خاص: قراءة- سماح عادل
يتناول الكتاب الشعوب التي كانت تقطن في منطقة الشرق الأدني، والتي عرفت وفق الباحثين باسم الساميين. وقد تحدث بالتفصيل عن الفنيقيين ودورهم في الاتصال الحضاري مع الشرق الأدني وأوربا، ونقل حروف الهجاء المصرية الى أوروبا. وذلك في الحلقة السابعة والثلاثين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الساميون..
انتقل الكتاب الى الحكي عن الشعوب التي تعرف وفقا للباحثين في التارخ باسم الساميين: “إذا حاولنا أن نقلل من اضطراب اللغات وتباينها في الشرق الأدنى بقولنا إن معظم الشعوب التي كانت تسكن في الأجزاء الشمالية من هذا الإقليم شعوب هندوربية وأن التي تقطن الأجزاء الوسطى والجنوبية منه والممتدة من أشور إلى جزيرة العرب شعوب سامية، إذا حاولنا هذا فإن من واجبنا في الوقت نفسه أن نذكر أن الحقائق ليست واضحة المعالم إلى هذا الحد، وأن الفوارق بين الأجناس ليست بهذه الصورة التي نرسمها للتفرقة بينها تيسيراً للبحث.
لسنا ننكر أن بلاد الشرق الأدنى تقسمها الجبال والصحاري إلى بيئات مختلفة منعزلة بعضها عن بعض بطبيعتها، وأنها لذلك تختلف في لغاتها وتقاليدها. ولكن التجارة قد عملت على مزج لغات هؤلاء الأقوام وعاداتهم وفنونهم في طرقها الرئيسية (كالطريق الممتد على شواطئ النهرين الكبيرين من نينوى وقرقميش إلى الخليج الفارسي). هذا إلى أن هجرة الشعوب ونقل جماعات كبيرة منها قسراً لأغراض استعمارية قد مزجا الأجناس واللغات المختلفة مزجاً كان من آثاره أن صحب اختلافها في الدم بعض التجانس في الثقافة. ومن ثم فإننا إذا سمينا بعض الشعوب هندوربية فإنما نقصد بهذه التسمية أن هذه هي الصفة الغالبة عليها؛ وإذا قلنا أن شعباً ما “سامياً” فإن كل ما نعنيه أن السامية غالبة فيه.
ولكن الحقيقة أنه لا توجد سلالة صافية ولم توجد قط ثقافة لم تتأثر بثقافة جيرانها أو ثقافة أعدائها. ومن واجبنا أن ننظر إلى هذه الرقعة الواسعة على أنها بيئة تدفقت على أجناسها المختلفة طوائف من هذا الجنس أو ذلك؛ فغلب عليها الجنس الهندوربي تارة وغلب عليها السامي تارة أخرى؛ ولكن غلبة هذا الجنس أو ذاك لم تثمر من الناحية الثقافية إلا اصطباغ هؤلاء الغالبين بالصفات الثقافية العامة في مجموع هذه الأجناس. فقد كان بين حمورابي ودارا الأول مثلاً اختلاف كبير في الدم والدين، وكان يفصل بينهما من القرون ما يكاد يفصل منها بيننا وبين المسيح؛ ولكننا إذا درسنا هذين العاهلين العظيمين دراسة دقيقة، أدركنا أن من وراء هذا الاختلاف قرابة جوهرية بعيدة القرار”
مهد الجنس السامي..
وعن نشأن الجنس السامي يذكر: “ومهد الجنس السامي ومرباه جزيرة العرب، فمن هذا الصقع الجدب حيث ينمو “الإنسان شديداً عنيفاً، وحيث لا يكاد ينمو نبات على الإطلاق”، تدفقت موجة في إثر موجة في هجرات متتابعة من خلائق أقوياء شديدي البأس لا يهابون الردى، بعد أن وجدوا أن الصحراء والواحات لا تكفيهم، فكان لابد لهم أن يفتتحوا بسواعدهم مكاناً خصباً ظليلاً يعولهم ويقوم بأودهم. فأما من بقي منهم في بلادهم فقد أوجدوا حضارة العرب والبدو، وأنشئوا الأسرة الأبوية وما تتطلبه من طاعة وصرامة خلقية، وتخلقوا بالجبرية وليدة البيئة الشاقة الضنينة، والشجاعة العمياء التي تدفع أصحابها إلى وأد بناتهم وتقديمهن قرباناً للآلهة.
على أن الدين لم يكن أمراً جدياً بين هؤلاء الأقوام حتى جاءهم محمد بالإسلام؛ ولم يعنوا بالفنون وملاذ الحياة لأنهم كانوا يرونها خليقة بالنساء ومن أسباب الضعف والانحلال. وظلوا وقتاً ما يسيطرون على التجارة مع الشرق الأقصى، تتكدس في ثغورهم غلات جزائر الهند، وتحمل قوافلهم تلك الغلات وتنقلها في الطرق البرية غير الآمنة إلى فينيقية وبابل. وشادوا في قلب جزيرتهم العريضة المدن والقصور والهياكل، ولكنهم لم يكونوا يشجعون الأجانب على المجيء إليها ورؤيتها. ولقد بقي هؤلاء الأقوام آلاف السنين يحيون حياتهم الخاصة بهم، محافظين على عاداتهم وأخلاقهم، متمسكين بآرائهم، وما يزالون إلى اليوم كما كانوا في أيام كيوبس وجوديا. ولقد شهدوا مئات الممالك تقوم وتفنى من حولهم، وما تزال أرضهم مِلكاً لهم يعضون عليها بالنواجذ، ويحمونها من أن تطأها الأقدام الدنسة أو تنظر إليها الأعين الغريبة”.
الفينيقيون..
ويكمل الكتاب عن الفنيقيين: “والآن يحق للقارئ أن يسأل من هم أولئك الفينيقيون الذين تردد ذكرهم في هذه الصحف، والذين مخرت سفنهم عباب البحار كلها فلم يكن يخلوا ثغر من تجارهم يساومون فيه ويبيعون ويشترون؟ إن المؤرخ ليستحي إذا سئل عن أصلهم فهو لا يرى بدا من الاعتراف بأنه لا يكاد يعرف شيئاً من التاريخ الباكر أو التاريخ المتأخر لهذا الشعب الذي نراه في كل مكان ولكنه يفلت منا إذا أردنا أن نمسك به لنخبره وندرسه. فلسنا نعرف من أين جاء الفينيقيون، أو متى جاءوا؛ ولسنا واثقين من أنهم ساميون.
أما تاريخ قدومهم إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط فليس في وسعنا أن نكذب ما قاله علماء صور لهيرودوت، وهو أن أجدادهم قدموا إلى بلدهم هذا من شواطئ الخليج الفارسي، وأنهم شادوا تلك المدينة في العهد الذي نسميه نحن القرن الثامن والعشرين قبل ميلاد المسيح. بل إن اسمهم نفسه لمن المشاكل العسيرة الحل. فقد يكون معنى لفظ الفوانكس الذي اشتق منه اليونان هذا الاسم هو الصبغة الحمراء التي كان يبيعها تجار صور، وقد يكون معناه النخلة التي تترعرع على الشواطئ الفينيقية. وكان ذلك الشاطئ، وهو شريط ضيق من الأرض يبلغ طوله مائة ميل ولا يزيد عرضه على عشرة أميال، محصوراً بين البحر من جهة وسوريا من الجهة الأخرى، وكان هو كل ما يطلق عليه اسم بلاد فينيقية.
ولم ير أهله أن استيطان جبال لبنان القائمة في شرق بلادهم أو إخضاع هذا الإقليم لحكمهم عملاً خليقاً باهتمامهم؛ بل كانوا يقنعون بأن يظل هذا الحاجز المبارك قائماً شرق بلادهم يحميهم من الأمم ذات النزعة الحربية التي كانوا يحملون بضائعها إلى خلجان البحار.
وقد اضطرتهم هذه الجبال إلى العيش على ظهر البحار، وظلوا من عهد الأسرة السادسة المصرية إلى ما بعدها أنشط تجار العالم القديم؛ ولما تحرروا من حكم مصر (حوالي 1200 ق.م) أضحوا سادة البحر الأبيض المتوسط، ولم يكتفوا بنقل التجارة، بل كانت لهم مصنوعات عدة من الزجاج والمعادن، والمزهريات المنقوشة المطلية، والأسلحة والحلي والجواهر. وقد احتكروا لأنفسهم صنع الصبغة الأرجوانية التي استخرجوا مادتها من حيوان بحري رخوي يكثر بالقرب من شواطئهم.
ومن ثم اشتهرت نساء صور باستخدام الألوان الزاهية الجميلة التي كن يصبغن بها ما برعن في تطريزه من الأقمشة. وكانوا ينقلون هذه المصنوعات والفائض الذي يمكن نقله من غلات الهند والشرق الأقصى من حبوب، وخمور، ومنسوجات، وحجارة كريمة إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط قريبة كانت منهم أو بعيدة عنهم.
وكانت سفنهم تعود من هذه الموانئ مثقلة بالرصاص، والذهب، والحديد من شواطئ البحر الأسود الجنوبية؛ وبالنحاس، وخشب السرو، والغلال من قبرص، وبالعاج من إفريقية؛ والفضة من أسبانيا؛ والقصدير من بريطانيا؛ وبالعبيد من كل مكان. وكانوا تجاراً دهاه؛ أغروا في مرة من المرات أهل أسبانيا بأن يعطوهم نظير شحنة من الزيت مقداراً من الفضة لم تتسع له سفائنهم؛ فما كان من الساميين الماكرين إلا أن استبدلوا الفضة بما كان في مراسي سفنهم من حديد وحجارة وأقلعوا بها مغتبطين. على أن هذا لم يكفهم، فأسروا الأهلين وسخروهم في العمل في المناجم ساعات طوال نظير أجور لا تكاد تكفي لابتياع أقواتهم”.
استعباد الناس..
ون دهاء الفنيقيين كتجار يحكي الكتاب: “ذلك أن الفينيقيين، ككل التجار الأقدمين، لم يكونوا يفرقون كثيراً في أعمالهم ولا في لغاتهم بين التجارة والغدر، أو بينها وبين اللصوصية، فكانوا يسرقون الضعيف، ويبتزون مال الغبي، أما من عدا هذين الصنفين فكانوا يراعون معهم ما يقضي به الشرف. وكانوا أحياناً يستولون على السفن في عرض البحار، ويصادرون ما فيها من بضاعة، ويأسرون من فيها من الملاحين؛ وكثيراً ما كانوا يخدعون الأهلين المشوقين إلى الاستطلاع فيغرونهم بزيارة سفنهم ثم يبحرون بهم ويبيعونهم عبيداً. وكان لهم أكبر الفضل في تشويه سمعة التجار الساميين الأقدمين وبخاصة عند اليونان الأولين، الذين كانوا يفعلون فعلهم.
وكانت سفائنهم المنخفضة الضيقة البالغ طولها نحو سبعين قدماً طرازاً جديداً في بناء السفن؛ ذلك بأنهم لم يحتذوا فيها حذو السفن المصرية المنحني مقدمها إلى الداخل، بل جعلوه ينحني إلى خارجها وينتهي بطرف رفيع يشق الريح أو الماء أو مراكب الأعداء. وكان للسفينة شراع واحد كبير مستطيل الشكل مرفوع على سارية مثبتة في قاعها، وكان هذا الشراع يساعد العبيد الذين كانوا يدفعونها بصفين من المجاديف. وكان الجند يقفون على سطح السفينة فوق المجاديف يحرسونها وهم متأهبون للاتجار أو للحرب على السواء”.
رأس الرجاء الصالح..
وعن اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح يذكر: “وكانت هذه السفن الضعيفة لا تسترشد ببيت الإبرة ولا يزيد غاطسها في الماء على خمسة أقدام. ومن أجل ذلك كانت تخشى أن تبتعد عن شاطئ البحر وظلت زماناً طويلاً لا تجرؤ على السفر بالليل؛ ثم ارتقى فن الملاحة شيئاً فشيئاً حتى استطاع أدلاء السفائن الفينيقيون أن يسترشدوا بالنجم القطبي (أو النجم الفينيقي كما كان يسميه اليونان) ويتوغلوا في المحيطات، ويطوفوا آخر الأمر حول إفريقية، فساروا أولا بإزاء الساحل الشرقي متجهين نحو الجنوب و”كشفوا” رأس الرجاء الصالح قبل أن يكشفه فاسكو دا جاما بنحو ألفي عام.
وفي ذلك يقول هيرودوت: “ولما أقبل الخريف، نزلوا إلى البر، وزرعوا الأرض، وانتظروا الحصاد، فلما أن حصدوا الحَب، أقلعوا بسفائنهم مرة أخرى. ولما أن مرت عليهم في عملهم هذا سنتان وصلوا في السنة الثالثة إلى مصر بعد أن طافوا بأعمدة هرقول (جبل طارق)”. ألا ما أعظم ما تقدّمنا عن أولئك الأقوام!
وأقاموا لهم حاميات في نقط منيعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط مازالت تكبر حتى أضحت مستعمرات أو مدناً غاصة بالسكان، أقاموها في قادز وقرطاجة، ومرسيلية، ومالطة، وصقلية، وسردانية، وقورسقة، بل وفي إنجلترا البعيدة. واحتلوا قبرص، وميلوس، ورودس، ونقلوا الفنون والعلوم من مصر، وكريت، والشرق الأدنى، ونشروها في اليونان، وفي إفريقية، وإيطاليا، وأسبانيا؛ وربطوا الشرق بالغرب بشبكة من الروابط التجارية والثقافية، وشرعوا ينتشلون أوربا من براثن الهمجية”.
المدن الفينيقية..
وياصل عن المدن الفينيقية: “وازدهرت المدن الفينيقية التي كانت تغذيها هذه التجارة الواسعة، والتي كانت تحكمها طبقة من التجار الأثرياء حذقت فنون السياسة الخارجية والمالية، وضنت بثروة البلاد أن تبدد في الحروب الخارجية. وأصبحت هذه المدن على مدى الأيام من أغنى مدن العالم وأقواها. ومن هذه المدن مدينة بيلوس التي كانت تظن نفسها أقدم مدن العالم كلها وأنها أنشأها الإله إل في بداية الزمان. وظلت هذه المدينة إلى آخر أيامها القصبة الدينية لفينيقية. وكان البردي من أهم سلعها التجارية فاشتق اليونان من اسمها اسم الكتاب في لغتهم ببلوس – Biblos – ومن هذه الكلمة نفسها اشتقت كلمة Bible الإنجليزية اسماً للكتاب المقدس.
وكان إلى جنوبي ببلوس وعلى بعد نحو خمسين ميلاً منها مدينة صيدا؛ ولم تكن في بداية أمرها إلا حصناً من الحصون، ولكنها نمت نمواً سريعاً فكانت قرية، ثم بلدة، ثم مدينة مزدهرة غنية، أمدت خشيار شاي بأحسن المراكب في أسطوله. ولما أن حاصرها الفرس فيما بعد واستولوا عليها أبت عليهم أنفتهم وعزة نفوسهم أن يسلموها طائعين إلى أعدائهم فأضرموا النار في مبانيها ودمروها عن آخرها، وهلك في حريقها أربعون ألفاً من سكانها.
ثم أعيد بناؤها بعدئذ حتى إذا جاءها الإسكندر وجدها مدينة مزدهرة، وسار بعض تجارها المغامرين في مؤخرة جيشه إلى بلاد الهند بقصد”الاتجار”.
وكانت أعظم المدن الفينيقية كلها مدينة صور، أي الصخرة، وقد أنشئت على جزيرة تبعد عدة أميال عن البر. وبدأت هي أيضاً حصناً، ولكن ميناءها الأمين وسلامتها من الغزو سرعان ما جعلاها حاضرة البلاد الفينيقية كلها، ومأوى الخليط من التجار والعبيد جاءوها من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. وما أن حل القرن التاسع قبل الميلاد حتى كانت صور مدينة غنية في عهد ملكها حيرام صديق الملك سليمان؛ وفي أيام زكريا (حوالي520 ق.م) كانت الفضة التي تجمعت فيها كأنها التراب، وكان الذهب كأنه “وحل الطرقات”، ويقول عنها استرابون: “إن بيوتها من طبقات كثيرة، بل إنها أكثر طبقات من بيوت رومة”، وقد ظلت بفضل ثروتها وبسالة أهلها مستقلة إلى أيام الإسكندر. ورأى هذا الشاب المتغطرس في هذا الاستقلال تحدياً لعظمته فأخضعها بأن بنى طريقاً لها في البحر جعل منها شبه جزيرة ثم قضى عليها القضاء الأخير”.
آلهة الفنيقيين..
وعن دين الفنيقيين يوضح الكتاب: “وكان للفينيقيين آلهة كثيرة شأنهم في ذلك شأن كل أمة تشعر بالتيارات العالمية المعقدة. فكان لكل مدينة بعلها (أي سيدها) أو إلهها الخاص، وهو في اعتقاد أهلها جد ملوكها، ومخصب أرضها؛ فكانت الحبوب، والخمور، والتين والكتان كلها من عمل بعل المقدس. وكان بعل صور يسمى ماكراث؛ وكان كهرقول- الذي قال اليونان أنه صورة أخرى منه- إله القوة والبطولة قام بأعمال شبيهة بأعمال منشهوزن. وكانت عشتورت (إستارتي) الاسم الفينيقي لإشتار- ومن خصائصها أنها كانت تُعبد في بعض الأماكن على أنها إلهة الطُّهر، وفي أماكن أخرى على أنها إلهة الفجور والحب الشهواني.
وقد جعلها اليونان في هذه الصفة الأخيرة صورة من إلهتهم أفروديت. وكما كانت إشتار – ميلتا تتقبل بكارى عابداتها من البنات في بابل، كذلك كانت النساء اللاتي يعبدن عشتورت في ببلوس يقدمن لها غدائرهن أو يستسلمن لأول غريب يعرض عليهن حبه في جوار الهياكل. وكما أحبت إشتار تموز، كذلك أحبت عشتورت أدني (أي الرب)؛ وكان يحتفل في ببلوس، وباثوس (في قبرص) كل عام بمقتله على أنياب خنزير بري بالنحيب وضرب الصدور. وكان من حسن حظ أدني أنه يقوم من بين الأموات كلما فارق الحياة، ويصعد إلى السماء على مشهد من عُبَّاده. وكان من آلهتهم أيضا مولوخ (أي الملك)، وهو الإله الرهيب، وكان الفينيقيون يتقربون له بأطفالهم ويحرقونهم أحياء أمام ضريحه. وقد حدث في قرطاجنة أثناء حصارها (307 ق.م) أن أُحرق على مذبح هذا الإله الغاضب مائتا غلام من أبناء أرقى أسرها”.
نقل الحروف الهجائية..
وعن دور الفيقيين في نقل ثقافة الشرق الأدني إلى أوروبا يقول: “ولكن الفينيقيين رغم هذا جديرون بـأن تكون لهم مشكاة صغيرة في محراب الأمم المتحضرة، ذلك أن تجارهم في أغلب الظن هم الذين علموا الأمم القديمة الحروف الهجائية المصرية، وإن لم يكن الهيام بالأدب هو الذي وحد شعوب البحر المتوسط بل كان سبب وحدتهم الشئون التجارية ومطالبها. ولسنا نجد خيراً من هذه المطالب مثالاً يوضح ما بين التجارة والثقافة من رابطة منتجة ومثمرة.
كما أننا لا نعلم علم اليقين أن الفينيقيين هم الذين أدخلوا هذه الحروف الهجائية إلى بلاد اليونان، وإن كانت الرواية اليونانية تؤكد هذا بالإجماع؛ وليس ببعيد أن تكون كريت هي التي أمدت الفينيقيين واليونان كليهما بالحروف الهجائية، ولكن المرجح أن الفينيقيين أخذوا الحروف الهجائية من حيث أخذوا البردي. وإنا لنجدهم في عام 1100 ق.م يستوردون البردي من مصر. وكان هذا النبات ذا فائدة لا تقدر للأمة التي تعنى بحفظ السجلات الحسابية ونقلها من مكان إلى مكان.
وذلك لما فيه من اليسر إذا وُوُزن بالألواح الطينية الثقيلة التي كانت تستخدم في أرض الجزيرة. كذلك كانت الحروف الهجائية المصرية أرقى كثيراً من المقاطع السمجة المستخدمة في غير مصر من بلاد الشرق الأدنى. وحسبنا أن نذكر عن هذه الحروف أن حيرام ملك صور وهب أحد آلهته في عام 960 ق.م كوباً من البرنز عليه نقش بالحروف الهجائية، وأن ميشا ملك مؤاب أراد في عام 480 ق.م أن يخلد مجده فنقش على حجر في متحف اللوفر الآن نقشا بإحدى اللهجات السامية مكتوب من اليمين إلى اليسار بحروف شبيهة بالحروف الفينيقية. وقد قلب اليونان اتجاه بعض الحروف لأنهم كانوا يكتبون من اليسار إلى اليمين، ولكن حروفهم في جوهرها هي الحروف التي علمهم إياها الفينيقيون، والتي علموها هم أوربا. وهذه الرموز العجيبة هي بلا جدال أثمن ما ورثته الحضارة عن الأمم القديمة.
على أن أقدم ما كشف من كتابات الحروف الهجائية لم يكشف في فينيقية بل في سيناء. فقد عثر “سيروليم فلندرز بيترى” في سراية الخادم- وهي قرية صغيرة في موضع كان المصريون الأقدمون يستخرجون منه الفيروز- على نقوش بلغة عجيبة يرجع عهدها إلى تاريخ غير معروف على وجه التحقيق، ولعله يرجع إلى عام 2500 ق.م ولم تحل رموز هذه النقوش بعد، ولكن من الجلي أنها ليست مكتوبة بالخط الهيروغليفي ولا بالكتابة المسمارية المقطعية، بل مكتوبة بحروف هجائية.
كذلك وجد علماء الآثار الفرنسيون في زابونا بسوريا مكتبة كاملة من الألواح الطينية بعضها مكتوب بالهيروغليفية وبعضها بحروف هجائية سامية. ولما كانت زابونا قد دمرت حوالي عام 1200 ق.م قبل أن تستكمل نموها، فأكبر الظن أن هذه الألواح يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهي توحي إلينا مرة أخرى بما كانت عليه الحضارة من القدم في القرون التي يحملنا فرط جهلنا على أن نعزو إليها بدايتها”.
سوريا..
وعن سوريا يضيف الكتاب: “وكانت سوريا تمتد خلف فينيقية في حِجْر تلال لبنان، وتتجمع فيها قبائلها تحت حكم تلك الحاضرة التي لا تزال تفخر على العالم بأنها أقدم مدنه، والتي لا تزال تأوي السوريين المتعطشين إلى الحرية. وظل ملوك دمشق زمناً ما يسيطرون على اثنتي عشرة أمة صغيرة من حولهم، وأفلحوا في مقاومة ما كان يبذله الآشوريون من جهود لإخضاع سوريا لحكمهم. وكان أهل هذه المدينة من التجار الساميين الذين استطاعوا أن يجمعوا ثروة طائلة من تجارة القوافل التي كانت تجتاز جبال سوريا وسهولها.
وكانوا يستخدمون في أعمالهم الصناع والعبيد، ولم يكن هؤلاء سعداء أو راضين. فنحن نسمع أن البنائين نظموا لهم اتحادات عظيمة، وتحدثنا النقوش عن إضراب الخبازين في مجنيزيا؛ ونشعر من خلال القرون الطوال بما كان في إحدى المدن السورية القديمة من نزاع، وما كانت تضطرب به من حركة تجارية كبيرة. وقد حذق هؤلاء الصناع تشكيل الفخار الجميل، ونحت العاج والخشب، وصقل الحجارة الكريمة، ونسج الأقمشة ذات الألوان الزاهية لتتزين بها نساؤهم.
وكانت أزياء الأهلين في دمشق وعاداتهم وأخلاقهم شديدة الشبه بنظائرها في بابل، باريس الشرق القديم المتحكمة في أذواقه، وكانت الدعارة الدينية منتشرة في البلاد، فكان خصب التربة يرمز له في سوريا كما كان يرمز له في بلاد آسية الغربية كلها بأم عظيمة أو إلهة اتصالها الجنسي بعشيقها هو الذي يوحي إلى جميع جهود الطبيعة وعملياتها الإنتاجية. ولم تكن التضحية بالبكارة في الهياكل عملاً يتقرب به إلى عشتورت وحسب، بل كان فوق ذلك مشاركة لها في التهتك الذي يرجى منه أن يوحي إلى الأرض إيحاء قوياً لا تستطيع مقاومته، وأن يضمن تكاثر النبات والحيوان والإنسان.
وكان عيد عشتورت السورية كعيد سيبيل في أفريجيا يحتفل به في هيرابوليس حوالي الاعتدال الربيعي بحرارة تكاد تبلغ حد الجنون. فكانت نغمات الناي ودق الطبول تمتزج بعويل النساء على أدني سيد عشتورت الميت. وكان الكهنة الخصيان يرقصون رقصاً عاصفاً عجاجاً ويضربون أجسامهم بالسكاكين. وفي آخر الأمر كانت الحماسة تغلب الكثيرين من الرجال الذين لم يأتوا إلى الحفل إلا ليشاهدوه، فيخلعون ثيابهم ويخصون أنفسهم ليهبوا أنفسهم طول حياتهم لخدمة الإلهة، فإذا جن الليل جاء الكهنة إلى المكان بنور خفي مجهول، وفتحوا قبر الإله الشاب ونادوا نداء الظافرين أن أدني – الإله – قد قام من بين الأموات، ثم مسوا شفاه عُبَّاده ببلسم في أيديهم وأسروا إليهم وعدهم بأنهم هم أيضا سيقومون من قبورهم في يوم من الأيام.
ولم يكن آلهة سوريا الآخرون أقل تعطشاً للدماء من عشتورت. نعم إن الكهنة كانوا يعترفون بإله عام يضم في شخصه جميع الآلهة ويسمونه إِليِ أو إِلو كإلوهيم اليهود، ولكن الشعب لم يكن يلقي بالاً إلى هذا التجريد المعنوي الهادئ، وكان معبوده بعلاً. وقد جرت عادتهم على أن يوحدوا بين إله المدينة هذا وبين الشمس، كما كانوا يوحدون بين عشتورت والقمر؛ وكانوا إذا حل بهم أمر جلل يضحون بأطفالهم قرباناً له، كما كان يفعل الفينيقيون؛ فكان الآباء يأتون إلى الحفل وقد أخذوا زينتهم كأنهم في يوم عيد، وكانت دقات الطبول وأصوات المزامير تغطي على صراخ أطفالهم وهم يحترقون في حجر الإله.
على أنهم كانوا عادة يكتفون بتضحيات أقل من هذه وحشية، فكان القساوسة يضربون أنفسهم حتى تلطخ المذبح دماؤهم؛ أو تفتدي حياة الطفل بغلفته؛ أو ينزل القساوسة من عليائهم فيقبلون مبلغاً من المال يقدمونه للإله بدل الغلفة. لقد كان من الواجب أن يسترضي الإله بطريقة ما حتى يرضى؛ لأن عباده قد جعلوه صورة من أنفسهم، وحلماً من أحلامهم، ولم يكن يعنى بحياة البشر أو يأبه بعويل النساء”.
القبائل السامية جنوب سوريا..
وعن القبائل السامية في سوريا يقول: “وكانت القبائل السامية الضاربة في جنوب سوريا والتي كانت تملأ الأرض باضطرابها ولغاتها، تمارس عادات شبيهة بهذه العادات نفسها، ولا تختلف عنها إلا في أسمائها وتفاصيلها. ولقد حرم على اليهود أن “يجعلوا أطفالهم يمرون من خلال النار”، ولكنهم كانوا رغم هذا يفعلون هذه الفعلة، ولم يكن إبراهيم وهو يوشك أن يضحي بإسحق أو أجمنون وهو يضحي بإفجينيا إلا متبعين سنة قديمة كان أصحابها يحاولون بها أن يسترضوا الآلهة بالدماء البشرية. وقد ضحى ميشا ملك مؤاب بابنه الأكبر فحرقه بالنار ليفك عن مدينته الحصار؛ ولما أجاب ربه دعاءه وقبل دماء ابنه، ذبح سبعة آلاف من بني إسرائيل شكراً لله على نعمته.
طقوس دموية ممتدة..
وعن استمرار التضحية بالبشر وخاصة الأطفال يقول: “وظل وادي نهر الأردن الذي يخترق هذا الإقليم مذ كان العموريون في عهد السومريين يجوبون سهول أمرو (حوالي عام 2800 ق.م) إلى أيام اليهود حين صبوا جام غضبهم المقدس على الكنعانيين، وحين استولى سرجون ملك أشور على السامرة، ونبوخد نصر على أورشليم (في عام 597 ق.م)، نقول ظل وادي نهر الأردن ترويه دماء الضحايا البشرية التي لها قلوب كثيرين من الأرباب. وليس من اليسير أن ندخل هؤلاء المؤابيين، والكنعانيين، والعموريين، والإدميين، والفلسطينيين، والآراميين في سجل البشرية الثقافي.
لسنا ننكر أن الآراميين الكثيري النسل قد انتشروا في كل مكان، وجعلوا لغتهم اللهجة العامية التي يتخاطب بها أهل الشرق الأدنى، كما أن حروفهم الهجائية التي أخذوها عن المصريين أو الفينيقيين قد حلت محل كتابة أرض الجزيرة المسمارية المقطعية، فكانت أولاً واسطة التبادل التجاري ثم أضحت وسيلة نقل الآداب، وأمست آخر الأمر لغة المسيح وحروف العرب الهجائية في هذه الأيام. ولكن الدهر لا يحتفظ بأسماء هذه الشعوب لما قامت به هي نفسها من الأعمال الجليلة بقدر ما يحتفظ بها لأن أصحابها مثلوا دوراً ما على مسرح فلسطين الفاجع”.