17 نوفمبر، 2024 11:35 ص
Search
Close this search box.

“سالم الدبّاغ”.. العالم مادة سوداء سلط عليه الضوء فأصبح مرئيا

“سالم الدبّاغ”.. العالم مادة سوداء سلط عليه الضوء فأصبح مرئيا

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“سالم الدباغ” رسام وفنان جرافيكي عراقي، من جيل الفنانين الذين أثروا تطوّر حركات الفن الحديث في العراق منذ منتصف الستينيات.

حياته..

ولد سنة 1941 ونشأ في الموصل، وقد أنمى ذلك لدى الدباغ حباً لتقاليد مسقط رأسه، حب تحوّل بسرعة إلى نشاط ثقافي. درس الدباغ من 1958 إلى 1961 في معهد الفنون الجميلة في بغداد، حيث تدرّب على أيدي فنانين عراقيين حداثيين​ مرموقين، منهم “جواد سليم وفائق حسن وإسماعيل الشيخلي وخالد الرحال”. بعد حصوله على شهادة الرسم من المعهد، تابع تحصيله الفني في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد من عام 1961 إلى 1965 حيث كان من أعضاء دفعة التخرج الأولى.

الفن..

كانت هذه الأكاديمية تضم فنانين حداثيين هما “رومان ارتموفسكي” من بولندا الذي كان يدرس الحفر والطباعة الفنية، و”بوركو لازسكي” من يوغوسلافيا، المعروف بلوحاته الجدارية. على الرغم من تدرّبه على التقنيات الفنية الكلاسيكية والواقعية البحتة، تجلت رغبة الدباغ وعدد من زملائه الطلاب في محاولات أولية جريئة لتجريب التراكيب شبه الهندسية والتجريد الفني.

مع تبنيه موقفاً جريئاً في مجال الإبداع والتجريب بأسلوب تجريدي، كان الدباغ أحد مؤسسي جماعة “المجددين” سنة 1965 وقد دشنها بمعرضه الأول الذي قدّم فيه عدداً من اللوحات التجريدية. إلى جانب الدباغ، تألفت جماعة المجددين من “علي طالب وصالح الجميعي وطالب مكي ونداء كاظم وفائق حسن وصبحي الجرجفجي وطاهر جميل”، شاركوا جميعهم في معرض جماعتهم الأول الذي أقيم في المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد. التحق في السنة التالية كل من “عامر العبيدي وخالد النائب وإبراهيم زاير” بجماعة المجددين وشاركوا بالمعرض الجماعي الثاني في جمعية الفنانين العراقيين في بغداد.

رداً على نكسة حزيران 1967، شاركت مجموعة المجددين في معرض جماعي للملصقات السياسية بعنوان “مقاومة”  وأعلنوا “انتفاضة” ضد ما أسموه بـ “التقاليد والمفاهيم القديمة”. كان هذا المعرض الأخير الذي نظمته الجماعة حيث أن معظم أعضائها سافروا بعد ذلك بقليل لمتابعة تحصيلهم في الخارج.

سنة 1966، نال الدباغ جائزة الشرف من معرض لايبزغ الدولي لفن الأكريليك، في ألمانيا. وفي 1967، كان من بين ثلاثة فنانين عراقيين، إلى جانب “هاشم سمرجي ورافع الناصري”، اختارتهم جمعية الفنانين العراقيين للحصول على منحة دراسية قدمتها مؤسسة غولبنكيان من أجل متابعة الدراسة في الجرافيك (الحفر)، في محترف غرافورا في لشبونة، البرتغال.

شارك الدباغ مع “رافع الناصري وهاشم سمرجي” في معرض جماعي للرسم سنة 1968 في لشبونة، البرتغال، وفي معارض أخرى لاحقاً في فن الجرافيك (الحفر) في 1971 و 1988. بعد عودتهم، أقام كل من هؤلاء الفنانين معرضاً فردياً ومعارض جماعية أخرى في هذا الفن، مسلطين الضوء على تركيبات حداثية في فن الحفر والطباعة الحجرية، وذلك في جمعية الفنانين العراقيين كما في بينالي لوبليانا في يوغوسلافيا سنة 1969. سجّل ذلك بدايات تطوّر فن الجرافيك في العراق وتزايد الاهتمام به في المنطقة مما مهد الطريق تدريجياً إلى المشاركة في معارض دولية لهذا الفن.

عمل “الدباغ” أستاذاً للفن والجرافيك وترأس قسم الجرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد من عام 1971 حتى 2000. عمل بعد ذلك كخبير فني في دار الأزياء العراقية، وسخر أوقاته للعمل في فنه داخل محترفه في بغداد.

لوحاته..

تصوّر لوحات الدباغ الكبيرة الحجم، سواء على لوح خشبي أو على قماش، جوهر الأشياء أكثر منه شكلها. توحي أعماله للوهلة الأولى بهيمنة الأسود والأبيض وبالتالي استخدامه للون الواحد كما عرف عنه، وقد صرّح الدباغ، بالفعل، بولعه بأفلام الأسود والأبيض أكثر من الملوّنة. لكن، عند التأمل المعمق في أعماله، يصبح ميله للتعبير التجريدي جليا. ولمعالجة الجوهر، يلجأ الدباغ إلى مجموعة متنوعة من المفردات الجمالية، مثل الظلال والأشكال والخطوط الرفيعة والتدرجات اللونية في الأسود والأبيض بشكل رئيسي، بالإضافة إلى الحجم. لكسر حدة التجانس الرتيب، تتيح لوحاته التضاد اللوني وهي تقنية تسعى إلى تعزيز الاحتفاء بالتواصلات والتقاطعات الداخلية. يظهر في بعض الأحيان شعاع صغير أخضر و/ أو أحمر اللون، لا شكل له، ويحتل المكان الأقل بروزاً أو الزاوية الأكثر غموضاً، في لوحاته الضخمة، بينما يشاهد في لوحات أخرى مكعب أو مربع أو مثلث، أو قد تجتاح بعض الخطوط السواداء مساحة بيضاء؛ ربما تسعى الكتل هذه لرواية تجربة حياتية، حزينة كانت أم سعيدة، أو قصة حول الخيام في مسقط رأسه. استمد الدباغ إلهامه كذلك من المجوهرات التقليدية في استخدامه لألوان الأخضر والأحمر المشرقة.

استمرارية الاختيار..

في مقالة بعنوان (استمرارية الاختيار عند الفنان سالم الدباغ) يقول “د.ماضي حسن نعمة”: “بعض الآراء تحكي بأن الفنان  سالم الدباغ قد غادر الألوان نحو لون موحد. في الحقيقة هو لم يغادر الألوان، وإنما غادر الألوان الحادة الرئيسة نحو الألوان الحيادية، أي أن الألوان الرئيسية الثلاث ألتي تشكل المثلث الهندسي والمتكونة من الأحمر + أصفر + أزرق، ليكونا نظام هندسي (مثلث) يعلو أحدهما في الأعلى (التقاء الخطين الرئيسين) ثم يليهما اللونين في يمين ويسار الخط الأفقي. وعندما نضع مثلث باتجاه معاكس للمثلث الأول يتشكل وينتج ثلاثة ألوان ثانوية تتوسطهما، وهكذا تستمر التدرجات اللونية نحو آفاق واسعة. تتدخل الألوان الحيادية (الأسود والأبيض) نحو تهدئة الألوان الحارة والباردة وتضيف لها التدرجات الهارمونية نحو عمق واسع من التأمل. ولذلك إذا تفردت الألوان الحيادية بمساحاتها، فإنها تأخذ أعماق واسعة من آفاق التدرج الفضائي، لذلك عندما نرى الأشياء والمكونات القريبة تزداد وضوح ألوانها الصريحة لتؤكد قربها من الناظر، وعندما تبتعد منظوريا نحو خط الأفق لدرجة التلاشي فإن الألوان تميل نحو الألوان الحيادية (الأبيض والأسود).

من ذلك نستنتج بأن اختيار الفنان سالم الدباغ  لهذا المناخ اللوني، هو ناجم عن رؤيا مرتبطة بخلاصة اندماج الألوان، مثل اندماج الألوان الضوئية السبعة للشمس بلون حيادي واحد هو الأبيض، كما اكتشف ذلك العالم الفيزيائي (نيوتن) ولو تمعنا بإبصار علمي لا يوجد لون أبيض يخلو من مداخلة الألوان الأخرى معه، ولا يوجد لون أسود لا توجد ألوان متداخلة معه. ولهذا لم تعد من ضمن الألوان الرئيسة، وإنما ضمن الألوان الحيادية. وعندما تطغى شكلانية هذه الألوان التي أختارها الدباغ على الجو العام للعمل، فإن الألوان ألتي يدخلها بحذق. . تثير الانتباه وتحرك الإثارة عند المشاهد”.

ويضيف: “تتميز أعمال سالم الدباغ الجرافيكية كما شاهدتها في تجربته في البرتغال، وهي دائما مطبوعة بالأبيض والأسود بسطوحها المرهفة عند استخدامه طريقة الحفر الجاف.ّ فخطوطه الحساسة جدا تميزه عن كثير من الحفارين العراقيين، وهي الخطوط التي تتشكل منها الدرجات. تميز سالم منذ بداية حياته الفنية بالتمرد على اللونية والسطوح المتنوعة، ما بين التناغم والتضاد الشديد“. تميز الأساليب التقليدية، وكان واحدا من أعضاء جماعة ”المجددين (Innovators) تأسست عام ١٩٦٥ التي يتميز أعضاؤها باستخدام التقنيات الحديثة، والأساليب التجريدية ذات المضامين الفكرية. إنه فنان مقتصد في تكويناته وألوانه إلى حد بعيد، جعله يتمسك بالأساليب التجريدية ذات البعد الرمزي، وكان من أوائل الفنانين العراقيين الذين تدربوا على فنون الحفر والطباعة printmaking.

وبرغم قلة إنتاجه لأعمال الحفر، فإن بصمات هذا الفن واضحة على أعماله الزيتية. يقول سالم الدباغ في رسالة شخصية: “إنه في طفولته لم يكن يهتم بالرسم، ولكن إنجذاب إلى هذا العالم الكبير من خلال صور لأعمال ”فان كوخ“، شاهدها عن طريق الصدفة، فأستوقفه بسحرها، ويقول سالم إنه كان صبيا في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة، حين أصبح ”فان كوخ ” معلمه الأول، ودفعه هذا العشق الكبير إلى مسار جديد لا يعرف إلى أين سيقوده. كان سالم مقيما في مدينة الموصل حين قرر دراسة الفن، فالتحق بمعهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٥٨ وهو الصرح التعليمي الوحيد للفنون آنذاك. وبعد أن أنهى دراسته في المعهد التحق بأكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد فتحت أبوابها للدراسة عام ١٩٦٢ ليصبح من طلاب دورتها الأولى”.

من أقطاب الفن..

في مقالة بعنوان (الفنان سالم الدباغ من أقطاب الفن العراقي المعاصر) كتب “د. كاظم شمهود”: ” سالم الدباغ واحد من الفنانين الذين استخدموا اللون الأسود بشكل واسع حيث شكلت المربعات والمستطيلات والمثلثات عناصر رئيسية في سطح لوحاته إلى جانب الفضاء الواسع الأبيض. ولم نجد فيها بارزا غير اللونين الأسود والأبيض. مع بعض الأشكال الرمزية الغامضة وكأنها أشكال إنسان معلق مثل لوحتيه “سقوط في الفضاء” و”شخصان داخل مربع” كذلك استخدم الدباغ في تقنياته الكولاج ومواد أخرى متنوعة ومختلفة. وتشعر عند النظر إليها بالحدية واليبوس والحزن”.

ويضيف: “في عام 1969 حصل الدباغ على منحة دراسية من مؤسسة كولبنكيان لدراسة الحفر في لشبونة  البرتغال  وعادة ما يستخدم اللون الأسود في الحفر بشكل رئيسي مثل حفريات غويا السوداء التي تسمى النزوات، وهنا وجد الدباغ ضالته وما كان يبحث عنه في بلاد الغرب فعمق تجربته ونورها برؤية فلسفية على اعتبار أن العالم من وجهة نظره في أصله مادة سوداء ثم سلط عليه الضوء فأصبح مرئيا”.

وفاته..

توفي في 5 نوفمبر- كانون الأول 2022 الفنان “سالم الدباغ”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة