كتب – عمر رياض :
“هذا زمن المراثى.
كل يوم يموت مبدع إمتلأ بحب البشر، أو تلاحقنا ذكرى مبدع مات مدافعاً عن حقهم في الحياة.
هذا زمن المراثى. والذاكرة لعنتنا وملاذنا. نلوذ فيها بصور أيام تهز القلب، بما إمتلأت به من العاطفة، والحياة، وحتى الموت، وننتظر أياماً تحرك النار تحت رماد أيامنا”.
المقدمة السابقة كانت من ورقة وجدتها صدفة بعنوان “ميجيل إرناندث.. مرثيتان”، كتبت عن رثاء أهم الشعراء الذين أثروا في حركة الشعر الإسبانية.
الورقة التي ترجمها المترجم المصري “أحمد حسان”، في 1987، تتحدث عن رثاء الشعراء على لسان الرجال وقت الحرب الأهلية، وفيها رثا “ارناندث” – الذي مات في سجون “فرانكوا” – الشعراء الملهمين من امثال “لوركا” و”نيرودا” وقال عنهم انهم “ريح الشعب”.
هذا الرثاء – الشعر البكائي الحزين – ما يسمى في الفلكلور المصري “العَديِد”.
ودائماً ما ارتبطت “العَدودة” في مصر بلسان النساء، خاصة في مدن وقرى الصعيد (جنوب مصر) والتجمعات الصحراوية حيث البساطة والإلهام الذي يميز هذا النوع من التعبير عن الحزن كما يميز صور أخرى من الفلكلور.
إلا ان “العَديِد” قد ذهب هو الآخر ليموت ويختفي بسبب التيارات المتشددة، دون أن يجد من يرثيه.
ورقة في أخر بحث لـ”شيماء الصباغ” عن العَديِد..
ساعة الخروج خرجوا.. خرجوا عزاز وملاح
ساعة الرجوع رجعوا.. رجعوا على الألواح
ساعة الخروج خرجوا.. خرجوا ملاح عجبة
ساعة الرجوع رجعوا.. رجعوا على الخشبة
هذه “العَدودة” كانت بداية لآخر بحث قامت به الشهيدة “شيماء الصباغ” (شهيدة الوردة)، البحث كان عن أشكال الفلكلور في ثورة 25 يناير، ونشرته وزارة الثقافة المصرية في ملخصات أبحاث عن الفلكلور والثورة.
كتبت “شيماء” أن “تلك العَدودة من تراثنا الشعبي أهديها إلى شهداء الثورة”.
ما يحرك الألم أيضاً ان الشهيدة التي كتبت الورقة نرثيها اليوم، وفي كل وقت، وهي نفسها التي اختارت الرثاء كتعبير أخير عن حال ثورتنا.
وعن أهمية هذه الحالة الخاصة من الفن في الفلكلور المصري، عرض البحث مفاهيم بسيطة عن منبع العَدودة المصرية.
حيث ذكرت أنه مع تعقد حياة المجتمعات البشرية الأولى، أخذت تتولد من الحياة الجماعية المشتركة فئات ظلت تنمو حتى أنتظمت في شكل طبقتين، طبقة سائدة (الثقافة الرسمية) وطبقة شعبية (الثقافة الشعبية أو المعارف العامة وفنونهم وآدابهم).
ثم أكدت على أن هذا الآخير هو ما يحوي منابع الإلهام وكنوز الفن والحكمة، وهو جدير بالإلتفات إليه.. خصوصاً إذا عرفنا أن مصطلح “فلكلور” يعني “حكمة الشعب”.
تناولت الكثير من الأبحاث صوراً مختلفة للفنون الشعبية المصرية، حيث يقول “غاستون ماسبيرو”: “يغني الشعب المصري في المنزل والحفلات الخاصة وفي الحقول وعلى النهر”.
جمع “غاستون ماسبيرو” وغيره من الباحثين، من الفلكلور المصري الأشعار والعادات والتقاليد، لكن ورقة “شيماء الصباغ” تختص في فلكلور ما هو أقل قدرة على البقاء، إنه تراث الحزن.. “العَديِد”.
وتؤكد أيضاً على أنه على عكس ما يعتقد المحبين لهذا النمط من الفلكلور، فهو غير قاصر على النساء فقط، ومثال على ذلك ما يسمى “عديد الشكوى من الزمان” على لسان الرجال ويقول الرجل فيه:
أبكي يا عيني واجرحي خدك.. كداب من كاده الزمان زيك
أبكي يا عيني واجرحي عينك.. كداب من كاده الزمان غيرك
أو ما يسمى “عَديِد السجن” ويقول:
دخلوني السجن وأنا المظلوم.. من نسمة الدنيا أنا المحروم
دخلوني السجن ظلموني.. من نسمة الدنيا حرموني
الوهابية وإندثار “العَديِد”..
لا يقتصر “العَديِد” على دين.. وهذا ما يجعل منه “شعر حر” يعبر بصدق دون تكلف.. إلا ان “العَدودة” مثل صور عدة في الثقافة المصرية تأثرت بإجتياح الثقافة الوهابية لدرجة اختفائها من مجتمعات بأكملها، مثل المجتمع السيناوى، خاصة بعد وفاة معظم الحفظة من السيدات الكبار، وبعد أن منعت التيارات المتشددة المرأة تحديداً من التعبير عن ذاتها، حتى ولو بشعر حزين، وحتى وصل الامر لكتم الصوت نهائياً بحجة أن “صوت المرأة عورة”.
وفي “سيوة” حكاية أخرى حكتها “شيماء” في محاضرة ألقتها عن الفلكلور المصري، الحكاية تدور حول أحد تلك الأبحاث التي كانت تشرف عليها بواحة سيوة وقابلت خلال تلك الفترة سيدة بدوية صدفة، كانت السيدة قد فقدت أبنها بسبب مرض استغله احد الدجالين في اخذ الأموال لسنوات بحجة علاجه قبل أن يموت الطفل.
وعندما مات الصغير قالت هذه “العَدودة”:
“والله لاجيب سلم وأطلعلك بيه لفوق.. كيف تاخده مني يا قليل الذوق”.
اما في “الصعيد” فكان “العَديِد” يقاوم “إندثاره” حتى وقت قريب، عند المسلمين والمسيحيين على حداً سواء.
هذا ما ذكره كتاب آخر، جمعه وسجل منه مقاطع بالفيديو، الشاعر “أحمد عبد الغني”، وعلى الرغم من أن الشاعر كان يعمل إمام لمسجد على حسب تعريف الورقة، إلا انه ركز على جمع تراث “العَدودة القبطية القنائية”، وهو اسم الكتاب نفسه.
ورصد خلاله أنماط ثقافية كوحدات تختص كل منها بفئة بذاتها، كعَدودات الكبار والصغار والمراتب الدينية أيضاً، ومنها:
كان لابس التاج والخواتـم خوص
عيل بيلعب وماسك كعاب البوص
وسط العيال بيجري
ومزوق الأعياد
والخويصه حزنت لما الولد ما عاد
وتقول أخرى في المتوفي الشاب أو الشابة:
فوق الكنيسة وزقزق القمري
ورحت فين يا حبيبي يا عمري
فوق الكنيسة ووقفت يا بو فصادي
ورحت فين يا عمري يا حصادي
فوق الكنيسه وزقزق الزرزور
ورحت فين يا حبيبي يا غندور
اما الفتـاة العذراء التي رحلت قبل الزواج، أو التي توفيت بين أهلها وهي مخطوبة وأيضاً المتزوجة لكنها لم تنجب، أو حتى الأخرى التي توفيت أثناء ولادتها، فتختلف “عَدودتها، وتقول احداها:
عدرا كانت قنديل منور فـ وسطينا
ومن غناها الحلوة بتطربنا وتحيينا
عنيها بحور تتوه مراكب تروح وما تجينا
“العَدودة” وصور الفلكلور الأخرى..
تخرج “العَدودة” فطرية من القلب لتسكن قلب آخر بحزن وقوة في وقت واحد.
في حديث مع المطربة “شيرين عبده” عن الفلكلور وبدايتها مع الموسيقى الشعبية قالت: “الشعبي أيقونة وهو ما يستحق فعلاً القدسية الحقيقية, ليست فقط موسيقى الأديان أو الموسيقى المرتبطة بطقوس العبادة، لانها ببساطة موجودة من نفس الزمن، ومازالت مرتبطة بالمجتمع، مثال منها هي (تهويدات الأطفال)، لماذا استمرت كل هذه السنين…
بغض النظر عن بساطتها في شئ ما خفي يجعلها مستمرة، وممكن لأنها مرتبطة بكل شئ حتى “السياسة والعديد وتنويم أو تهويد الأطفال” الطقوس اليومية المشتركة في وعي المجتمع تصل مباشرة إلى مركز الكون والقلب، واصلة دائماً لنا”.
اما النغمات فهي لا تنتهي.. مثال أغنية “بتغني لمين يا حمام”، تقال من زمن بلا ميديا ولا نشر، وحتى اليوم تعاد وتكرر وتقال من جديد.
تضيف المطربة شيرين قائلة: “أيمن حلمي” هو من لحن لي الغنوة وكانت بعد ثورة يناير بشهور قليلة، وضمن مشروع اغلبه مرتبط بالسياسة وكان الجو العام وقتها أشبه بفعل الزلزال على طبقات الأرض.
وكان جميلاً ان تأتي الناس لتناقشني في الكلام.. تقول الغنوة: “الحبل دايب والعدل غايب والناس ما هماش ناس يا حمام”.