16 نوفمبر، 2024 3:27 ص
Search
Close this search box.

في رحيل الشاعر الأخير.. وضاح قره بللي

في رحيل الشاعر الأخير.. وضاح قره بللي

كتب: د. علي حافظ

وداعاً أيها الشاعر الأخير؛ أيها الكحولي العظيم…

ما إن تنهي آخر معاركك على رقعة الشطرنج، في مقهى كولومبيا، حتى تأتي إلى طاولتي، وقد سبقتك سيجارتك “الحمراء الطويلة”، وفنجان قهوتك الإكسبريس، وروحك المشبعة بالأقحوان، وابتسامتك الكريستالية، وقامتك التي تزداد انحناءً وسمواً…

تقترب فاتحاً يديك للعناق والربيع.. تحاول أن تواسيني بالمصائب والكوارث التي تندفع باتجاهي من كل حدب وصوب.. تنظر إليَّ فترى عذاب العالم مرتسماً على تضاريس وجهي الذي لم يعد منذ زمن وجهي.. تدرك أن جسدي المتعب.. المتعب جداً، لن يحتمل عناق امرأة عاشقة؛ فترسل كلماتك المعزية، حتى ولو كانت المناسبة تعزية لكَ.. تحاول أن تقتسم الفرح معي؛ لكن الناظر إلينا من الطرف الآخر يرى تعاستنا واقتراب لحظتنا المؤجلة…

آه من المرآة التي ترانا بين الحين والحين، فاضحة وجوهنا الفحمية المحترقة.. وجوهنا الذي شوهته تجاعيد الإحباط والإقصاء والحرب…

تشيخ أرواحنا ونتغير في منعرجات الألم، مبتعدين عن النور رويداً رويداً.. رياح الجنوب تعصف بوجوهنا، ورمال الصحراء الضاربة إلى الاصفرار تسير في عروقنا، محولةً خخطوتين. إلى موجات نانومترية لا تضبطها أية أجهوة طبية، تاركة جروحنا مفتوحة أمام مباضع الزمن – الطبيب، لتزيدها عمقاً وتأثيراً.. مصير مفجع واحد ينتظرنا خارج الفصول والمقاهي والأرصفة، أو على حدود دول الجوار أو في دول اللجوء والشتات…

ما أبشع أن تبيع نفسك المبدعة للاضطراب مقابل لقمة العيش؟! كم هو مؤلم أن يدفنوا موهبتك تحت التراب وتكف أنت عن البحث عنها؟! كيف يمكن أن تنمو في ضوء الثقافة اليخضورية الباهتة؟!!

أمنحك الحصة الأكبر من الكلام كي يتعانق ألمك الدفين مع ألمي، وتغوص بأفكارك التي تنم عن عبقرية لا حدود لها.. أفكر بمساعدتك، وبالطريقة التي تنقذقك من شبح الحياة والبشر.. أعجز عن إيجاد حل.. أتنهد وأشعر بتوقف قلبي المنهك.. تقرضني نبضاتك كي أنفقها في الوقت المستقطع لمعاركي الخاسرة!

نحن لا نهرب من ذاتنا كما كان يفعل باسكال؛ لكننا للأسف، لا نحصد ما نزرعه في وجود أناس يحصدون ما يزرعون وما لا يزرعون.. هم وصلوا، ونحن لم نبدأ بعد.. النتيجة واضحة: الجسم لا يستطيع أن يؤثر حيث لا وجود له؛ رغم أن توماس كارليل كان يشك في ذلك!

تبدو الريح أقوى من خفقان أجنحتنا، والتيار أقوى من ضربات زعانفنا؛ لذا سننحدر دائماً إلى القاع ونخسر باستمرار؛ وكأن إنجازاتنا الإبداعية خارجة عن قانون جاذبيتهم الوطنية، ومُعَارِضَةً للخط الأدبي العام الذي رسمه كتَّاب جاؤوا من أسواق الحطابين ليهبطوا على مطبوعاتنا، حاملين فؤوسهم وسواطيرهم ومناشيرهم وبنادقهم، قاصين كل الأشجار الخضر والأعشاب الواعدة، مغتالين كل الفراشات المضيئة ؛ لكن كتَّاب الأعمال الصغيرة والإمكانات المتواضعة لا يعرفون أنهم سينتهون مع انتهاء المشاريع الميليشياوية الطائفية الصغيرة!

تنتظر عاماً كاملاً حتى تنشر قصيدة كتبتها روحك الممزقة في ملحق ثقافي لجريدة محلية بائسة؛ أو يُنشر لك تباعاً إن كنت ضمن طوابير الأدباء والنقاد الجواقين…

نعيش مآسي شخصية لا حد لها، وتمزقات وحالات من القنوط واليأس.. أغلب الكتَّاب الكبار ساروا في الطرق المأساوية والمخيفة نفسها.. كانوا ينتزعون من الأبدية لحظة ليغرقوا بعدها في الظلام؛ ويبقوا هناك في حالة من الثبات والسكون حتى يولد فجر جديد؛ لأنهم كانوا أحراراً لا يؤمنون إلا بالأشياء العظيمة. أما الآخرون فكانوا يتمسكون بخط آمن مضمون وسهل، لذلك كانوا ينبحون علينا كالكلاب من وراء السياج ـ حسب الشاعر الكسندر بلوك!

هؤلاء طمروا فنون الماضي وآدابه وتاريخه وحضاراته المجيدة من أجل رموز الحاضر البائدة وسمومها المهلكة وأصولها الهجينة، مفجرين الجسور الروحية التي تربطنا بالإبداع الحقيقي.. وجوههم غليظة محتقنة بالدم تحمل نفس ملامح عطيل الجلفة والقاسية، لكن أرواحهم تشبه روح ياغو الشكاك والنمام، والذي لا يملك إرادته لأنه خادم الشيطان والسواد العظيم..

كم من الواشين والمفترين والتافهين والمزورين في هذا الوطن الجريح؛ الذين يقومون بواجبهم الدنيء لأتفه الأسباب، ولأجل الأدب يقومون بهذا (الواجب) أكثر مما ينبغي؟!!

محاصرون.. الطرق مسدودة؛ لكن مع ذلك لن يتحول اضطرابنا إلى قلق وجنون، بل إلى إبداع ساحر؛ لأنه كامن في أعماقنا التي لا تسمح لأحد بالوصول إليها، مثل البستاني الذي يقلب تربة الزيزفون ليتعلم كيف لها أن تنبت ذاك الأريج.. التربة واحدة والنبت مختلف!!

كل الإمكانات تتطور في الأديب الحقيقي من مصدر أولي واحد للألم، وإيمانه بقدرته تقوم في اللاوعي.. لذلك نحن لسنا رعاة، والناس ليسوا قطيعاً.. نحن مجرّد قلة من الكتَّاب مكتملي التطور شعرت بذل أوطانها وأممها ومذلة شعوبها؛ ملاحظة منذ زمن بعيد أن هذه البقعة من العالم تشبه الغروب؛ تشبه الأقبية؛ وحكامها من الوحوش والحشرات والزواحف والطحالب البرتقالية والصفراء والخضراء…

صديقي لن نرى بعد الآن تراكض الغيوم فوق الوادي المغطى بالغيوم والأشجار، لن نرى سفناً بآلاف الأشرعة وبحاراً عالية الأمواج.. الشاطئ بعيد علينا وعلى الذين يجدفون بنا، لكن قاربنا ما زال يحمل ارتواء أرواحنا بالمطر، ويتأرجح بنا حاملاً إيقاعاً هرمونياً من مشاعر الحس الكوني؛ فليس هناك فرق جوهري بين موسيقى القارب وموسيقى أجسادنا وكلماتنا!

سيأتي سمسم جديد كي يفتح أبواب الأقبية المختومة بأختام الحاكم ـ القاتل؛ ويرفع ستائر العهود الرمادية التي تراكم عليها غبار النسيان الأبدي.. زهورنا لن تذبل، وهي تنتقل من ترابنا النظيف إلى آلاف الأرواح الثلجية…

صديقي من يبحث عن الحقيقة طوال عمره يجب عليه ألا يقيس نموه العقلي والروحي مع الآخرين، لأن الانتقال من الضحك إلى البكاء لا يحتاج إلى معجزات.. جميلة بطلة قصة جنكيز أيتماتوف التي عشقت دانيار من خلال صوته القوي الجميل، ولم تلحظ عزلته وغرابته ورجله المصابة التي جعلته يعرج دائماً عليها؛ ولم تبد اهتماماً بعدم امتلاكه إلاَّ معطفاً قديماً وحذاءً مثقوباً كأحذيتنا!

مثلما تذوب الأصوات والحركات والأرواح في لحن عظيم، تحدثني عن أحلامك البيضاء، وعصفورك الأحمر، وتجاربك الكيميائية، وأبطال قصصك ورواياتك الشعبيين… أعجب لتصالحك مع الحياة والموت، وأتعجب أكثر من قدرتك المذهلة على النسيان!

أنتَ تعيش يومك أيها الكحولي العظيم.. يومك فقط؛ وهنا يكمن سر صمودك وقدرتك على الاستمرار بالعيش.. لقد فهمت فنون اللعبة وقوانينها التي رسمها فرعون منذ آلاف السنين.. كففت عن مطالبة نفسك بالعواطف المضاعفة والبطولة الزائدة، ولم تعد تتحسس أدق الخلجات، كأنك تختمر في قبوك ـ قبو المعلم بولغاكوف، مجمداً أفكارك وأحاسيسك وقراءاتك إلى اليوم الذي تأتي فيه مرغريتا؛ وتزهر فيه أملاح أوليسيس التي زرعها على شواطئ المتوسط الملحية…

صوتك وعيونك يدلان على نهوضك المتأخر من الفراش.. تعودت على رؤيتك بهذا الشكل، لأنني أعرف أن الشعراء هم “رسل النوم والموت” ـ حسب تعبير ألكسند بلوك ـ؛ لكن بعد النوم العميق تأتي الأفكار التي طهرتها الأحلام.. تأتي ندية، خلاقة، سامية، عظيمة.. تأتي كي تصبح جسداً من نور ونار…

دور المبدع ليس سهلاً، وليس فرحاً، بل مأساوياً.. هو قيمة ثابتة تولد من جديد في الأجيال التالية؛ بعد أن يعبر النقطة الميتة لعدة أجيال ترفض أن تفهمه وتعترف به.. مثلما تزور آلهة الشعر الشعراء، كذلك تحضر إليهم جميع الآلهة الأخرى، ليصنعوا معاً الطائرات الورقية للعشاق الذين يتعثرون في أول قبلة!

إن أدريان زوغرافي – بطل أحد مؤلفات الكاتب اليوناني الروماني بانيت أستراتي – تألم كثيراً، لأنه ظل طوال حياته يبحث عن صديق دون أن يجده!.. أنت أحد أصدقائي القلائل في مدينة حلب القاسية، بل قل الوحيد؛ وهذا يكفي لأنك تكره المصافحة تحت الطاولة وفي الغرف الواسعة؛ لأنك إنسان وفيٌ للكلمة والجمال والمرأة والأطفال والطيور والمطر والثلج والليل.. وعدو للمال ورأس الهرم وقوم تُبَّعْ…

حين أكون معك على طاولة واحدة أحس أننا على ظهر مجرة جديدة، وأنني أسمع كلاماً لا يشبه كلام أناس كوكبنا: حروف ذهبية وأمازونيات وروائح لمستخلصات عطر باتريك زوسكيند…

لا أعرف لم تذكرت المقصلة ـ كإبسن ـ عندما كنت تتحدث عن أفراد عائلة النجار الذين تقطعت أصابعهم جميعاً بالمناشير الحديدية؛ تضحية من أجل توريث المهنة لأجيالها القادمة؛ كما ورثوا لنا الديكتاتور العربي ـ الصاحب الحقيقي للقتل والإجرام… المقصلة هي هدية الثورة البرجوازية الفرنسية الوحيدة للشعوب الباقية في عالمنا العاشق للدم والمفتون بالشكل الجميل للموت؛ والبراميل المتفجرة هي هدية الأسد الوحيدة لشعبه!

في شوارع الليل المتأخر الخاوي من الأنفاس الصفراء نجثو على المحطة منتظرين عودة دوستويفسكي، كي نتبادل معه أطراف الطريق؛ ونسأله عن أبطاله – أبطالنا المذلولين والمهانين.. عن تجربة رسكولنيكوف الأولى بالقتل؛ والتي كانت من المفروض أن تعطيه – تعطينا أجوبة على عدد من الأسئلة: من نحن بالذات؟

أ نحن من فئة الناس الطبيعيين أم غير الطبيعيين؟ هل يمكننا أن نتخطى أفكارنا ونتجاوز المبدأ الأخلاقي؟ هل البشر قرود متكلمون؛ والأديب هو أكثرهم كلاماً وبؤساً وتشرداً؟ هل مات الإنسان فينا أم أنه يولد دائماً ولادة مشرطية؟!

نفترق حائرين: أنا إلى قريتي ـ مارع ـ الثائرة؛ وأنت إلى قبوك البارد الرطب المحاط برائحة دخانك الوطني، وزقزقة عصفورك الذي يقرأ أطياف أحلامك، فيوقظك عندما يدلهم الخطر.. نبكي منفردين ومجتمعين.. نوقف أحلامنا ونعلَّق أرواحنا على مسمار يعلوه صدأ الجدار؛ وننتظر أول عزرائيل لنقرأ له الشعر ـ كفيدور سولوغوب ـ ونحدثه عن أول فراشة عانقت ضوء المصابيح ورحلت باختيار.. باختيار دائم؛ ليتوقف عن أسئلته المملة، ويخرج منديله الدامي كي يغسله بدموعنا.. يشرب قهوته الصباحية؛ غارقاً بتفكيره وحزنه وقلة حيلته.. يأخذك؛ ويهديني بعض الوقت ويضع تحت وسادتي أوراقاً مصفرَّة، لتذكرني أنه لم يبق لي سوى القليل من الوقت حتى ينوس الضوء الأرجواني أمام عيني الثالثة وتبيَّض الرؤية، كما يبيَّض العرق بعد إضافة الماء إليه!

عقارب الساعة تطوي ألمي الذي نما فجأة داخلي كجنين لا يريد أن يخرج إلا بهزيمتي وسقوط روحي – آخر قلاعي الصامدة أمام حصار السكاكين والحراب الضاحكة بالدم..

روحي التي لا تنام تودع روحك التي لا تموت؛ بينما السماء تدلي لسانها ملتقطة النجوم تباعاً؛ وأنا في الهزيع الأخير أتنفس بملء رئتيَّ متذكراً البوط الكبير وهو يغطي ساحة سعد الله الجابري المكتظة بمئات القتلة والمؤيدين لهم؛ ووصيتك الشعرية التي أحتفظ بها:

»أشعلوهُ… أريحوا هذا الجلدَ من جربِ المعاركْ

لا سنتمتراً واحداً من حيّهِ إلا تسرطنَ بالبشر البعثيين؛

أشعلوهُ… أريحوا هذا الواقفَ من عشرين عاماً هكذا!«.

 

قصيدة عامل الدهان..

لوضاح قره بللي

 

المساء من جديد

رجالُ تلاشوا من أعينهم

بائع المذياع أوقف المحدثين

يعلن خبر الموتى بمواقف الأجرة

عاملُ الدهان على درجات السلالم

يفتح المسرح بفرشاة قرمزية

بخمس أصابعه يوقف الهواء

متوازياً مع سقوط سمكة منفرجة

عن ضفة الشارع

أربع ممرات للمشاة عند الطرف المحازي لابتسامته

وخرقة ألوانه المؤسفة

تقاطع شبه انتحاري بين لونين متعامدين

رمادي لامرأة جافة وأعمى يقطع النقرة

الصيدلية توزع بطاقات الربو

على البشر ذوي الحناجر الديمقراطية

يتكاثرون بالعرقلة؟!

لعله المدخن البعيد يحتفظ بشاطئين للكربون

معتزاً بكحته الكلاسيكية

وامرأة مذعورة على زهر القرنفل

تبدو كحمير الوحش بين خطوط معابر المشاة

تختفي خلف عدسات مبتكرة

أمرتُ لشريط ذهبي يفتح عن تمثال سوريا لي

يعكس شبح المدخن البعيد

يتذكر أنه مهمل من رُصف الرصيف

من وعي تلك الحمامة الرمادية بياقة بيضاء

تلم حبات السمسم من الكعك المملح

وتلتقط الخوف من أصابع القطط (الفوتوغرافيه)

يحي المارة المنزوعين من الطبيعة

يتذكر أنه مهمل على باب سينما أوبرا

تفتح بابيَها الخضراوين على فيلم الحريق

يمةت فيه البطل من الغرق

إنه موت مسرف بفرشاتين

على السادسة مساءً يغلق السلم

في السادسة صباحاً يفتح السلم

ثلاثون عاماً يفتح نفسه صاعداً في خطوتين

يغلق نفسه هابطاً في خطوتين.

وضاح قره بللي: شاعر وروائي وفنان تشكيلي من مواليد مدينة حلب ـ سورية.

يحمل شهادة الهندسة الزراعية.

نشر القليل من أعماله الإبداعية في عدد من وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية، وشارك في بعض الأمسيات الأدبية؛ لكن أغلب إنتاجه مازال مخطوطاً.

أقام عدة معارض فنية.

توفي نتيجة إصابته بمرض عضال عام 2015.

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة