خاص : بقلم – سعيد العليمي :
يقول الشاعر الروسي “بوشكين”؛ وهو يستعيد ذكرى أصدقاءه الغائبين في واحدة من أجمل قصائده؛ (التاسع عشر من أكتوبر): آه، إن دائرتنا تتخلخل ساعة بعد ساعة، بعضنا يرقد في القبر، وبعضنا يُعاني اليتم بعيدًا، القدر يتأمل ونحن نذبل والأيام تركض، إننا نزداد انحناءً وتسرى البرودة فينا، ونقترب من بدايتنا من دون أن نشعر، من ذا الذي سيبقى منا، ليحتفل بذكرى رحلتنا وحيدًا في شيخوخته ؟ يالتعاسة ذلك الصديق فسوف يكون بين الأجيال الجديدة ضيفًا ثقيلاً زائدًا وغريبًا، وسيذكرنا ويذكر أيام لقاءنا مغطيًا عينيه بيد مرتجفة…). حين أتوقف هنا يقفز أمام عيني صديقي الأديب الراحل؛ “يحيى الطاهر عبدالله”، ويحاورني طيفه قائلاً لي: “يا أخي لقد غنينا دائمًا للفرح وبهجة الحياة ولميلاد عالم إنساني جديد” – تجرع كأسًا من شراب “الرتسينا” اليوناني أو زجاجة من الجعة التي كنا نحتسيها على ضفة نهر النيل كما اعتدنا أن نفعل معًا، وتنعم بعطايا “ديونيسوس”؛ رب اللذات والمتع والخمر، فقد عرفنا معًا كل خمّارات المدينة، وتذكر شعارك: “ثوريون في السياسة زورباويون في الحياة”؛ فأكمل بقية قصيدة “بوشكين”، حتى لا تكون ذكرانا لديك حزينة. فأضيف: (فليقض يومه آنذاك مع الكأس في فرح حتى وإن كان فرحه حزينا، ليقضه، كما فعلت أنا صديقكم الذابل، إذ قضيت يومي بلا حزن ولاهموم)
1 – أيام لم تكن معه – حقًا ؟
وقعت في يدى أخيرًا اليوميات التي دونتها المخرجة الكبيرة الراحلة؛ “عطيات الأبنودي”؛ (26 تشرين أول/أكتوبر 1939 – 05 تشرين أول/أكتوبر 2018)، بعنوان: (أيام لم تكن معه)؛ وصُدرت عن دار “الفرسان” للنشر عام 1999، عن الستة شهور التي كان فيها زوجها الشاعر الكبير؛ “عبدالرحمن الأبنودي”، معتقلاً سياسيًا من 09 تشرين أول/أكتوبر 1966 حتى 12 آذار/مارس 1967. وقد اتسمت يومياتها بما اتسمت به أفلامها من: “الواقعية الشاعرية”. لقد اتخذت هذه اليوميات شكل رسائل موجهة إلى زوجها، وقد حوت تفاصيل حياتها اليومية أثناء غيابه؛ وقد دونتها في حينها يومًا بيوم تقريبًا، ثم زودتها بمقدمة عند النشر، حكت فيها عن نفسها وأسرتها، وكيف تعرفت على “عبدالرحمن الأبنودي”، الذي كان في مقتبل حياته آنذاك.
لقد ظلت هذه المراسلات خفية لعدة عقود إلى أن قررت الكاتبة أن تخوض: (التجربة النفسية للعودة إلى هذه الأوراق القديمة، ربما لأني بعد أن بلغت هذا العمر أجدني قد وصلت إلى مواسم الغفران التي يصلها الإنسان مع نفسه بعد أن يشرف على سنواته الستين)، وهي تُقدمها كشهادة على أيام عاشتها ودونت تفاصيلها في وقتها كواحدة من جيل الستينيات الذي كانت له أحلام كبيرة قصمها إنكسار هزيمة حزيران/يونيو 1967.
ورغم عنوان اليوميات فقد كان حبيبها الذي وجهت له رسائلها/يومياتها حاضرًا في كل دقيقة، وفي كل تفصيلة من تفاصيل حياتها اليومية وكان هو محور الأحداث ومناط الرواية. وتُصدر الكاتبة رسائلها ببيان بما اسمته دوائر العلاقات؛ فتبدأ بقائمة بأسماء المعتقلين – من سبقوا إلى المعتقل ومن لحقوهم بالتتابع – وتورد أسماء الجيران: (ولا أستطيع أن أنسى ليلى ابنة جارتهم هدى حداد؛ ذات الجمال الأفروديتي الملائكي الخرافي) – فبيانًا بأصدقاء “الأبنودي و”يحيى الطاهر عبدالله”؛ (ويرد اسمي ضمن قائمة الأصدقاء)، فثبتا بأسماء المتعاطفين مع المعتقلين من أهالي، وفنانين، وكُتاب وصحافيين وإذاعيين ومسرحيين، والشخصيات الأجنبية، وقائمة بالمسؤولين الرسميين وغير الرسميين، وضباط المباحث العامة في “مكتب مكافحة الشيوعية”.
وهي تذكر كيف اعتقل “عبدالرحمن” ليلة أتى والده لزيارته لأول مرة بعد قطيعة، ورد الفعل بين الأهل والجيران والأصدقاء على الاعتقال، وتورد أشكال تضامنهم ونصائحهم وأنماط دعمهم، وتذكر عيون المدينة الأمنية لرصد تحركاتها وزوارها وتجنيد أقرب جيرانها إليها بإرهابهم بل وبعض أفراد أسرتها أيضًا، وتُبيّن الاتصالات التي قامت بها عبر أطراف مختلفة وبسُبل متعددة لإرسال رسائل وأطعمة وأدوية ودخانًا لـ”عبدالرحمن” ورفاقه، ولا تنسى محاولات المباحث الميكيافيلية لتجنيدها ومساومتها لمعرفة مكان هروب “يحيى الطاهر عبدالله”؛ الذي أفلت من القبضة البوليسية، وتعرض لعلاقتها ببعض رفاق الحلقة الثانية من “الحركة الشيوعية المصرية”؛ ممن كانوا يُتابعونها بالنُصّح والمشورة وأبرزهم: “طاهر عبدالحكيم” و”رؤوف نظمي”، وتحكي عن الصلات بجملة من الفنانين ممن تعاطفوا مع زوجها؛ مثل: “عبدالحليم حافظ”، وممن إرتعبوا من أي اتصال مثل: “محمد رشدي”… إلخ، ويتخلل كل هذا تفاصيل الحياة اليومية من عملها في الإذاعة والمسرح وزيارات الأهل ولقاء الأصدقاء والطعام والشراب ومشاهدة الأفلام وقبض نقود بعض الأعمال. وتُشير إلى المسؤولين الذين جرى الاتصال بهم ثم الاتصالات الخارجية بـ”منظمة العفو الدولية”، وبالمفكر الفرنسي؛ “جان بول سارتر”، للتدخل من أجل الإفراج عن المعتقلين. وصولاً إلى الكوابيس والأحلام الليلية المزعجة المتكررة التي تكتنفها الأقنعة الأمنية.
لقد كانت “عطيات الأبنودي”؛ كما يبدو، كاتبة رسائل غزيرة الإنتاج تعرف كيف تكشف عن واقعها الشعوري واللاشعوري بفصاحة. وحسبما عرفتها في الواقع – وقد كانت أول مثقفة ألتقي بها في حياتي حين أكملت بالكاد عامي الواحد والعشرين؛ ولم يكن قد مضى على زواجها من؛ “عبدالرحمن”، سوى بضعة شهور – أستطيع أن أقول أنها أتاحت لنفسها في هذه الرسائل أن تكون نفسها بلا إدعاء، وقد كانت إنسانة فاعلة، مستقلة، مليئة بالشجاعة والحيوية، ومحبة للحياة. ومن ناحية أسلوب كتابتها فهو يرتدي أحيانًا شكل المونولوج وأحيانًا شكل الحوار وهي تتبع نموذج اللغة الشفهية أكثر من المكتوبة مما يجعل القاريء يعايش الأحداث وكأنه داخلها مستغرقًا في حياتها اليومية. وقد تحررت في روايتها من الكوابح فأتخذت شكل عفوية منثالة عدا في بعض المواضع القليلة؛ (مثلاً حين أتاها يحيى الطاهر عبدالله في الثانية صباحًا وكان هاربًا، وجداله معها حول بعض تصريحاتها التي شاعت بشأن رفضها لهروبه، فرغم تأثرها مما قال لم تقل ماذا قال لها في هذا الحوار العاصف). ورغم أن “عطيات” كانت أقل إرتباطًا بالسياسة من “عبدالرحمن”؛ فقد جمعهما الحب والقضية المشتركة/وحدة العقل والروح. ولقد كانت محقة حين أرادت مساحة خاصة لهما متفردة. ولكن كانت مفاهيمنا وقتها تُعطي الأولوية للشأن العام على أي علاقة خاصة، فتدخل الأصدقاء في العلاقة وتحول بيتهما إلى “كوميونة” عامة لا خصوصية لهما فيها؛ وقد كانت “عطيات” صادقة ومُحقة فيما ذكرته عن طبيعة علاقتها بـ”يحيى” وتطلبها بعض الخصوصية. من جانبي ظلت علاقتي بها طيبة لأنني كنت الوحيد تقريبًا الذي لم يتدخل في علاقتهما؛ أي “الأبنودي” وهي – على حد قولها ليّ ذات يوم.
لن يكون مقالي عرضًا للكتاب وتفاصيله ولا تعليقًا على كل موضوعاته؛ وإنما تداعٍ على متن الكتاب، أو رواية موازية جزئية تُكملها من موقع ومنظور آخر في بعض الأمور، أو هي جزء ضئيل من سيرة جيل، أو “تناص”؛ كما قد يحلو للبعض أن يقول. فقد عاصرت هذه الفترة بكل تفاصيلها قبل حدث الاعتقال وأثناءه وبعده وعرفت معظم من لعبوا فيها دورًا أو آخر، بعضهم كان من أصدقائي وبعضهم كان من المعارف. ومعظمهم كانوا نجومًا في طريقهم للصعود في عالم الأدب والسياسة والفكر.
2 – “خليل كلفت” من أربعاء الرماد إلى “البيان الشيوعي”
تعرفت على الصديق النوبي الراحل؛ “خليل كلفت”، (26 تشرين ثان/نوفمبر 1942 – 09 تشرين ثان/نوفمبر 2015)، في صيف عام 1964، من خلال المخرج المسرحي؛ “زغلول الصيفي”، الذي كان يعمل مديرًا لـ”مسرح الجيب” ويُشرف على فريق التمثيل الذي كنت عضوًا فيه بـ”مركز شباب عابدين”. كانت ليّ اهتمامات أدبية وفنية؛ وخاصة الكتابة للمسرح، وميولاً للقراءة الفلسفية والتاريخية. وكانت الماركسية قد استهوتنص من خلال الكتابات المعادية لها عمومًا التي إنتشرت مع اعتقال الشيوعيين في أول كانون ثان/يناير 1959؛ وضمتها مكتبة أبي. ولم يكن من السهل الحصول على كتاب ماركسي واحد آنذاك. وكان لقائي بـ”خليل” نقطة تحول جذرية في حياتي العقلية؛ رغم أنه كان في هذه الفترة أديبًا عدميًا يُقرض الشعر: (يا أغنيات الملل الحزينة هذا نهار من زمان لا جديد فيه – هياكل هياكل هياكل – ولغ الكلب في إنائي ولا تراب – حيث الغيب بالنهار حمار في الليل)، وشاعره المفضل؛ “ت. إس. إليوت”، بأربعاء رماده، وأرضه الخراب. كان الشيوعيون على وشك الخروج وبعضهم كان قد خرج بالفعل، وهناك شباب محدودي العدد للغاية كانت له صلة ما ببعضهم – تعرفت في هذه الفترة من خلاله على الصحافي الشيوعي؛ “أمين رضوان”، الذي أفرج عنه مبكرًا، وقد وفر ليّ كتاب (المباديء الأساسية للفلسفة) لـ”جورج بوليتزر”؛ المفكر الماركسي الفرنسي الذي أعدمه النازي. وكُنا – “خليل” وأنا – نحضر ندوات أدبية في “النادي النوبي” و”رابطة أبناء الدقهلية”، ومعظم العروض المسرحية. وكانت صلتي به أحد المداخل للتعرف على بعض الشيوعيين النوبيين؛ (محمود شندي)، والقاهريين: (إبراهيم شعراوي وعزت عواد !؛ وقد دارت حولهما أقاويل فيما بعد). وكان من ضمن ما قمنا به زيارة المراكز الثقافية التشيكية والروسية وغيرها لمشاهدة الأفلام الطليعية. كما دعاني لزيارة قريته “بلانة ثان”؛ في “النوبة الجديدة”، فتعرفت على أسرته الكريمة الجميلة، واستمتعت بحفاوة النوبيين وتقاليدهم، وكدت أن أقع في غرام شقيقته الصغرى.
مرض “خليل”؛ في أوئل ربيع عام 1966 – وعلمت من أحد أصدقاءه، وهو الشاعر البتانوني الراحل؛ “نجيب شهاب الدين”، أنه يقيم في بيت “الأبنودي” الذي يقوم هو وزوجته برعايته – لا أعرف بالتفصيل ما دار خلال إقامته في بيت “الأبنودي” وبرفقة “يحيى الطاهر عبدالله”؛ غير أنه: “أمسى عدميًا وجوديًا وأصبح ماركسيًا”، وظل كذلك حتى وقت رحيله عن عالمنا. كان التغير مفاجئًا بالنسبة ليّ غير أنه أسعدني بالطبع. دعاني لزيارة بيت “الأبنودي” في “باب اللوق”؛ لأتعرف عليه وعلى “يحيى الطاهر عبدالله”، الذي روى ليّ شفويًا – إن لم تخني الذاكرة – قصة قصيرة بعنوان: (الثلاث ورقات) في أول لقاء.
أما مع “خليل” فقد قررنا دراسة الماركسية معًا، وكُنت قد حصلت على ترجمة “د. راشد البراوي”؛ لـ (رأس المال). وظللنا نقرأ في الفصل الأول أسبوعين كاملين دون أن نفهم شيئًا. فأكملنا الكتاب حتى نهايته، وقد بقي في عقولنا ظلال بعض أفكاره.
3 – “وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها جاها نهار ماقدرش يدفع مهرها”
بات بيت “الأبنودي” ملتقى لنا؛ ووقتها لم يكن من الممكن أن تُميز بين “يحيى” و”عبدالرحمن”، كانت علاقتهما فريدة في عمقها وإخلاصها. كانا قد إنفصلا عن منظمة شيوعية صغيرة؛ هي “وحدة الشيوعيين المصريين” لأسباب وجيهة، سيرد الحديث عنها فيما بعد. المهم أن بيت “الأبنودي” بات منتدى سياسيًا وأدبيًا تلتقي فيه، بـ”صلاح عيسى”، و”سيد حجاب”، و”محمد عبدالرسول”، و”غالب هلسا”، و”إبراهيم عبدالعاطي”، ومن الجيل الأقدم: “طاهر عبدالحكيم”، و”محمد عودة” وغيرهم الكثير فيما بعد.
بدأ “عبدالرحمن” و”يحيى” يُفكران في تكوين حلقة ماركسية تبدأ ككل الحلقات وقتها كحلقة دعائية تُعرض فيها الكتب الماركسية – وكانت دار “التقدم” الروسية قد افتتحت لها مكتبة “الشرق”؛ في شارع “طلعت حرب”، لبيع الدراسات والكتب الماركسية علنًا – ومثل التفكير في تكوين حلقة وقتها احتجاجًا من جيل الستينيات على قرار الحل الذي أصدرته المنظمات الشيوعية الثلاث الكبرى: “حدتو”، “الراية”، و”طليعة العمال” – ورفضته المنظمات الصغيرة؛ ومنها “وحدة الشيوعيين المصريين”، التي ناهضت مقولة وجود: “مجموعة اشتراكية في السلطة” من الديموقراطيين الثوريين، و”طريق النمو غير الرأسمالي”، “وضرورة وحدة كل القوى الاشتراكية” – ومثل بداية لما أسمي في جيلنا فيما بعد: “غواية التنظيم”. وتبنت مقولة أن هذا النمط من الاشتراكية هو: “اشتراكية رأس المال الكبير”؛ وهو عنوان وثيقة كتبها المفكر والناقد الأدبي الماركسي؛ “إبراهيم فتحي”، في “سجن القناطر الخيرية”؛ عام 1961.
كان “صلاح عيسى” هو الأبرز في تبلوره النظري والسياسي وقدرته على الكتابة وقتها؛ قياسًا بكل الآخرين عدا “غالب هلسا”. وقد استطاع أن يوظف مواقف وآراء “وحدة الشيوعيين المصريين” السياسية السرية؛ في مقالات، وإن كان ذلك بلغته الخاصة التي كان عليها أن تُراعي مقتضيات النشر العلني، حتى وإن جرى النشر في “بيروت”. مثلت مقالاته المعنونة: “الثورة بين المسير والمصير”، التي صُدرت في مجلة (الحرية) البيروتية الناطقة باسم القوميين العرب؛ في الأعداد: 328، 329، 330؛ في تموز/يوليو 1966، زادنا النظري والسياسي ولعبت دور “الكريدو”؛ (قانون الإيمان)، بالنسبة لحلقتنا التي كانت في طور التشكل.
كان “يحيى” و”الأبنودي”؛ هما أول من فاتحاني في الانضمام لهذه الحلقة، وكان يُفترض أن تضم “صلاح عيسى”، و”سيد حجاب” و”خليل كلفت” و”غالب هلسا” ( ! ) و”إبراهيم عبدالعاطي” ( ! )، وقد أدهشني وجود الأخير فيها؛ فقد كان شديد الاهتمام بالغرائب والأعاجيب، وأذكر أنه نشر قصة عنوانها: (دعد) في أحد أعداد مجلة (جاليرى 68)، كما كان مولعًا بالمركيز “دوساد”؛ ومؤلفه: (مئة يوم في سادوم).
جرى اجتماع الحلقة الأول في بيت “صلاح عيسى”؛ بشارع “بورسعيد”، في أيلول/سبتمبر 1966، ولم أحضره، فقد كنت خارج القاهرة آنذاك. وحين عدت علمت من “يحيى” أنه جرى تكليفي بإعداد عرض ومناقشة كتاب (الدولة والثورة)، ولم يتسن ليّ أن أعرضه أبدًا فقد داهمتنا الأحداث التالية.
4 – من لذة المطاردة إلى قص الأجنحة
مثلت “وحدة الشيوعيين المصريين” إنقسامًا على “حدتو”؛ عقب تأييد الأخيرة لإنقلاب تموز/يوليو 1952، وحسم الموقف بتأييدها لإعدام عاملي كفر الدوار: “خميس” و”البقري”، في أيلول/سبتمبر من نفس العام. وقد ضمت في بدايتها: “عبدالرحمن ناصر، ومحمد مستجير مصطفى، وإبراهيم فتحي، وعلي الشوباشي”، وفي مراحل تالية؛ الصحافي “إبراهيم عامر” و”بهجت النادي” و”عادل رفعت” و”أحمد فرج”، و”محمود ندا” والدكتور “عاطف أحمد” وآخرين. وقد تعرضت لضربة كانون ثان/يناير 1959، التي حصدت الكوادر الأساسية فيها، وتصدى لقيادتها الصف الثاني؛ وخاصة المترجم “أحمد العزبي”، والمهندس “غازي عزام”. وكان من ضمن أعضاءها: الأديب “سيد خميس”، الذي جند تقريبًا معظم الأدباء الشبان آنذاك: “الأبنودي والطاهر” وآخرين، وليس جميعهم. كما ضمت بعض خريجي “معهد الخدمة الاجتماعية”؛ مثل: “صلاح عيسى” و”محمد عبدالرسول”.
كانت “وحدة الشيوعيين” قد تكلست ووقفت عند الأدب الحزبي؛ الذي كُتب في أوائل الستينيات. ولم تُصدر تحليلات جديدة عقب 1961، غير أنها تبنت النقد الصيني للخط السياسي السوفياتي المؤيد لتوجهات سلطة تموز/يوليو (الاشتراكية). كما لم يكن لها دستور داخلي أي لائحة حزبية، وقد وضعت قضية الأمان، وتفادي مراقبة الشرطة في المرتبة الأولى مبتعدة عن أبسط أشكال العمل الجماهيري عقب ضربة كانون ثان/يناير 1959، ثم ضربة تالية كان من ضمنها؛ الدكتور “عاطف أحمد”، و”سعد ص. الفيشاوي”، و”سيد الزناري”، والناقد “غالي شكري”. وكانت هذه هي جملة الإنتقادات التي وجهها هؤلاء الأعضاء من الأدباء لها وأدت إلى تركهم صفوف هذه المنظمة. أو وفقًا لتعبيرات “صلاح عيسى”: “كنا نُمارس لذة المطاردة… ولم تمنحنا أكثر من الإحساس بأننا رفضنا ما يجري… وعجزت أو عجزنا نحن – أن نمدها للشعب الذي نحلم به ونفكر فيه”. أو: “… لم نتعلم منها سوى الخوف من المخبر الذي يمشي خلفنا وكيفية التخلص منه”؛ وفقًا لتعبير المناضل؛ “محمد عبدالرسول”.
تضافرعاملان وراء قرار إعتقال هذه المجموعة من الشباب بالتتابع؛ في النصف الأول من تشرين أول/أكتوبر 1966، الأول هو مجموعة المقالات التي نُشرت في مجلة (الحرية) الممثلة للقوميين العرب آنذاك؛ والتي استهلت نقدًا للنظام الناصري ساهم فيه “صلاح عيسى” بمقاله المطول: (الثورة بين المسير والمصير)، كما أشير عاليه، و”محمد كشلي”، و”محسن إبراهيم”، و”وضاح شرارة”، وجرى عرض كتابي “أنور عبدالملك”: (مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون)، و(مصر الناصرية)؛ لـ”حسن رياض”، (سمير أمين ). ورغم أن “صلاح عيسى” لم يكن وقتها قوميًا عربيًا فقد اعتبر لدى الجهات الأمنية كذلك. كان مجمل المقالات وعروض الكتب صادمًا للنظام الناصري؛ فقد أبدت جرأة غير مسبوقة، وجميعها تنتقد الأوضاع “الاشتراكية”؛ في “مصر” من منظور ماركسي بهذه الدرجة أو تلك. وأثارت المقالات ردود فعل إيجابية وسط الماركسيين الشباب المحدودين في “مصر”، لأنها انتقدت حركة تموز/يوليو من على يسارها، ووسمت إرهاصات التوجه الماركسي الذي سينحوه القوميون العرب فيما بعد. وأدى “تحالف” معظم الشيوعيين المصريين والسوفيات مع “عبدالناصر” إلى اعتبار كل نقد موجه للنظام؛ “صيني”، أو يساري متطرف. (وقد تعرفت في هذه الفترة؛ بصلاح عيسى، حيث التقيت به من خلال صديقي التاريخي؛ خليل كلفت، في نادى الاجتماعيين).
كان للقوميين العرب فرع قُطري في “مصر” يقوده المحامي؛ “سمير حمزة”، وقد حلوا الفرع وانضموا لـ”منظمة الشباب”، وعُين “سمير حمزة” نائبًا للدكتور “حسين بهاء الدين”، في رئاستها.
كان العامل الثانى في صدور قرار الاعتقال؛ هو رفض “منظمة وحدة الشيوعيين المصريين” لقرارات الحل التي أصدرتها المنظمات الشيوعية الأخرى؛ في غضون 1964 – 1965، واستمرارها في العمل التنظيمي. ويُشير الروائي الراحل؛ “جمال الغيطاني”، في إحدى الندوات التي عُقدت عن أدب السجون؛ أنه علم بعد خروجه من المعتقل، أن: “زميلاً سلم أسمائهم للمباحث العامة”، ويُشير “سيد حجاب”؛ في حوار له قبل رحيله، أنه: “انضم لوحدة الشيوعيين بعد تجنيده، وهو طالب بكلية الهندسة، من قِبل كامل داود – وهو ابن عم حسن طلعت داود؛ مدير المباحث العامة ومؤسسها، في آب/أغسطس 1952، وعراب إنشاء قوى الأمن المركزي بعد مظاهرات شباط/فبراير 1968″، وقد استغل احتياجه المالي لحثه على الوشاية برفاقه كما يؤكد “الابنودي” هذه الرواية؛ وكذلك الصحافي “محمد العزبي”.