خاص : قراءة – سماح عادل :
“علي الزيبق” أحد الأبطال الشعبيين الذين تحكي عنهم السيرة الشعبية والرواة حكايات شفاهية متداولة عن بطولاته وملاعيبه ودهائه، وانتقامه من قاتل أبيه، “المقدم الكلبي”، و”المقدمة دليلة”، ولقد شاعت سيرته في البلدان العربية منذ وقت طويل، ودونت هذه الحكايات الشعبية عنه مثلما دونت السيرة الهلالية والحكايات الشفاهية الشعبية الأخرى.. ودرس المتخصصون هذه السير ضمن الدراسات الخاصة بالثقافة الشعبية والفلكور.
وسوف نقرأ كتاب صدر حديثاً عن سيرة “علي الزيبق”، بعنوان: (سيرة علي الزيبق.. المخطوطة النادرة سنة 1880)، دراسة لـ”د. محمد سيد عبد التواب”، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الثقافة الشعبية 2016.
طبعة نادرة..
في المقدمة يقول الكاتب أنه كان يبحث عن طبعة مصرية لسيرة “علي الزيبق” المصري منذ 50 عاماً، في المكتبات ولكن بلا جدوى، وكان يعتمد في الدراسات التي قام بعملها لهذه السيرة على الملخصات الشامية واللبنانية التي كانت متاحة لها، وأنه بحث عن الطبعة المفقودة لأنه كان يعرف، من خلال الكتب التي تناولت سيرة “علي الزيبق”، بوجود نص مدون من هذه السيرة طبع في مصر عدة مرات، ويقول أنه قبل خمس سنوات عثر بالمصادفة على نسخة نادرة من سيرة “على الزيبق” المصري، والتي طبعت في مصر في طبعة شعبية على ورق أصفر بمطبعة “السيد حسن العناني” سنة 1880، وقد جاء على صفحة الغلاف الخارجي لهذه الطبعة النادرة ما يلي: “كتاب قصة المقدم علي الزيبق الذي تفرد بالشطارة والعياقة على جميع من تقدم وسبق تأليف الكامل الحافظ أحمد بن عبد الله المصري”، وتحت العنوان وضع في الطبعة رسم متخيل لـ”علي الزيبق”، تقع السيرة في 238 صفحة من القطع المتوسط.
ويؤكد الكاتب “د. محمد السيد عبد التواب” أنه لا يوجد منها سوى نسخة واحدة، تلك التي حصل عليها، وأنه برغم ركاكة الصياغة وكثرة الأخطاء النحوية والإملائية واللهجة العامية التي كتبت بها هذه الطبعة؛ إلا أن قيمتها الكبرى في ندرة هذه الطبعة، والتي يمكن اعتبارها النسخة الأصلية لسيرة “علي الزيبق” المصري.
تهميش السير الشعبية..
يتساءل الكاتب لماذا همشت سيرة “علي الزيبق” ؟.. ويجيب بأن الموقف الرسمي المشبع بالثقافة التقليدية، ومنها الثقافة الدينية، قد عرف بموقف واضح تجاه الآداب التخيلية السردية بشكل عام والقص بوجه خاص، وهذا الموقف الرسمي المتمثل في السلطة الدينية إرتكزت عليه نظرات الفقهاء والعلماء وأصحاب السلطة والسياسة، وأحيطت عملية القص الشفاهي من قصاص وقصص ومتلقين بالإستهجان كما وسمت بالتدني، ويرى أنه يمكن فهم الموقف الثقافي الرسمي في القرن التاسع عشر، على ضوء الموقف المتأصل في تراثنا القديم، مستشهداً بما قدمه المفكر “محمد عبده” في جريدة (الوقائع المصرية) سنة 1881، من صورة شاملة للكتب التي تتداول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتحذيره بقوة من “الأثر الفادح لكتب الأكاذيب الصرفة، وهي ما يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع، وتكون بعبارة سخيفة مخلة بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل عنتر العبسي والظاهر بيبرس”، ويرى الكاتب أن “محمد عبده” مارس، بوصفه ممثلاً للثقافة التقليدية الرسمية، دوراً إصلاحياً حين صنف هذه الكتب طبقاً لمنظوره كمصلح ديني، يوجهه المغزى الأخلاقي والقيمي للكتب، خاصة حين أثنى على قرار الحكومة المصرية في ذلك الوقت بمنع نشر كتب الفروسية العربية، وفي مقدمتها السير الشعبية التي صورت تخيلياً بطولات الفرسان كـ(عنترة بن شداد) و(أبي زيد الهلالي) و(علي الزيبق) وغيرهم، ويؤكد الكاتب أن موقف الثقافة الرسمية الرافض لهذه الكتب يكشف بدرجة كبيرة تزايد أهمية هذه المرويات الشعبية، حتى أنها كانت تطبع بالمئات حسب تعبير “محمد عبده” نفسه.
ويرى الكاتب أن هذه الشخصيات وصفت بشكل تهكمي إزدرائي؛ لكونها انخرطت في العمليات المناهضة للحكم، وتم تصويرهم كمتمردين اجتماعيين، لذا كان من المنطقي أن تهمش هذه الشخصيات من قبل السلطة الحاكمة فيما بعد حتى لا تظهر ثانية إلى الوجود، ويظن الكاتب أن هذا السبب وحده كفيلاً بحرق أو إخفاء الطبعات المصرية الكثيرة التي كانت موجودة في مصر في أواخر القرن الثامن عشر.
الحكايات الشعبية في تطور..
يبين الكاتب أن المرويات السردية والملاحم الشعبية كانت دائماً في تطور مستمر، وأنها لم تعرف الاستقرار النهائي بالمعنى الذي يمكن فيه التحدث عن نوع له خصائصه النهائية والثابتة، فنحن لا نعرف البذور الأولى مثلاً لسيرة “علي الزيبق”، ولا الإضافات التي لحقت بها ولا الأجزاء التي حذفت منها، وتلك المشكلة لن تحل إلا بعد دراسة معمقة تقارن بين النسخ وتكشف مسار التحولات السردية فيها، وهو أمر صار صعباً في ظل عدم توافر المتون، بالإضافة إلى أن الآداب الشعبية والخرافية تتعارض بشكل واضح مع فكرة التدوين الكتابي الذي يحول دون انفتاحها تأثراً وتأثيراً، وما وصل إلينا هو المدونات المتأخرة جداً التي كانت متداولة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
بطل من بغداد..
يوضح الكاتب أن “علي الزيبق” ينتمي إلى جماعات “العيارين” في بغداد خلال العصور الوسطى، حسب إشارات “المسعودي” و”ابن الأثير”، وهي جماعات ذات تكتلات اجتماعية لها تراتبيتها الخاصة وقواعد سلوكها ومساكنها الجماعية، التي احتفظت بسرية كاملة قدر الإمكان، فلقد شكلت هذه الجماعات نوعاً من الميليشيات الشعبية وكونت معارضة حقيقية ضد الحكام وطبقة الأثرياء، ومن ثم شاركوا في الحرب الأهلية التي نشبت بين الأخوين العباسيين “الأمين” و”المأمون” في أوائل القرن التاسع الميلادي، وفي النصف الأول من القرن الحادي عشر أصبح زعماؤهم، بشكل أو بآخر، أصحاب الأمر والنهي في بغداد، لدرجة أن “ابن الأثير” يشير إلى أن “علي الزيبق” قد تمكن من الاستيلاء على السلطة في بغداد وجباية أسواقها، فقد ذكر في حوادث سنة 444 هجرية: “وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة في بغداد وامتنع الضبط وانتشر العيارون وتسلطوا؛ أي تولوا السلطة وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق”، أبطال هذه السيرة إذاً شخصيات تاريخية لها وجود تاريخي حقيقي، فـ”الزيبق” قد تزعم فتنة “العيارين” ببغداد عام 444 هجرية، فقد ذكر “ابن إياس” في وقائع سنة 891 خبر مقتل “أحمد الدنف” يقول: “في شهر ذي القعدة سنة 891 هجرية رسم السلطان قايتباي أبو النصر، المعروف بالمحمودي الظاهري، بتوسيط من شخص من كبار المفسدين يقال له أحمد الدنف وله حكايات في فن السرقة يطول شرحها”، وهو ما أكده “ابن تغري بردي” أيضاً: “أعدم في مصر سفاح وبطل شعبي اسمه أحمد الدنف، وفي بداية القرن العشرين كان يقام له مولداً تكريماً لذكراه في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة”.
أدب الشطار..
يوضح الكاتب أن اللصوص من الصعاليك والشطار والعٌيار والفتيان والزعٌار والعياق والحرافيش وأصحاب المهن المحتقرة وأشباههم من المعدمين والفقراء والجياع والعاطلين عن العمل، الذين طحنهم الفقر بسبب سوء تدبير الحكام، والذين ضاقوا بغياب القانون وغيبوبة السلطان، هؤلاء جميعاً هم أبطال أدب الشطار العربي، وأبطال سيرة “علي الزيبق”، وقد جمع بينهم في صعيد واحد تاريخياً واجتماعياً وفنياً أمران: الأول الانتماء إلى دائرة اجتماعية منبوذة طبقياً واجتماعياً من الفئات الاجتماعية الأعلى، والثاني البطولة خارج القانون، ورغم ملاحقة الحكام لهم إلا أن العامة تعاطفوا معهم ووضعوهم في مرتبة الأبطال، لذا فقد خضعت سيرتهم، كما تخضع الرواية الشفوية، إلى المبالغة والتضخيم رغم واقعيتها تاريخياً.
العصر المملوكي الدموي..
يضيف الكاتب أن سيرة “علي الزيبق” هي آخر حلقة من حلقات السير الشعبية، والتي دارت أحداثها في العصر المملوكي، في حواري وأزقة القاهرة المملوكية، وهي تقدم صوراً حية من حياة الناس فيها، وظروف المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، عندما انهارت سلطة الدولة وارتفع إلى مركز السلطان فيها المغامرون.
رغم أن أحداث السيرة تشير إلى أواخر العصر المملوكي، الذي يعتبر من أحلك فترات التاريخ المصري، بما أشتهر عنه من قتل وانقلابات “طومان باي” و”الغوري”، فإن مؤلف السيرة المجهول اختار عصري “هارون الرشيد” و”أحمد بن طولون”، بوصفهما من عصور البطولة العربية، وفي الوقت الذي رأى فيه مؤرخو السلطة هؤلاء الشطار سفلة يقودون انتفاضات غوغائية، كانت رؤية الوجدان الشعبي شيئاً آخر فرأى في حركاتهم حركة ثورية شعبية وتحول فيها “علي الزيبق” إلى اللص الشريف.
ويؤكد الكاتب أن النص الشعبي المطبوع غير المحقق والقديم والنادر، وكل هذا ينطبق على السيرة التي وجدها وحققها في هذا الكتاب، تعد في حكم المخطوطة.
المخطوطة..
قدم الكاتب كتابه بمقدمة طويلة أوجزنا أهم أفكارها، ثم عرض بعدها المخطوطة بخط كبير كما كتبت، والمخطوطة مكتوبة باللغة العامية المصرية، لكنها عامية قديمة تمتلئ بمصطلحات لم تعد تستخدم في الوقت الحالي، يبدو أنها كانت تخص الوقت الذي دونت فيه وطبعت في أواخر القرن التاسع عشر، وهناك بعض الملاحظات على النص:
– لا يهتم النص بالتدقيق التاريخي، فهو يدخل شخصية “هارون الرشيد” كشخصية أساسية في الحكاية ووزيره “جعفر”، رغم أن عصر “هارون الرشيد” عصر أقدم بكثير من العصر المملوكي.
– أحداث الحكاية تجري ما بين القاهرة وبغداد، فقد ذكرت مصر عدة مرات كما ذكرت مدينة القاهرة والإسكندرية وبلاد الشام كمسرح للاحداث ومدن يذهب إليها الأبطال.
– كان لبلاد فارس دور محوري في الأحداث، حيث يأتي الناس منها إلى بلاد العرب أو يذهبون إليها، وهناك شخصيات فارسية كثيرة تواجدت بالنص، و”المقدمة دليلة” نفسها، والتي عينها “هارون الرشيد” مقدمة الدرك في بغداد سيتضح فيما بعد أنها فارسية مجوسية، وتعتبر بلاد فارس هي العدو الرئيس.
– المرأة لها دور رئيس وقدمت كبطلة شجاعة ومقدامة، سواء تنتمي إلى صفوف الأشرار والمخادعين “المقدمة دليلة”؛ أو في صفوف الطيبين وأهل “علي الزيبق” مثل أمه “فاطمة الفيومية”، فقد تخفت “دليلة” في زي الرجال لتنتقم ممن قتل أبيها ولتحصل على منصب مقدمة الدرك، وخادعت “هارون الرشيد” حتى حصلت منه على مكاسب، أما “فاطمة الفيومية” فقد تخفت في زي الرجال وقتلت أحد الأبطال، “محمد بن البنان” دون أن تقصد ذلك، فقد قصدت أن تظهر له مهارتها فقط وقد أورثها أمواله وأوصاها أن تتخفى في زيه حتى تبقى سيرته في مصر، وبالفعل أصبحت تتنقل في زيه وتحارب الرجال وهي من علمت ابنها “علي الزيبق” فنون القتال وافهمته أنها “محمد بن البنان”، وظلت تساعده في انتقامه من “المقدم الكلبي”.
– النص يرصد الواقع الدموي لعصر المماليك والتفكك الاجتماعي الذي كان موجوداً، وحوادث القتل الكثيرة والتي تتصف بالعنف والوحشية، وفي نهايته قتل “علي الزيبق” على يد زوجته “زينب بنت دليلة” بسبب غيرتها وقتلها ابنها “أحمد أسد الغابة” ابن “علي الزيبق”.
– النص يتناول التفاصيل الجنسية والحميمية بجرأة تفتقدها معظم نصوص الأدب الرسمي، كما يذكر ألفاظاً تعد سباباً في العامية المصرية بأريحية، مما يعطي انطباعاً لدى القارئ أنها كانت تروى شفاهاً بهذه الألفاظ التي تعد في الوقت الحالي خادشة للحياء.
– الكاتب لم يهتم بتقديم شرح للمخطوطة، وانما قدمها كما هي مع مقدمة موجزة، وكان الأولى به أن يقدم شروح للمخطوطة وللغة وللأحداث.