاورة له علواً يتراوح بين عشرين وخمسين قدماً، والذي يبلغ طوله خمسمائة وألف قدم، وعرضه ألفاً، والذي شيدت عليه القصور الملكية. وكان عند ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير نصبت على جانبيه تماثيل ثيران مجنحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلفه الفن الآشوري. وكانت في الجهة اليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر الفارسية على الإطلاق، ونعنى بها الجهل- منار أو الردهة العظمى التي شادها خشيارشاى الأول، والتي كانت هي وغرفات الانتظار المتصلة بها تشغل رقعة من الأرض تربى مساحتها على مائة ألف قدم مربع، فهي أوسع، إذا كان للسعة قيمة، من معبد الكرنك الفسيح ومن أية كنيسة أوربية عدا كنيسة ميلان.
وكانت هناك مجموعة أخرى من الدرج تؤدي إلى هذه الردهة الكبرى، وتحف بها من كلا الجانبين جدر لزينتها قليلة الارتفاع، وعلى جوانبها نقوش بارزة قليلاً هي أجمل ما كشف من النقوش الفارسية القليلة البروز إلى هذا اليوم. وما يزال ثلاثة عشر عموداً من الاثنين والسبعين التي كانت قائمة في قصر خشيارشاى باقية إلى اليوم بين خربات القصر، كأنها جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة. وتعد هذه الأعمدة المبتورة من الأعمال البشرية القريبة من الكمال، وهي أرفع من مثيلاتها في مصر القديمة أو اليونان، وتعلو في الجو علواً لا تصل إليه معظم الأعمدة الأخرى.
إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قدماً، وقد خطت في جذوعها ستة وأربعون محزاً، وتشبه قواعدها أجراساً تغطيها أوراق أشجار مقلوبة الوضع، ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الأزهار تكاد تشبه اللفائف “الأيونية”، يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقرنين يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف. ولسنا نشك في أن هذه العوارض كانت من الخشب، لأن أمثال هذه العمد المتباعدة السريعة العطب لا تقوى على تحمل الدعامات الحجرية الثقيلة. وكانت أكتاف الأبواب وكفافات النوافذ من حجارة سود مزخرفة براقة كالأبنوس.
أما الجدران فكانت من الآجر يغطيها القرميد المصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهاراً. وكانت العمد والفصوص والدرج من حجر الجير الجميل أو الرخام الأزرق الصلد. وقام من خلف الجهل- منار، أي من شرقيها “بهو العمد المائة” ولم يبق من هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام. ولعل هذين القصرين كانا أجمل ما شاده الإنسان في العالم القديم والحديث على السواء. وأقام أرت خشتر الأول والثاني في مدينة السوس قصرين لم يبق منهما إلا أساسهما. ذلك أنهما شُيّدا من الآجر المكسو بأجمل ما عرف من القرميد ذي الطلاء الزجاجي”.
نقش الرماة..
وعن نقش فارسي جميل: “وفي السوس عثر المنقبون على “نقش الرماة” وهم في أكبر الظن “المخلدون” الأمناء حراس الملك. ويبدو للناظر إلى هؤلاء الرماة ذوي الطلعة المهيبة أنهم قد زينوا لحضور حفلة في القصر وليسوا خارجين لقتال أو حرب. فجلابيبهم تخطف الأبصار بألوانها الزاهية، وشعورهم ولحاهم مجعدة تجعيداً عجيباً، وهم يمسكون بأيديهم في قوة وخيلاء رماحهم رمز مناصبهم الرسمية. ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم فنين مستقلين، بل كانا تابعين لفن العمارة، كذلك كانت الكثرة الغالبة من التماثيل من صنع فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلاد اليونان.
وفي وسع الإنسان أن يقول عن الفن الفارسي ما يستطيع أن يقوله عن الفنون كلها تقريباً، وهو أن عناصره كلها مستعارة من خارج البلاد. فقبر قورش استعير شكله الخارجي من ليديا، وعمده الحجرية الرفيعة منقولة عن مثيلاتها من العمد الآشورية مع شيء من التحسين، وبهو الأعمدة الضخمة والنقوش القليلة البروز تشهد بأنها قد أوحت بها أبهاء مصر ونقوشها، وتيجان الأعمدة التي على صورة الحيوان عدوى تسربت إليهم من نينوى وبابل. أما الذي جعل فن العمارة الفارسي فناً قائماً بذاته مختلفاً عن غيره من فنون العمارة فهو اجتماع هذه العناصر كلها والمواءمة بينها، وهو الذوق الأرستقراطي الذي رقق العمد المصرية المهولة وكتل أرض الجزيرة الثقيلة فأحالها بريقاً ورشاقة، وتناسباً وتناغماً، يطالعنا في برسبوليس.
وكان اليونان يستمعون إلى وصف هذه الأبهاء وقصورهم وهم أشد ما يكونون دهشة منها وإعجابا بها، لأن تجارهم المجدين العاملين وساساتهم المطلعين كانوا يحدثونهم عن فنون الفرس وترفهم بما يثير عواطفهم ويحفزهم على منافستهم. وسرعان ما استبدلوا برؤوس العمد المزدوجة وبالحيوانات ذوات الأعناق الجامدة المتصلبة القائمة فوق العمد الرشيقة، الفصوص الملساء التي نراها في تيجان العمد الأيونية؛ ثم قصروا سوقها، وزادوها قوة لكي تتحمل أي عارضة ترتكز عليها سواء أكانت من الخشب أو الحجر. والحق أنه لم يكن بين فني العمارة في برسبوليس وأثينا إلا خطوة واحدة، فقد كان عالم الشرق الأدنى على بكرة أبيه، وقد أوشك أن يستغرق في سبات عميق كأنه الموت إلا أنه موت لا يدوم إلا ألف عام، كان عالم الشرق يتأهب ليستودع اليونان تراثه القديم”.