10 يناير، 2025 12:14 ص

علم نفس (9) الثورة الصناعية والتطور الاجتماعي مهدا لتطور العلوم

علم نفس (9) الثورة الصناعية والتطور الاجتماعي مهدا لتطور العلوم

 

خاص: قراءة – سماح عادل

نواصل القراءة في كتاب (علم النفس في القرن العشرین.. الجزء الأول)  للكاتب “د. بدر الدين عامود”، والذي يعد مرجعا هاما في فهم مصطلح “علم النفس”.

الفكر السيكولوجي في عصور النهضة..

مع بزوغ فجر النهضة فـي البلـدان الأوربية ظهرت أفكار أكثر تحديداً وتركيـزاً فيمـا يتعلـق بقـضايا الطبيعـة والمجتمع عامة، وبموضوع النفس خاصة. ويجمع المؤرخون على أن أول مـن أولى موضوع النفس اهتماماً خاصاً هو الفيلسوف الفرنـسي “رينيـه ديكـارت”، اعتقد ديكارت أن سلوك الحيوانات والإنسان أشبه ما يكون بعمـل الآلـة. ولذا فهو ينطلق في تفسيره للسلوك من المبدأ الذي تفسر به الظواهر الفيزيائيـة، وهو مبدأ الانعكاس، والانعكاس عنده هو الاستجابة اللا إراديـة والآلية التي ترد بها العضوية على مثيرات العالم الخارجي بهدف التكيف معه. إن فهماً كهذا يقود إلى الحكـم بـأن تـصورات ديكـارت حـول الآليـة الفيزيولوجية للظاهرة النفسية لم تتجاوز تصورات ابن سينا قبل عـدة قـرون. فآلية الوظيفة النفسية (الحس، مثلاً،) عنـد ديكـارت تتمثـل فـي أن “الأشـياء الخارجية”، عندما تؤثر على أعضاء الحس، تحدث توتراً في مـا أسـماه بــ “الخيوط العصبية” التي تتصل بالمخ عبر “أنابيب” عصبية، الأمر الـذي يـؤدي إلى انفتاح صمامات تسمح بعبور تيار من الأجزاء الدقيقة “الأرواح الحيوانيـة” التي تستقر في تجاويف المخ، إلى الأعصاب ومنها إلى العضلات فتنتفخ هـذه الأخيرة وتحدث الاستجابة الحركية. لقد حاول ديكارت تطبيق مبـدأ الانعكـاس على جميع الوظائف النفسية. وتبين له، فيما بعد، عدم كفاية هذا المبـدأ لتفـسير الظواهر النفسية المعقدة كالتذكر والتفكير والإرادة والعاطفة. وهذا ما قاده إلـى القول بوجود “عقل عال” لدى الإنسان كمظهر من مظاهر نشاط الروح، متميـز تماماً عن البدن وما يصدر عنه من أفعال حسية وحركية.

وهكذا وجد ديكارت في الثنائية مخرجاً من المأزق الـذي أوصـله إليـه منهجه؛ فطرح موضوعة الروح مقابل الجسد، والعقل العالي نظيـر الظـواهر النفسية الانعكاسية.

كانت آراء ديكارت في السلوك الإنـساني والحيـواني الأساس الذي اجتهد المفكرون والفلاسفة لتطويره وتوسيعه، لصياغة أفكـار أكثر تحديداً من خلاله وفي هذا الشأن يمكن تمييز تيارين رئيـسيين؛ اتخـذ ممثلـو أولهما من الانعكاس منطلقاً لهم في تفسير كافة المظاهر الـسلوكية. بينمـا اعتمـد ممثلو التيار الثاني في دراستهم للإنسان على الفصل بين ما هو نفـسي أو روحـي، وما هو عضوي أو جسمي، وأسبقية الروح وثانوية الجسد.

وكان على الثنائية التي طبعت تعاليم ديكارت أن تنتظر الفيلـسوف الإنكليـزي “توماس هوبز” لكي يحلها ويتجاوزها. فقد وجد هـذا الفيلـسوف أن الظواهر الكونية، بما فيها مظاهر السلوك، تقـوم أساسـاً علـى الحركـة الآليـة.

فالموضوعات الخارجية تؤثر على أعضاء الحس، فتنتقل منها إلـى القلـب والمـخ بوساطة الأعصاب، حيث تحتفظ بحركتها هناك على شكل مشاعر وصور وأفكـار. وبذا يعد “هوبز” أول مفكر حذف مفهوم الروح واكتفى بدراسة دور الأفعـال الآليـة التي تصدر عن الجسم. وقد اعتبرت آراؤه حجر الزاوية في نشأة الارتباطيـة فـي القرن الثامن عشر ومن ثم تطورها عبر القرن التاسع عشر.

ولعلنا نجد موقفاً مماثلاً عند “باروخ سـبينوزا”. فالأفكـار والأحاسيس والمشاعر تخضع في حركتها وديناميتها، من وجهـة نظـره إلى نفس النظام الذي تخضع له الأشياء والحـوادث الطبيعيـة فـي تشكلها وتطورها. ويشير سبينوزا إلى أن الظواهر النفسية، مثلها مثل الظـواهر المادية، تنشأ وتتطور بفعل جملة من الأسباب والعوامل الموضوعية.

والنتيجة التي يخلص إليها هذا الفيلسوف هي أن دراسة هـذه الظـاهرة أو تلك تقتضي النظر إليها كمعلول يتوجب على الباحث معرفة العلّـة والإحاطـة بكافة عناصرها. ويمكن اعتبار هذه النتيجة إسهاماً من جانب سبينوزا في وضع مبدأ هام من مبادئ علم النفس، وهو مبدأ الحتمية.

ونذكر أفكار الفيلسوف الألمـاني “غوتفريـد ويلهلـم ليبنتز” إذ كشف هذا المفكر عن مفهوم اللا شعور، وميز فـي الحياة النفسية بين الظواهر اللاشعورية التي تنشأ على مـستوى الإدراك مـن جهة، وبين الشعور أو الوعي الذي يتجلى في الانتباه والتذكر من جهة ثانية.

كان ليبنتز من أبرز ممثلي النزعة المثالية في عصره. فالعـالم عنـده يقوم في جوهره على مجموعة من الأرواح أو كما يسميها “المونادات”. والموناد هو الجوهر الذي لا يتجزأ. ولدى تعميم هذا المبدأ على الكائن الحي، فإن الروح هي التي تؤلف جوهر كينونته وتعتبر العلة الأولى لكافة أنواع حركته.

إن أفكار ليبنتز بوجه العموم هي نموذج للاتجاه العقلاني الذي صبغ الفكر الأوروبي في القرن السابع عشر بصبغته الخاصة. ويرى أصحاب هذا الاتجـاه أن المعرفة الخالصة هي نتاج العقل وحده.

تطور الحياة الاجتماعية..

بيد أن تطـور الحيـاة الاجتماعيـة والعلمية كانعكاس للثورة الصناعية الأولى التي شهدتها أوربـا خـلال القـرن الثامن عشر كان لـه الفضل في ولادة اتجاه آخـر، هـو الاتجـاه التجريبـي الحسي (الأمبيريقي). فالإحساس والإدراك والتجربة الحياتية للفرد هـي، بـرأي أصحاب الاتجاه التجريبي، مصدر المعرفة الإنسانية. ويعتبر الفيلسوف والمربي الإنكليزي “جون لوك” مؤسس هذا الاتجاه.

يرفض لوك وجود قدرات أو صفات نفسية موروثة. فالطفـل، مـن هـذا المنطلق، يولد صفحة بيضاء. والمجتمع هو الذي يتولى تشكيل الظواهر النفسية وتطويرها لديه بعد الولادة. وعلى هذا النحو تتكون خبـرة الإنـسان وتتعـاظم تجاربه بصورة تدريجية مع انتقاله من سن إلى أخرى.

وقد ولي لوك أهميةً كبيرةً للتربية. ويرى أن عليها أن تتجه نحو تكوين بنية جسدية متينة وعقل سليم وإرادة قوية وأخلاق فاضـلة لدى الفرد كيما يكون قادراً على مواجهة مشكلات الحياة.

لقد تركت الأحداث السياسية التي مرت بها إنكلترا في القرن السابع عـشر بصماتها على موقف جون لوك وآرائه الفلسفية والتربوية. فقد عاش في عـصر شهد فيه المجتمع الإنكليزي صراعاً حاداً بين الطبقة البرجوازية الفتية الصاعدة والطبقة الإقطاعية الهرمة، انتهى بلقاء الطرفين في منتصف الطريـق وإقـرار الملكية الدستورية. وكان لوك واحداً من أنصار هذا الحل الطبقي الوسط.

وانتقد لوك وجهة النظر التقليدية في التربية نقداً عنيفاً ودافع عما أسـماه فـي كتابه “أفكار حول التربية” التربية الواقعية التي ترمي إلى تسليح الدارسـين بالمعارف المفيدة فـي اللغـات والرياضـيات والعلـوم والمحاسـبة والجغرافيـة والحقوق… الخ. واعتبر مهمة التعليم الرئيسية إنما تكمن في تطوير التفكير المبـدع والمستقل عند التلاميذ بالاعتماد على ميولهم وحبهم للمعرفة والإطلاع.

وفي كتاب “مقال عن الفهم البشري” يتحدث لوك عـن مـصدرين للخبرة الإنسانية: يغطّي أولهما الخبرة الخارجية، وثانيهمـا الخبـرة الداخليـة. ويتمثل المصدر الأول في نشاط أعضاء الحس. أما المصدر الثاني فيتمثل فـي نشاط العقل ذاته. ويقسم لوك الأفكار والتصورات عند الإنسان تبعاً لمـصدرها إلى بسيطة ومركبة. فالبسيطة تتكون بفضل النشاط الحسي، والمركبة هي نتـاج النشاط العقلي. إن الوعي، في الحالة الثانية، يبدو مغلقاً على ذاته، ومـن غيـر الممكن دراسته إلا عن طريق رجوع الإنسان إلى ذاته وتتبعه لمجـرى أفكـاره في الداخل، أي عن طريق الملاحظة الذاتية أو ما يسمى بالاستبطان.

وهكذا يضع لوك العالم الخارجي الذي يعيش فيه الإنـسان ويـستمد منـه تجربته الأولى وأفكاره البسيطة، من جهة، والعالم الداخلي أو الشعور من جهـة أخرى على طرفي نقيض.

لقد حاول أتباع لوك من بعده، كل من موقعه، حل هذا التنـاقض وتجـاوز ثنائيته. وألفت محاولاتهم اتجاهين متعارضـين، كانـا يتبلـوران مـع تزايـد استقطابهما على مدى الحقبة الزمنية الممتدة من أيام لوك حتى الوقت الـراهن.

وقد مثل الاتجاه الأول كل من “جورج بركلي” و”دافيد هيوم” فـي إنكلتـرا. ومثـل الاتجاه الثاني “دافيد هارتلي” في إنكلترا، و”ديدرو غولباخ” وكوندياك وغيرهم مـن فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا، وراديشيف في روسيا.

يجد ممثلو الاتجاه الأول أن التجربة الداخليـة هـي المـصدر الرئيـسي لمعارف الإنسان وأفكاره وتصوراته. في حين يرى أصحاب الاتجاه الثـاني أن التجربة الخارجية هي المصدر الرئيسي لتشكل كافة الظواهر النفسية وتطورها.

فالعلاقة القائمة بين الإنسان وعالمه الخارجي تؤلف بالنسبة لهـم مـضمون الصفات والخصائص النفسية. لقد كانت هذه الآراء المتناقضة حجر الأساس لدراسات وبحـوث كثيـرة ومتنوعة في وقت لاحق، وخاصة في القرن التاسـع عـشر، ركـز البـاحثون اهتمامهم من خلالها على إثبات صحة أحد الاتجاهين.

المقدمات الأساسية لظهور علم النفس..

يجمع مؤرخو علم النفس على أن نشأة هذا العلم وظهوره كعلم قائم بذاتـه يرجعان إلى بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويذهب العديد مـنهم إلى اعتبار عامي ١٨٦١ و ١٨٧٩ تاريخاً لاستقلال هذا العلم. وهـم، بهـذا، يشيرون إلى العالم الألماني “فوندت” كمؤسس لعلم الـنفس. فمـن المعـروف أن فوندت وضع في التاريخ الأول، أي عام ١٨٦١، أول جهاز في خدمة البحـث السيكولوجي التجريبي، وبعد ثمانية عشر عاماً، أي في عام ١٨٧٩ أقـام أول مخبر للدراسات السيكولوجية.

حقاً إن إنشاء مخابر لدراسة الظواهر النفسية وتجهيزها بـأدوات البحـث الضرورية أمر ذو أهمية كبيرة على صعيد انفصال علم الـنفس عـن الفلـسفة والعلوم الأخرى. ولكن ذلك يجب أن لا ينسينا نشاطات أجيـال مـن العلمـاء وفضلهم على هذا العلم وتأثيرهم على رواده الأولين. ولعلَّ هذا ما يتجسد علـى نحو واضح لدى السؤال عن أسباب ولادة علم النفس في هذه السنوات بالذات.

البعض الذي يرى في توافر وسائل البحث(مخابر، أجهزة… الخ) وحده العامـل الحاسم في استقلال علم النفس، لولا التقدم العلمي والتقني الذي عرفته أوربا منذ نهايات القرن الثـامن عـشر بصورة خاصة.

ومن جهة أخرى، فإن مطالعة التراث الفكـري والعلمـي خـلال الحقبـة المذكورة تظهر أن فوندت لم يكن أول المطالبين باستقلال علم النفس. بل سـبقه عدد كبير من المفكرين والباحثين قاموا بعمل دراسات. هذه الدراسات في أربعة محاور حسب الموضـوع والميـدان. وتـشمل هـذه المحاور البحوث الفيزيولوجية والأعمال التربوية ودراسة خصائص الشخـصية والنشاطات الطبية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة