5 نوفمبر، 2024 6:49 ص
Search
Close this search box.

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية.. (2)

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية.. (2)

خاص : كتب – محمد البسفي :

إن كانت حجة أن العمل الدرامي – الذي يتعرض لأحداث ووقائع تاريخية محددة – غير ملزم بالنص التاريخي من منطلق انه يعبر عن وجهة نظر صاحبه وصناعه، هي حجة ناجعة ومنتشرة الآن بكثافة لإخراج تلك النوعية من الأعمال الدرامية من زمرة “التدقيق” والفحص العلمي لإعادة سرد أحداث ماضوية أو تاريخية, إلا ويقابلها رآي أكثر صرامة في رفض تلك الحجة والتشديد على إلتزام كافة وسائل الإعلام والإتصال الجماهيري, والاعمال الدرامية منها خصوصاً لما تتمتع به من سهولة الوصول والإنتشار، بتحري الدقة التأريخية والعلمية فيما تقدمه لما تمتاز به بين قرنائها من وسائل الإتصال الجماهيري الاخرى بتجسيد الأحداث واعادة إحيائها امام أعين الشباب والأطفال.

إلا وهناك الكثير من وسائل الإعلام والتثقيف والإتصال الجماهيري الأخرى التي تفقد ميزة ما تضفيه تلك الحجة السائدة على الأعمال الدرامية، وتصبح بمثابة “حصان طروادة” لتزييف الوقائع والأحداث التأريخية وتلويثها وإرباك الوعي الجمعي بمنهجية مؤسسية محترفة.

منهجية التزييف..

تقع منهجية تزييف التأريخ – حسب أغلب آراء الدارسين والباحثين الراصدين لهذا المجال – ضمن ما يعرف بـ”الحرب النفسية”، ذلك المصطلح الذي عرفته المنطقة العربية ضمن سائر دول العالم الثالث إبان نهايات الحرب العالمية الثانية وبداية تحرر بعض بلدانها من الإستعمار الغربي والأوروبي المباشر وبدء تنظيم وإنشاء مؤسساتها وتنظيماتها الأمنية والسيادية في إطار إعادة هيكلة دولها، وقد أعيد إنتشار وذيوع إصطلاح “الحرب النفسية” على المشهد السياسي والشعبي مؤخراً – مع بداية الإنتفاضات الشعبية العربية عام 2011 – بصيغ ومسميات تضخيمية أخرى ساذجة تثير التهكم والضحك أكثر ما تثيره من اهتمام, وهو أيضاً عنوان لمؤلف ضخم انتجه رجل الأمن والإستخبارات المصري الأشهر خلال اواسط حقبتي الخمسينيات والستينيات “صلاح نصر”، اصدره في شهر آذار/مارس 1967. والذي حاول فيه رصد آليات وسياسات الحرب النفسية من منظور النظرية الأمنية الأميركية التي احتاجت إلى الشيوع والإنتشار في المنطقة آنذاك.

وتعتبر إشارات “نصر” على مدار دراسته – التي نشرت في جزئين – من الإرهاصات الأولى التي صرحت – نظرياً – بآليات إستخدام تزييف التأريخ وتشويهه بأساليب ممنهجة مؤسسياً دولياتياً أو شعبوياً, بمعنى تبني مؤسسات الدولة لنظريات تزييف تأريخ مجتمعها وحضارتها بأساليب ممنهجة ومنتظمة لإخضاع وقائعه وأحداثه وفق روؤاها وأساليب إدارتها التنفيذية, أو تبني مجموعة أو تكتل أيديولوجي لنفس الأساليب بغرض كسب التأييد والتعاطف وإصباغ صور محددة على قواعدها والتحشيد لهذه القواعد.

ومن جملة ما خلص إليه عدة باحثين ودارسين لهذه الظاهرة، سواء نظرياً أو عملياً، يمكن تحديد آليات التزييف الممنهج مؤسسياً للتأريخ في:

1 – خلط الحقائق والمعلومات التاريخية لتخريج رواية متماسكة بقدر الأمكان يتم تصديرها على انها حقيقة تاريخية مطموسة أو مهجورة لأسباب وعوامل تخدم الهدف النهائي لمُصَدر ومسوق الرواية.

2 – تضخيم بعض الوقائع الهامشية للتخديم على أهداف أو إثبات نتائج مسبقة.

3 – إستغلال بعض “الثغرات” أو الوقائع التأريخية التي مازالت مغلقة أمام البحث والتقصي العلمي بسبب قلة الوثائق والمستندات نتيجة طبيعة الحكم البوليسي الإستبدادية أو إحتكار الدولة للمعلومات.

وسوف تعني السطور القادمة بعرض وتحليل نماذج متعددة لتزييف التأريخ وتلويثه عبر آليات متنوعة مستخدمة ذلك المنهج بإحترافية عالية، بعيداً عن أي منهج علمي منضبط, خاصة في ظل الطفرات التكنولوجية المتسارعة في وسائل الإتصال وتهديد الصحافة الشعبية ومواقع التواصل الاجتماعي “السوسيال ميديا” لعرش الصحافة والمنصات التثقيفية التقليدية، مواكباً لإلتهاب الحراك والوعي الثوري بين قواعد الشعوب العربية, ولكن بنفس أسلوب إستهلاكها لمنتجات العولمة الثقافية والاجتماعية.

هناك الكثير من الأمثلة، ليست للحصر، تسبح في فضاءات الشبكة العنكبوتية “الانترنت” لتلويث التأريخ وتشويهه, لا ترتقي إلى ما تقدم من مناهج تزييف التأريخ الممنهج مؤسسياً, ولكنها تنتشر لا لشئ سوى بغية أغراض ضيقة وساذجة أكثرها شيوعاً طلب الشهرة واللهاث وراء الظهور الاجتماعي. فبمجرد النية عن كتابة اسم المطربة “أم كلثوم” على أي محرك بحث لـ”الانترنت” ستجد كم هائل من التقارير الصحافية والمقالات والمدونات التي تثبت “سحاقية” السيدة وإنحرافها الخلقي دون أي دليل أو إثبات لتلك المعلومة من قريب أو من بعيد (1). وبعد أكثر من 90 عاماً كاملة على واقعة القبض على الأختين “ريا وسكينة” وتفرد عدد مهول من المدونات التأريخية والمؤلفات والدراسات التي ظهرت طوال تلك السنوات تسرد كافة معلومات وملابسات قصة تلك العصابة الإجرامية، ليظهر كاتب وسيناريست مغمور يدعي كذب كل هذا الهرم المعلوماتي الضخم وينسفه بزعم – لم يقدم دليلاً وثائقياُ واحداً عليه – أن تلك القضية الجنائية ملفقة للأختين من ألفها ليائها من قبل القوات البريطانية نتيجة نضال “ريا وسكينة” ضد الإحتلال الإنكليزي لمصر في ذلك الوقت (!!).

65 عاماً .. “الضباط الأحرار” اليتيم الذي يريد تبنيه الجميع..

تأتي مذكرات وتسجيلات أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين”، طبقاً لآراء أغلب المؤرخين والمهتمين, من بين أشهر المدونات التي تعمدت تزييف التأريخ بمنهجية مؤسسية محترفة تتطابق وتتمازج مع آليات وأساليب الخلط والتزييف الدولياتي لنظام الحكم المصري – بما يخالف التصور السطحي بتناقض الروايات والأهداف بين الجهتين – بداية من مذكرات وشهادات بعض أقطاب وقيادات الجماعة وحتى مدونات أعضائها ومناصريها من شريحة المثقفين, مثل كتابات الكاتب الصحافي الراحل “محمد جلال كشك” الذي تفرغ منذ بداية السبعينيات وحتى أواسط التسعينيات لمهمة الكتابات التأريخية من وجهة نظر إخوانية, بعد تركه العمل كمدير مكتب لنائب رئيس جهاز المخابرات المصرية, “عبد الفتاح أبو الفضل”, منذ تأسيسه بعد ثورة (تموز) يوليو 1952 وحتى بداية السبعينيات وسفره لأميركا سنوات قليلة وعودته إلى مصر وتم تعيينه في منصب قيادي بمؤسسة الأهرام الصحافية (2).

ورغم كل تلك المذكرات والذكريات التي شغلت الرأي العام المصري والعربي طيلة العقود الممتدة منذ السبعينيات وحتى سنوات قليلة منصرمة، لأغلب – إن لم يكن كل – أعضاء تنظيم الضباط الأحرار بصفوفه المتعددة, وتطابق الكثير من التفاصيل التأريخية لنشأة التنظيم داخل صفوف الجيش من حيث “متى وكيف ولماذا ومن بدأ تنظيمه ؟”, إلا ومازالت جماعات الإسلام السياسي والتكتلات الليبرالية مناسقة وراء الأدبياتها التي تصر عليها جماعة الإخوان المسلمين منذ زمن محنتها الأولى مع نظام “يوليو”.. فمن أشهر الروايات التي يعتمدون عليها حتى اليوم ما ساقه “حسين محمد أحمد حمودة” – الذي رغم عدم ظهور اسمه في أي مذكرات أو مدونات تأريخية لأعضاء التنظيم العسكري البارزين – إلا وأنه يقدم نفسه كأحد أبرز الأعضاء المؤسسين لتنظيم الضباط الأحرار في مذكراته المعنونة: “أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين”.

والتي يصَدر عبر صفحاتها قصة مختلفة لنشأة التنظيم، أعتمدتها معظم أدبيات جماعات الإسلام السياسي الأخرى, يلخصها سارداً في الرواية القادمة حرفياً: “في عام 1949 قبل وفاة محمود لبيب وكان قد دهمه المرض زرته وأنا في إجازة ميدان, فوجدت عنده جمال عبد الناصر في بيته بالظاهر. وكانت حالة محمود لبيب الصحية متأخرة وكان راقداً في فراشه ولكنه كان رحمه الله صافي الذهن, وقال محمود لبيب: إني سأموت ولن أعيش طويلاً وسأكتب الآن مذكرة بأسماء الضباط الذين يشملهم التنظيم السري والمبالغ المتبقة طرفي من الإشتراكات وسأسلمها لجمال عبد الناصر لتستمروا في الرسالة بعدي, وطلب مني أن نكون يداً واحدة وأن نعاون عبد الناصر وعبد المنعم عبد الرؤوف. ونظراً لإنشغالي بموعد آخر فقد انصرفت وتركت جمال عبد الناصر مع محمود لبيب. ولما مات محمود لبيب شيعت جنازته, ووجدت في جنازة محمود لبيب جمال عبد الناصر فسألته, بعد الجنازة, هل سلمك محمود لبيب ورقة الأسماء, فأجابني عبد الناصر بأنه لم يخرج من بيت محمود لبيب يومها إلا ومعه الورقة بالأسماء وكذلك نقود الإشتراكات.

وفي عام 1950 أفهمني عبد الناصر أنه سيعيد التنظيم السري لضباط الجيش, والذي بدأه عبد المنعم عبد الرؤوف ومحمود لبيب سنة 1944 وتوقف في عام 1948 بسبب حرب فلسطين.

وقال عبد الناصر لي إنه سيضم إلى هذا التنظيم عناصر أخرى من غير الضباط الإخوان, وبخاصة الضباط الذين قاسموه محنة الفالوجا وغيرهم ممن يلمس فيهم صفتي الشجاعة والكتمان.

وقال جمال عبد الناصر إنه بموت حسن البنا ومحمود لبيب إنقطعت صلة الإخوان بضباط الجيش, وإنه يرى لدواعي الأمن قطع الصلة بعبد الرحمن السندي رئيس التنظيم السري المدني للإخوان, وبخاصة بعد الحديث الذي دار بين إبراهيم عبد الهادي وجمال عبد الناصر, فلما حذرت عبد الناصر من إدخال عناصر في تنظيم الضباط الأحرار غير متدينة مما يجر علينا ويلات لا يعلم مداها إلا الله. أجابني بأن التدين الكامل غير متوفر حالياً في أغلب ضباط الجيش ولما كانت الحالة السياسية في مصر خطيرة جداً فإنه لابد من القيام بعمل إيجابي في القريب. وإذا دققنا الاختيار بمواصفات الإخوان فسيتأخر تنفيذ الثورة وربما قد لا تحدث على الإطلاق.

وقال عبد الناصر: يكفي في العناصر التي نضمها للتنظيم صفتا الشجاعة والكتمان وهما كافيتان في نظره للقيام بالثورة على أساس أن زمام الأمور سيكون في يده بعد نجاح الثورة وهو مقتنع تماماً بفكر الإخوان المسلمين وأنه ينوي العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد اشترك الإخوان المسلمون في ثورة يوليو 1952 بواسطة الضباط المنتمين للجماعة والذين كانوا يشكلون أغلبية في تنظيم الضباط الأحرار, الذي قام بالثورة ليلة 22 – 23 يوليو 1952. لقد نفذت الثورة بواسطة 99 ضابطاً من ضباط الجيش كان معظمهم من الإخوان المسلمين. كما اشترك الجهاز السري المدني للإخوان المسليمن في ثورة يوليو 1952. وقد علمت ذلك من جمال عبد الناصر شخصياً, حينما توجهت لمكتبه في قيادة الجيش يوم 27/7/1952 أحمل إليه رسالة شفوية من اللواء أحمد طلعت حكمدار بوليس العاصمة, بعد أن اعتقلته الثورة طلب فيها مني إخطار المسؤولين عن الثورة بضرورة المحافظة على حياة إبراهيم عبد الهادي من إنتقام الإخوان المسلمين, فقال لي جمال عبد الناصر إنه متفاهم مع حسن الهضيبي على كل شئ ولا خوف على حياة إبراهيم عبد الهادي, وأن الإخوان منذ صباح 23/7/1952 متطوعون لحماية السفارات الأجنبية والمنشآت الحيوية المدنية ,ولهم قوات على طريقي السويس والإسماعيلية ومنطقة القنال لإعلام قيادة الثورة بتحركات القوات البريطانية أولاً بأول” (3).

المصادر:

  • “سحاقية أم كلثوم.. حَكيْ مباشر وبالأسماء لأول مرة” – موقع أرم نيوز.
  • “كنت نائباً لرئيس المخابرات” – عبد الفتاح أبو الفضل – دار الشروق 2001.
  • “أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون” – حسين محمد أحمد حمودة – الزهراء للإعلام العربي 1994 – من صـ 150 إلى 152.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة