خاص: إعداد- سماح عادل
“سعد هدابي” كاتب مسرحي وتلفزيوني ومخرج وممثل من أعماله مسلسل” دخان الجداول “, “الاعتراف الأخير لسندريلا” ومسرحية “قمر حبيبتي” و”شفاه حزينة”، “حفيظ”، “الطوفان ثانية” وغيرها من عشرات الأعمال المسرحية والتلفزيونية.
أيقونة الإبداع..
في مقالة بعنوان “سعد هدابي أيقونة الإبداع” كتب “منعم سعيد”: “عندما يكتب سعد هدابي للمسرح يحضر الدرس الأول في التعاطي مع هذا الأفق الرحب والشائك.. وهو من صيره كاتبا ومخرجا في السينما والتلفزيون والمسرح، شخوص أعماله كلها من الواقع لأن الواقع يمنحنه بانوراما مشهدية فائقة التأثير. فيرى الناس وهم يرسمون خطاهم.. فما كان منه إلا أن وثّق ما يقومون به بعيدا عن الانحياز. فقط ينظرهم بحيادية، فينسكبون بذاكرته على هيئة ملفات ينبغي صونها من تلف الابتكار وعبث الخيال أحيانا، فيكتبها كما المنقب الأثري الذي يثبت دلالاته ولكن بطريقته وأسلوبه المميز كمؤلف، أو مخرج، هذا إضافة إلى أنه مثل عدة مسرحيات..
لكنه ترك التمثيل لأنه يجده الأصعب في خارطة الإبداع، ووجد نفسه مقتربا من الكتابة والإخراج وشعر براحة نفسية وهو يخرج أعماله بنفسه لأنها كما يقول تمرين لي على الأصعب، أما عن رأيه بحركة الإخراج المسرحي بعد التغيير عام 2003 فقد قال عنه في الكثير من لقاءاته، (بأن المشهد المسرحي في العراق متجدد لأنه يمتلك ظهيرا معرفيا وهناك تجارب كبيرة وعملاقة في هذا الميدان.. والآن هناك محاولات يقودها العديد من الشباب المبتكرين الراسخين والمضطلعين بالتجريب شكلت نوعا فريدا في قرأتها للخطاب المسرحي فهي تحصد الجوائز عربيا ولها حضور محلي.. لكن المشكلة في أن المساحة التي يتحرك من خلالها هؤلاء الشباب تعاني من الضيق)” .
ويضيف: “توجهاته جعلت منه منقبا في سسيولوجيا المجتمع لينسج من ذلك شخصياته التي ألفها، ليدعمها ويبنيها بروحه الموسيقية إضافة إلى كونه مؤلفا ومخرجا فهو عازف عود، وكأنه يتغنى ويمشي على ضفاف نهر الفرات في مدينته الديوانية. تلك المدينة التي ولد فيها في البيئة والمناخ الذي أسهم في صيرورة أشيائه مذ أبصر الدنيا. فهي الذاكرة وهي الالتباس وهي نقطة الشروع الأولى التي أسهمت بكل أبعاد موهبته، فهو فطر على أن يرى الأشياء صريحة والبيئة كانت تغيثه في أن يرسم خارطة الأشياء عبر مدينة تغفو على نهر الفرات بوداعة وسكينة.
أزقتها المتعرجة التي تبحر فيك إلى ما لانهاية، بيوتاتها التي اكتست بوهج الشمس، وإنسانها الذي لم يزل كعادته كريما، مدينة قد لاذت بالعزلة وكأنها امرأة تلفعت بعباءتها خجلا كما يقول عنها الشاعر الكبير كزار، هكذا عرف الفنان سعد هدابي بنزاهته والتزامه وصدقه وحبه الباذخ لفنه ووطنه وأهله، وما يحمله من شجون وشؤون لم ولن يتوانى بالإفصاح عنها بمنجزه الإبداعي الذي أصبح إرثا ثقافيا ينهل منه المبدعون في مختلف أرجاء العراق والوطن العربي كأعمال درامية ومسرحية وتلفزيونية وسينمائية ليصبح مفخره لنا ولبلده العراق”.
تكتبني الأشياء..
في حوار معه نشر في صحيفة المدى يقول “سعد هدابي” عن التنوع في إبداعه: “عادة ما تكتبني الأشياء.. لم اختر لونا منفردا.. بل وجدتني ضليعاً بكل املاءات المنجز… ربما يكون المسرح أصعب مخاضاتي وأنا أتلمس الطريق إلى صيرورتي الأولى، لكني وجدت نفسي معنيا ومتشظيا بكل اشتراطات المنجز وحيثياته… فعندما أكتب للمسرح يحضر الدرس الأول في التعاطي مع هذا الأفق الرحب والشائك.. وهو من صيرني كاتبا ومخرجا في السينما والتلفزيون”.
وعن تأثير الواقع على أعماله يقول: “الواقع يمنحني بانوراما مشهدية فائقة التأثير.. أرى الناس وهم يرسمون خطاهم.. فما كان مني إلا أن أوثق ما يقومون به بعيدا عن الانحياز.. فقط أنظرهم بحيادية فينسكبون بذاكرتي على هيئة ملفات ينبغي صونها من تلف الابتكار وعبث الخيال أحيانا.
وعن حركة الإخراج المسرحي بعد عام 2003 يقول: “المشهد المسرحي في العراق متجدد لأنه يمتلك ظهيرا معرفيا وهناك تجارب كبيرة وعملاقة في هذا الميدان… والآن هناك محاولات يقودها العديد من الشباب المبتكرين الراسخين والمضطلعين بالتجريب شكلت نوعا فريدا في قرأتها للخطاب المسرحي فهي تحصد الجوائز عربيا ولها حضور محلي.. لكن المشكلة في أن المساحة التي يتحرك من خلالها هؤلاء الشباب تعاني من الضيق”.
توثيق الأحداث..
في مقالة آخر عنه كتب “.د.باسم الاعسم” وكمقدمة لكتابه (أبصم باسم الله) عن دار الشؤون الثقافية العامة/ وزارة الثقافة: “إن ميزة (سعد هدابي) الفارقة، التحليق في فضاءات المعاصرة، عقب انتخاب ثيمات موغلة في رحم الزمن ، كما في المسرحيات: (حدث غدا) و(العباءة) و(كوليرا) و(نيران صديقة) و(ابصم باسم الله) و(رماد) و (ذات دمار) بل أن جميع نصوصه قد احتكمت إلى خطابات مسرحية مفترضة، تحاكي الزمن الحاضر، والإنسان المعاصر، بلغة الدرامي الشاعــــر.
فضلاً عن عناوين المسرحيـات المحتشـدة بالدلالات الموحية والاسقاطات الدالة، وتبدو مهمة توثيق الأحداث من صلب آليات الكاتب الفنية فثمة مصور يوثق بعدستهِ ما حدث، كما في (العباءة) وحكاية ذلك العسكري الذي يؤرخ الحرب التي أفقدته رجولته، مثلما هو المصور في (حدث غدا) الذي يصور تلك التماثيل المؤنسنة، وكذا حال العنصر التقني الممثل بالشاشة في كلا المسرحيتين، والتي تعادل ثقل الأفعال والمواقف الدرامية، إلى جانب المفارقات التي تحفل بها النصوص كافة”.
ويواصل: “وتأخـذ الفانتازيا مداهـا الأرحـب في تأثيث الشكل البصري، للمشهـد الدرامي المترع بسيـل من الافتراضات المتواشجة مع الأبعاد الزمكانية، على وفق أسلوب سينمي يترجم ثقافة المؤلف (سعد هدابي) وبراعته المعهودة في الإفادة من تقانات البنى المجاورة للخطاب المسرحي، كالسينما كما في مسرحية (رماد) وحيث الخيمة الممزقة، والوطن المستباح بشخصياته المذبوحة بفعل الحرب والحصارات والهزائم، يترجمها (معيوف) بطل مسرحية (ذات دمار) الذي يحرق نفسه احتجاجاً على ما يحدث مثلما هو البوعزيزي. و(هو) الشخصية العسكرية التي تتلفع بالعباءة في (العباءة) بعد أن داهمتها الشكوك والكوابيس والمخاوف والأشباح بفعل الحرب، التي دارت في بيته، بل في رحم زوجته، الذي أضحى أرضاً يبابا.
وتفصح مسرحيات الكاتب (سعد هدابي) عن خبرة أستاذ متمرس في إنتاج النصوص الدرامية الطافحة بالصراع النفسي، والشخصيات المأزومة والأحداث الجليلة، على قصر النصوص، وقلة شخوصها، لكنها مسبوكة بيد صانع ماهر، يكتب النص للعرض، وقد يتناص مع الآخر، لكن بصماته الخاصة تطبع نصوصه دائماً. ويبلغ التكثيف أقصى مداه على صعيد الحوار والأحداث والأفكار والشخصيات، لأن (هدابي) يركز على العقدة الرئيسة للحدث وتنامي وسائر الصراع، تحقيقاً للدهشة، عبر المفارقات والتحولات المصاحبة لنمو الشخصية الدرامية، عقب تواشج الأنساق الصوتية واللفظية والحركية ، المؤسسة لجمالية النصوص التي امتلكت قدرتها على التأثير في نفس وذائقة المتلقي، وبشـكل جلي حينما تقدم تلك المسرحيات على خشبة المسرح، فيضفي عليها الإخراج جمالاً على جمال، وتغدو ماثلة في ذاكرة المتلقي من فرط سحرها”.
ويؤكد: “إن مهارة الكاتب (سعد هدابي) في التمثيل والإخراج، تمنحه زخماً من الوعي بحيثيات إنتاج النصوص وصياغة الشخوص وإدارة الأحداث وبلورة الأفكار. وإن من فيض أبداع يراع (سعد هدابي)، تلك اللغة الشعرية المكتنزة، التي من سماتها: القصر والصور والبلاغة والإيحاء، والمجاز، أنها واضحة القصد، أقرب إلى الشعر منها إلى السرد، وكعادته يشبع (سعد هدابي) الحوارات بسيل من العلامات الرمزية ذات الدلالات (المسرحية) فضلاً عن النقائض والمفارقات.
إن مسرحيات الكاتب (سعد هدابي) حركية صالحة للعرض، وحينما أتيحت لي فرصة مشاهدة بعضها، أدركت براعة هذا الكاتب الأمهر، إذ كانت تلك النصوص (العروض) بمثابة الجدار الرابع الذي أبعدناه بوصفنا متلقين عن تلك النصوص والعروض التي صدعت رؤوسنا من فرط مباشرتها، وهيمنة النسق اللغوي عليها، والبكاء المستديم فيها، والاستسلام لانساق المشابهة مع الواقع، حتى غدت المطابقة معه مزيتها الواضحة، في حين أن الكاتب (سعد هدابي) يقتنص الموضوعات التي فيها من الخصوصية ما يصحح تعميمها، كما في مسرحية (العباءة) و (وحدث غدا) و (نيران صديقة). أحسب أن ما يكتبه المبدع (سعد هدابي) من مسرحيات يفصح عن موهبة خلاقة وإمكانية طيبة في الصوغ الأدبي بقصد إنتاج خطاب مسرحي يتوافق وروح العصر من فرط جدته وحداثته في الآن نفسه”.
نص مسرحي
“رمــــــاد”
تأليف: سعد هدابي
الخطاب المسرحي
(المسرح وبأدواته الافتراضية لا ينتمي إلى أي معمار واقعي.. لكنه يوحي أننا أمام بلاطة قبر بمعمار مفترض يعلوه (فانوس) بشاخص بلا اسم.. والعلاقات التي تستوطن هذا المعمار متداخلة من حيث (الزمكانية) وبمونتاج متوازي بين المسرح والسينما عبر شاشة كبيرة تمثل جدارا العمق بأكمله.. ونشاهد (المحامي) وهو يقوم بنصب (ستاند) و(كاميرا) أمام القبر فتندلق من داخل القبر مجموعة كبيرة من التفاح تتحرك على الأرض.. يأتي صوت المرأة منسابا كما الروح.. وتتجسم الشاشة الكبيرة نفق طويل.. ونشاهد المرأة وهي ترتدي ثوبا ابيضا راحت تجري بشكل بطيء).
المرأة: هب إنها آخر كلمات تشهدها اللحظة من داخل قبر بارد.. ففي الجزء الموحش من روحي يسكن هاجسك المخيف.. البرد يحاصر أناملي.. ولساني النائم بين زهور الكلمات ابتلعته أفعى ماكرة.. وتفاحتي بين يديك.
المحامي: ( يتناول تفاحة ويقضمها وينفتح غطاء قبر).
المرأة: (من داخل القبر) احترس من الأفعى..!!
المحامي: كفاك جنونا.. ودعيني أدون أقوالك بعيدا عن هذا الانشطار والتشظي والهذيان، فأنت روح هائمة لا مستقر لها وتلاحقك تهمة ينبغي الإفلات منها فتعودين لقبرك البارد لترقدي بسلام .
المرأة: (تظهر من داخل القبر لتقف أمام الكاميرا فتظهر صورتها كبيرة على الشاشة التي تمثل جدار في العمق) رفقا بروحي الهائمة.. لطالما بحثت عنها كثيرا..في أقبية الكوابيس في نفايات العمر.. في أروقة ماض سحيق…في قوارير المردة بين أعشاش على أغصان ميتة ..في توابيت الذاكرة .
المحامي: أوراقك التحقيقية تؤكد انك مت منتحرة.. وأنا كمحام ينبغي أن اثبت العكس… وها أنا ذا أعيد فتح القبر لأتأكد من مزاعمهم وينبغي أن أكسب القضية فيما لو اثبت العكس ..وهذه الكاميرا توثق وبشكل أمين كل ما ستدلين به من أقوال… المهم أن أثبت العكس.
المرأة: ولماذا تريد أن تثبت العكس.. من أجل أن يقال أنك محام بارع وتنال فاتورة شقائي بعد مماتي؟ ومع ذلك سأعترف لك أنت وحدك نعم لقد قتلت نفسي..لا.. عفوا.. أقصد أنا من قتلتني نفسي وها أنا ذا أتقدم بشكوى منذ ألف عام على نفسي ولم يصغ إلي أحد!!
المحامي: نفسك..؟ ما تقولين يا امرأة..؟
المرأة: نفسي يا هذا مجرمة بحقي.. لكم تخيلتها وهي تقف خلف القضبان مثل جرذ أعمى قسما سأهزأ منها.. سأتقيؤها من جوفي كأطفال الخدج.
(تتجسم عبر الشاشة الكبيرة صورة لممر طويل ونشاهد المرأة وقد أقتيدت من قبل رجلين من المصح .. وتتحدث هي أمام المحامي)
المرأة: إنهم يعتقلون الجنون الذي يستوطن راسي.. أنت من أودعني ذلك المصح الملعون بيوم من الأيام ..أنت من دفعني أن أكون بمواجهة مع عقلي المضطرب بك عليك.
المحامي: أنا…؟
المرأة: لأنك أنت من زور أقوالي.. وألبسني ثوبا القاني في معركة العقل… وسرق الفكرة (الكاميرا تدور عبر الشاشة حول المرأة في مكان معتم.. ويظهر مدير المصح).
المدير: حسنا.. مادمنا ماضين في إخضاع العقل لميزان الفكرة..في أي يوم نحن أيتها المرأة؟
المرأة: لا أدري.. لكن يبدو انه يوم آخر من عذاباتي .. يوم آخر من نكباتي.. يوم آخر أشاهد فيه وجوهكم التي تندلق منها الشماتة بامرأة لم ولن تنتمي إلى عالمكم المكرور هذا.
المدير: طيب.. ما اسمك أيتها الـملغومة بالنكبات..؟
المرأة: أنا….. أنا من ورثة نساء لم تولد بعد.
المدير: هكذا إذن..؟
المرأة: أنا من صلب جينات نافرة وسيكتشف أحفادك سرها بيوم من الأيام وسيكتبون على قبري كلمات بغضاء ويغلق سجل أيامي هنا ترقد امرأة من رماد.
المدير: هنا في هذا المصح سنهبك فسحة اسمها الراحة والاستجمام بعيدا عن تلك النكبات.. وبمعزل عن رماد أيامك.
(ينتقل الحدث إلى المسرح وتتحدث المرأة مع المحامي)
المرأة: لإراحة مادمت أتنفسكم.. ولا استجمام مادامت ظلالكم الثقيلة تطاردني في مناماتي.. أنا مخلوقة الصدفة.. كان ينبغي أن أولد بعد أن تبتلع الحيتان أقمار أيامكم.. لكم فكرت كثيرا أن أكون أول رائدة فضاء.. أتدري لم.. لأني كنت سأمكث هناك في جليد كوكب مجهول دونما رجعة.. هناك ساحتفر قبري بين الجليد وانتظر موتي بسعادة لا توصف.. ياااااه.. لكم هي شهية وطازجة فكرة الموت أحيانا.
المحامي: أقوالك هذه محض جنون.. نريد أجوبة منطقية.. وألا سيختم على استمارة موتك انتحارا ونعيد غلق القبر إلى الأبد.
المرأة: أنا صفحة بيضاء رسم على عذريتها الهؤلاء بأختامهم صورة شوهاء ورحمي يغتص باجنتكم اللزجة.
المحامي: اعترافاتك يا هذه فيها فضح وتعرية لأناس مروا بحياتك يوما ما.
المرأة: أنت واحد منهم.. مررت بحياتي قبل أن أموت.. وهانذا أسكن قبري المكشوف الغطاء ولازلت كما انت تريد ان تنتزع مني أشيائي عنوة الا يكفيك ما اخذت.. يا للسخريه بعد ما كنت غاصبا صرت مدافعا عن ضحيتك.. يا لفروسيتك يا هذا (تصفق له)
المحامي: ضحيتي..؟ ما هذا الكلام.. أنا لم التق بك من قبل.
المرأة: يكفي أنك رجل يا هذا.
المحامي: ماذا؟ أنا هنا لمساعدتك أيتها المجنونة. فإذا بك تتهميني بأشياء تثير القرف والاشمئزاز.
المرأة: (تنفجر ضاحكة) ألا يكفي أنك رجل؟ (تبكي بهدوء وتتحدث بخوف) زرعوا في ذاكرتي تباعا أجنة شوهاء هناك.. انظر.. إنهم متشابهون ذات الوجوه.. أشباح تملأ روحي ضجيجا.. أني أشم رائحة الغدر.. واتنشق فجور قاتلي.. يوم كنت هناك.. في صحراء لم تطأها قدم إنسان.. بين الأمس واليوم. وغد بجليد ساخن. مطر.. مطر.. مطر.. مطر من الوجع .. مطر من الحكر.. مطر من الامتهان.. من الغثيان…
المحامي: ألازلت تتخيلين أنني أحدهم..؟
المرأة : بل أنت من أنجبتهم جميعا.
المحامي: أنا..؟
المرأة: آدمك المخبوء بين أوردتك يتوارى عن الهؤلاء.. سلالة من الاجتياحات المتلاحقة.. أنهم هم..أراهم بين عينيك المتورمتين بالرياء والخديعة.
المحامي: ومن هؤلاء الذين ألبسوك ثوب جنونك؟
(ينتقل الحدث إلى تجسيم صوري عبر الشاشة مع المدير)
المدير: أجيبي.. قولي كلمة حتى تبرأ ساحتي.. حدقي بوجهي.. هل رأيتني من قبل.. لا أنكر أني ما إن رأيتك حتى لفظتك قائمة نساء كثيرات مررن بحياتي.. أحفظ أسمائهن ووجوههن عن ظهر قلب.. أما أنت فلا.. لم أبصر فيك غير اتهام كيدي للإطاحة بي.. وأعدك أن هذه الشحنات الكهربائية ستبقى على الدوام تغازل ذهنك الملغوم بالكوابيس حتى تفيقين من الأوهام .
(ينتقل الحدث على المسرح ويصرخ المحامي)
المحامي: أجل.. إنها كوابيس.. كوابيس تسكن عقلك المريض.. ورقادك في المصح كما هو منصوص في سجلك جاء نتيجة خلل عقلي وهذه استمارة المستشفى.. تؤكد بأن كل ما كان يعتريك مجرد كوابيس.
المرأة: ليست بكوابيس.. الرجال لا يتجسمون في معرض حياتي على هيئة كوابيس.. لأنهم هم وحدهم من يصنعون الكوابيس ويتوارون خلف خطيئتهم.. ياه.. لو أنك تعلم كم من ميتات حول قبري أزهقت أرواحهن بكوابيسكم اللعينة.. تخيل حتى الأطفال لم يطقن تلك الكوابيس.. وفي كل ليلة هنا عند قبري تتوسد واحدة منهن ذراعي وتسرد لي ببراءة كابوسها فترتسم في ذاكرتي ملامح وجهك.
المحامي : وجهي أنا..؟
المرأة: نعم أيها الفاتح.
المحامي: إنني أحذرك..ألا تخافين سطوتي.. إن لي سطوة ستلقي بك إلى قاع جحيم لم تطأها قدم ميت من قبل.
المرأة: أنا والخوف في خصام دائم يا هذا.. ثم ماذا تريد أن تفعل بي أكثر من ذلك.. هل تنتزعني من قبر مجاني وتلقي بي في حفرة ملغمة عند رصيف اغترابي.. أم ستدفع بي إلى أقبية الطب العدلي ليعاد تشريح جثتي التي أضحت خرائط.. ألا يكفيكم مبضعكم الحاد النصل أنه وبلا رحمة رسم خارطة جنوني… تعال وانظر إلى هذا الجسد المثخن بالمباضع لتدرك خساراتي.
المحامي: يبدو أنك أعلنت الحرب على خساراتك.
المرأة: حربك الماجنة هي من أعلنت خساراتي، والموت لم يروض نقمتي.
المحامي: عن أي خسارات تتحدثين وأنت جثة متفسخة وبلا ملامح.
المرأة: اخبرني إذن من أنا.. جارية برداء مبتل بالإغراء.. أم سكرتيرتك التي صار مكتبها سريرا لك.. أم امرأة منكوبة بزوجها الذي مات بأول حرب فاستحوذت عليها بفطنتك وكتبت على اضبارتها رقما من أرقام مغامراتك وفتحت أسوار مدينتها وافتضضت محرابها.
المحامي: (بجزع منفجرا) وما شأنك أنت..؟
المرأة: (تصرخ) لأني كلهن أيها المغوار.
المحامي: كلهن..؟
المرأة: نعم.. أنا حشد من مخلوقات بريئة اسمها.. يا إلهي.. نسيت الأسماء كل ما أتذكره أنني هربت يومها لأجد نفسي عند رصيف القهر…
(تظهر المرأة عبر الشاشة وهي تسير على الرصيف بملابس ممزقة ويتبعها أحد المندوبين)
المندوب: ما ذنب نزلاء المصح وهم يهيمون الآن في الأزقة والشوارع كالشحاذين، بعد أن قصف المصح وهرب الجزء الأكبر منهم ها نحن أمام شحاذة كانت من نزلاء المصح.. حدثينا عن وضعك ايتها الـ ..
المرأة: أنا كلهن.. المجنونة.. والشحاذة.. واللقيطة. وابنة ليل وفتاة إعلانات.. ومضيفة في الخطوط الجوية.. ونادلة داعرة في حانة الخمارين.. وأنثى لم تولد بعد.. وجمهورية أسماء تطالب بربيع حياة.. وغد مارق ينسج أكفان شقائي.
المندوب: يبدو أنك تعانين من انفصام حاد ومخيف في الشخصية.
المرأة: الواقع منفصم ومنقسم على نفسه.. الواقع متخم بمظاهرنا لكنكم لا ترون.. الواقع يرسم خطوط الطول والعرض لمصيرنا.. عبر الأرصفة.. انظر هناك.. الأموات يقتسمون المقابر باسم المحاصصة يقولون أنهم اكتشفوا نفطا في قبورهم.. المواد العضوية تصنع النفط الخام.. والموت أصبح باهظ الثمن هذه الأيام.. نحن أناس يلفظنا الموت حتى لا ننافس من سبقنا له وصار رئيسا أو نائبا أو حتى سمسارا في ملهى ليلي.
المندوب: هل ترغبين بالعودة إلى المصح بيوم من الأيام .
المرأة: عن أية عودة تتحدث يا مجنون.. ألا يكفي أن الشارع أصبح مصحا حدق بالماشين.. أنظرهم بعيون طاميرتك الأمينة على نقل الحقائق وستدرك ان كل شيء يتصل بالحياة إنما هو مصح.. كل خطوة غير متزنة هي نتاج هزيمة محتملة.. أو هرولة في ميدان الانفلات.
المراسل : ألك أهل..؟
(ينتقل الحدث إلى المسرح)
المرأة: أهلي ماتوا بأول حرب.. وقبرهم الجماعي زاخر بالويلات مثلما هو زاخر بالضباب والغياب.. أبي أمعن في شرب عقار سعال حتى مات ثملا لأنه لم يطق أن يراني أولد ثانية.. وأدني بأول جولة.. وصليت عليه صلاة الوحشة بآخر جولة.
المحامي : فليرحمنا الله جميعا.
المرأة: أمي قتلتها الغفلة.. غاضها انفلاتي فأومأت لعزرائيل أن يراقصني عند العريش.. ولم تدر أني أغويته ليلتها فمات بين يدي.. لكم بكيت عليه كان حنونا.. وشغوفا.. يهب الموت بلا مقابل.. وبغمضة عين.
المحامي : أفيقي من هواجسك أرجوك.
المرأة: أفق أنت من لعبة أيامك وراقصني كما الموت.. أهذب بأفراسي بنشوتك المعهودة أريد أن أحلق في سماوات ملكوت وردي.. إنني أبغض ضعفك لا تملك إلا لسانا يلهج بالتفاهات.. ولا تجيد غير اختلاسات خجولة لجسدي يا رجل الاختلاسات مهزوم مثلك لا يجيد غير النظر من ثقب الباب الموصد بتفاحتي.
المحامي: لا … أنت حشد من الأوهام.
المرأة: أنا بيدق مات بأول نقلة شطرنج باناملك الباذخة بالغدر.. رحم الله بيادقنا.. في كل امرأة أرمل بيدق مهزوم.. شطرنج وبيادق.. وأرامل وأسمال سوداء.. ونواح.. واللعبة مازالت في البدء.. والبقية في العدد القادم.. وقيدت ضد مجهول .. و…
المحامي: هروبك من المصح هو من دفع بك لجنون آخر اشد خطرا على الناس.. وصار اسمك في القائمة السوداء الأكثر حضرا هذه الأيام.
المرأة: هو من دفع بي ..؟
المحامي: من هو .؟
المرأة: عقلي.. لقد وهبتني الطبيعه عقلا بليدا مالبث أن تحول إلى محترف سمسار باذخ الانكسار.. وينبغي أن يحاكم .
المحامي: ماذا..؟
المرأة: كان ينبغي أن أنسج أكفانا لعقلي مذ شعرت أنه أطاح بي في معركتي.. كان جبانا. مترددا.. يجيد العزف على أوتار الهزيمة غير عابئ بي.. حتى وجدتني في أرض حبلى بكم أنتم.. أنتم بكل مزاعمكم.. بكل تشظياتكم.. بكل ما تريدون ومالا تريدون.
المحامي: (يستخرج بعض الأوراق مع قلم ويقدمها إلى المرأة) انتهت الجلسة.. هيا وامض على أقوالك.
(ينتقل المشهد الشاشة.. ونشاهد المرأة وقد جلست وقد حيط بها رجال لا يظهرون سوى بنصف الأجساد وراح احدهم يتحدث)
الرجل: امضي على كلماتك التي تجسد قلبا عامرا بالإيمان وادخلي رحاب قضيتنا.
المرأة: أي قضية؟ من أنا.. من أنتم.. وماذا تريدون.. بل ماذا أريد بل ما الذي ينبغي أن يكون لو أردنا معا..؟
الرجل: لعل أكثر النساء حظوة هي التي تجود بجسدها وهو يتشظى في وضح النهار.
المرأة: دائما مطلوب منا أن نجود بأجسادنا.. ياللمفارقة..الشارع الملاهي.. الأسرة.. والتوابيت.. والمصحات.. وحتى الثورات التي ولدت من رحم الصدفة تقتات على أجسادنا كديدان الأرض.
الرجل: (يستخرج حزاما ناسفا ويحيط به جسد المرأة) تلك قلادتك المذهبة بأجود وأندر أنواع التقوى.. بادري إلى أن ترسمي بدمائهم النجسة ملحمة الثار.. هيا.. أغمضي عينيك وأتمي صلاتك يا ممتحنة.
المرأة: لكني لم أصل يوما.. ولم أغمض عيني إلا عن بشاعة ما أرى في ملحمة الدنيا وامتحانها.
الرجل: الدنيا مشوار زائف.. نمر به دونما أن نلتفت إلى الوراء.. وجواز سفرك بين يديك يا سيدة الإيثار.
المرأة: ماذا..عن أي إيثار تتحدث يا هذا؟ أنا مجرد ورقة يابسة فوق أرصفة خريف موحش.. الريح تهوم برأسي.. تفقدني استقراري ولم أعد أعرف من أنا.. من أنتم ..
الرجل: آه لو تعلمين كم بحثنا عنك حتى وجدناك عند ذلك الرصيف الذي يئن وجعا عليك.. إنك النموذج.. مستوفية الشروط وأهلا للمهمة.
المرأة : أيه مهمة..؟
الرجل: مهمة أن نبصق في وجه دنيا تجمعنا بهم.. وعند الفجر ستغتسلين بدمك وتنامين بحفظ الله.. وستقر أعيننا بك.. وغدا سننشر في الصحف الصباحية خبرا يؤكد حجم تضحيتك.
(( ينتقل الكادر إلى المرأة أمام المحامي وهي تنثر الأوراق عاليا في فضاء المسرح مع ضجيج صراخ منبعث بشكل جماعي ))
المرأة: وتناثرت أوصالي عند رصيف الباعة المتجولين.. كان دمي يذعن لحفيف أقدام لزجة راحت تستجمع عظامي.. واحتشدت المرئيات لتوثق للعالم جريمتي..المراسلون يلعنون.. والساسة يبصقون والناس يبكون.. وأنت.. رأيتك ببدلتك البيضاء تنظر بابتسامة جيبك المتخم بالأتعاب.. أتراك تريد أتعابا بعد أن أيقظتني من موتي وكشفت عن قبري المجهول .
المحامي: (ويستجمع الأوراق) انتهت الجلسة…سأقول لهم أني أعدت فتح القبر بطلب قانوني ولم أجد غير بقايا امرأة من رماد..لا إبهام لها حتى تمضي في الأوراق وستقيد القضية ضد مجهول.
المرأة: هكذا أنتم..ما أن تهزمون حتى تقيدون هزائمك ضد مجهول حروب الردة.. النكسات.. الدومينو.. لعبة الغش والاختفاء صرت أعشق موتي.. لأنه يهبني حياة اسمي واجل من واقع يجمعني بكم ..ومادام الموت لغة لم تكتشف بعد.. لا ضير في أن أكون أول من يتعلم هذه الأبجدية (تعود إلى قبرها.. ويقوم المحامي بتوجيه الكاميرا تجاه الجمهور فتظهر صورة الجمهور في الشاشة الكبيرة)
المحامي: (محدثا الجمهور) استميحكم العذر.. لأني سأؤجل جميع قضاياي حتى إشعار آخر وحتى ذاك الوقت أطالبكم أن لا تغادروا قبوركم حتى تفتح بطلب قانوني..للنظر إلى أبهاماتكم.. ولكن من يجرؤ منكم ان يرفع إبهامه في وجهي (بتسم) .. لا أحد.
(( تظهر من بين الجمهور وتتجسم صورتها داخل الشاشة ذات المرأة وتتحدث إلى الجلاس))
المرأة: لا تثقوا به.. إنه يطاردني من قبر إلى آخر منذ انتهت أول جلسة إياكم أن تزودوه بعناوين قبوركم يا سادة.
(ستــــــــــــــــــــــــــــــار)