عائد من الموت وذاهب إليه !

عائد من الموت وذاهب إليه !

قصة قصيرة

خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

بينما أنا جالس وحدي في هزيع اللّيل الأخير أسامر القمر ويُسامرني وأناجي النجوم وتناجيني وانشرح فؤادي لتلك الأنشودة؛ التي يعزفها موج البحر فكانت بالنسبة لي أنشودة الأمل السّعيد، فطفقت أفكّر في أيّام شبابي التي ضاعت في التّصابي والغواية، وشرعت أفتّش في دفاتر أيّامي فلم أجد إلاّ الذكريات الوردية والأحلام المخملية، لقد بنيت صرحًا من الأحلام اللازوردية، وبينما أنا غارق في هذه الأحلام والذكريات فجأة طلع عليّ سواد رجل آتٍ من بعيد وبدأ يقترب منّي رويدًا رويدًا حتّى صار ماثلاً أمامي، فانتفضت مذعورًا وقلت له: من أنت ؟

ـ قال: أنا عصام، ذلك الفتى الذي عاد من الموت.

ـ قلت له: أنت عائد من الموت، حدّثني عن الموت وما وراء الموت.

ـ قال لي: الموت هو عبارة عن سفر عبر الزّمن، اليوم أنت هنا وغدًا هناك، ولا فرق بين هنا وهناك.

ـ قلت له: هل آلمتك سكرات الموت ؟

ـ قال لي: كنت نائمًا كما تنام العروس، لم أشعر بأيّ سكرة بل كنت أترنح من السّعادة لأنّني اشتقت إلى العالم الآخر، ذلك العالم العجائبي الغرائبي، إنّه عالم المحبة والوفاء والتضامن.

ـ قلت له: بالله عليك، لماذا تركت ذلك العالم الجميل وعدت إلى عالمنا المشؤوم، لعلّك لم تعرف بعد السّعادة التّي تأتي مع الموت وما بعد الموت.

ـ قال لي: رأيت أشباحًا من نور تُحلّق في فضاء فسيح تترنم بترانيم كنسية، فتعجبت من ذلك اللّحن العجيب الذي يجعلك تهرول مسرعًا لتشرب من ماء الحياة، فماء الحياة من شرب منه لن يظمأ أبدًا، وسيتحوّل إلى شبح من نور إذا رأته الخفافيش ذابت كما يذوب الرصاص، إنّه نور الحقيقة يا صديقي.

ـ قلت له: ماذا رأيت وأنت تعالج سكرات الموت ؟

ـ قال لي: رأيت نور الله يغمرني من رأسي إلى أخمص قدميّ، وصار الله يعرفني من خلال نوري الذي هو نوره، ولكنّني عندما عدت إلى هذه الحياة انطفأ ذلك النّور الإلهي، ولكنّ سرّ الله ما يزال يختلج في فؤادي، كلّما غفوت أيقظني وبثّ في روحي وسرّي إكسير الحياة الأبدية السّرمدية.

ـ قلت له: هل زرت أرض المحبة ؟.. يقال عنها بأنّها أرض الصّالحين وديوانهم الخاص.

ـ قال لي: نعم، لقد زرتها وشربت من ماء جبّها فغمرتني الأنوار والأسرار وتحولت إلى نجم لامع في السّماء أرى العالم العلوي والسّفلي وما بينهما، رأيت العالم الأقدس فمن ولجه نالته الأسرار والمعارف والأنوار.

ـ قلت له: في العالم الآخر كنت نجمًا لامعًا في سماء الحقيقة وها أنت الآن في عالمنا إنسان من طين، ليتني كنت مثلك نجمًا لامعًا في سماء ذلك العالم الآخر ولا أكون إنسانًا ترابيًّا في هذا العالم.

ـ قال لي: إنّ الإنسان خُلق من نور، هو قبضة من نور الله تسري من كائن إلى كائن إلى ما لا نهاية، فالإنسان هو سرّ الله في أرضه وفي سمائه، معراجك إلى الله لا ينتهي بل يبدأ عند الموت ويتطور مع أطوار الموت والحياة الأبدية التي لا نفاد لها، فالموت هو الحياة الحقيقية للإنسان في هذا الوجود، من فرح بلقاء الموت فرح الموت بلقائه لأنّ الموت يحتضن الأنفس الطيّبة الخيّرة المحبة للخير وللمخلوقات قاطبة.

ـ قلت له: إنّ الموت هو عبارة عن انتقال الرّوح من موطنها التّرابي إلى موطنها الأصلي النّوراني، فنحن عندما نموت نسافر في الزّمن وليس عبر الزّمن، لأنّنا سنُصبح نحن الزّمن الذي سيسير على هوانا، سيُصبح الزّمن خاضعًا لنا نحن من سيصنع أحداثه ويوجّهها الوجهة الصّحيحة، نحن أحببنا الموت وأحببنا أسراره لأنّه نسر يُحلّق بنا بعيدًا في أجواء المحبة والحبور، فلا الأتراح تقتحم عالمنا الوردي ولا الأحزان تغشاه، إنّه موت جميل يأتينا في أثواب قشيبة منمقة بالدّرّ والتّبر والياقوت.

ـ قال لي: صدقت يا حبّة القلب ويا مهجة الرّوح، إنّ الموت رحيق المحبين وصلاة العاشقين ووصلة القالين وهداية الضالين ونبراس العارفين وطوق النّاجين وبلسم المعلولين وسكينة المخبتين ونور الواصلين، لقد كتب إسمك بأحرف من نور في سجّلّ الوالهين، فهنيئًا لك هذا المقام، أنت جدير بهذه المكانة العلية والتّحفة السّنية، أنت نور خرج من نور وصارت أنوارك فيوضات قدّوسية وومضات سبّوحية.

ـ قلت له: إذاً، لنسافر معًا إلى ذلك العالم العجيب الذي لا حزن فيه ولا كدر، بل فيه الحياة الأبدية والغد المشرق المتألق والذي سترصعه النّجوم من كلّ حدب وصوب.

فجأة أحسست بحرارة شديدة تسري في جسدي كأنّها تيار صاعق وخرجت روحي كأنّها عصفور دوريّ وحلّقت بعيدًا بعيدًا، وتحوّل صديقي “عصام” إلى فراشة مزركشة اللّون، واختار صديقي العيش بين زهور السّعادة الأبدية أمّا أنا فاخترت العيش في وكور النّعيم السّرمدي، وكلّنا ولله الحمد صرنا ننتمي إلى حديقة واحدة هي حديقة الله التي وعدنا بها ونحن نناجيه في سرّنا وفي جهرنا ونناديه في خلوتنا وفي جلوتنا، فسلام على من أتبع نور الله السّرمدي وحار فيه حيرة العارفين الذين تاهوا في حضرة الإمكان والتّمكين.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة