15 نوفمبر، 2024 11:35 ص
Search
Close this search box.

  رسائل جبران لمي زيادة.. للعشق شعلة زرقاء لا تنطفئ

  رسائل جبران لمي زيادة.. للعشق شعلة زرقاء لا تنطفئ

خاص: قراءة- سماح عادل

لرسائل الغرام سحر خاص، رغم مرور السنوات عليها، ورحيل العاشقين الذين تبادلونها إلا أن الرسائل تقف شاهدة على عشق مشتعل، على لحظات نورانية اندمج فيها قلبين وروحين، لازالت لرسائل الغرام جاذبية خاصة، تخطف بها أذهان الناس، لذا سوف نعرض هنا لرسائل الكاتب اللبناني الشهير “جبران خليل جبران” للكاتبة اللبنانية “مي زيادة” والذي يضمها كتاب (الشعلة الزرقاء.. رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة) تحقيق وتقديم: “سلمى حفار الكزبري” و “الدكتور سهيل ب.بشروئي”.

أول رسالة في الكتاب مؤرخة ب “نيويورك 24 كانون الثاني 1919” يقول فيها جبران: “حضرة الأديبة الفاضلة الآنسة ماري زيادة المحترمة.. سلام على روحك الطيبة الجميلة. وبعد فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التي تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقالاتك الواحدة أثر الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد. إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك وملحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب” ويبدو أن البداية كانت بإرسال “مي” مقالاتها له وإعجابه بإنتاجها الفكري.

بداية البوح..

وفي رسالة بتاريخ “نيويورك في 7 شباط 1919” كتب جبران: “عزيزتي الآنسة مي.. هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة, وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولدتها ووقفت في قدس الأقداس، فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذت بلدي بلداً لها وقومي قوماً لها, هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في إذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ” ويتضح هنا بداية البوح بالانجذاب تجاهها ويضيف في نفس الرسالة: ” لتعش ميّ طويلا فهي ذات مزاج فني لا غش فيه.. سأنظم قصيدة في ابتسامة ميّ ولو كان لدي صورتها مبتسمة لفعلت اليوم, ولكن عليّ أن أزور مصر لأرى ميّ وابتسامتها” وينهي الرسال ب” والسلام على روحك الجميلة ووجدانك النبيل وقلبك الكبير”.

عذوبة وتعنيف..

وفي رسالة بتاريخ “نيويورك 11 حزيران – 1919” يقول جبران: “عزيزتي الآنسة ميّ.. لقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف– أقول التعنيف لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها. ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم؟ وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر؟ إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة, فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلف ميل تفصلنا ألا نضيف متراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة، بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد . يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب.. إذا فلنضع خلافتنا, وأكثرها لفظية– في صندوق من ذهب ولنرمي بها إلى بحر من الابتسامات. ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها, فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي. إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل “. ويبدو أن مي كانت تخالفه في أمور تخص كتاباته الأدبية.

ذاتك الأثيرية..

وفي رسالة أخرى: “نيويورك 25 تموز 1919.. عزيزتي الآنسة ميّ.. منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري. ولقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بكِ مخاطباً إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسراركِ. والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في أعمالي. أنت بالطبع تستغربين هذا الكلام، وأنا أستغرب حاجتي واضطراري إلى كتابته إليك. وحبذا لو كان بإمكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة.. في الآونة الأخيرة قد تحقق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى، فهي أشد وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والجينية حتى والخلقية.. قد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي ولا يجمعهما الحاضر – وقد لا يجمعهما المستقبل.. وفي هذه الرابطة يا ميّ, في هذه العاطفة النفسية، في هذا التفاهم الخفي، أحلم أغرب وأعجب من كل ما يتمايل في القلب البشري.. وفي هذا التفاهم يا “ميّ” أغنية عميقة هادئة نسمعها في سكينة الليل فتنتقل بنا إلى ما وراء الليل، إلى ما وراء النهار، إلى ما وراء الزمن، إلى ما وراء الأبدية.. وفي هذه العاطفة يا ميّ غصّات أليمة لا تزول ولكنها عزيزة لدينا ولو استطعنا لما أبدلناها بكل ما نعرفه ونتخيله من الملذات والأمجاد… فإن كنت قد أبنت سراً معروفاً لديك كنت من أولئك الذين قد حبتهم الحياة. وإن كنت قد أبنت أمراً خاصاً بي وحدي فلكِ أن تطعمي النار هذه الرسالة”.

النشيد الغنائي..

وفي رسالة تالية: “نيويورك 28 كانون الثاني 1920.. عزيزتي الآنسة مي.. تريدين أن تعلمي بالضبط معنى ندامتي وما وراء طلبي المغفرة منك من الأسرار النفسية. وإليك بالضبط ما كان وسيكون وراء تلك الندامة وتلك المعاني وتلك الأسرار وتلك النفسيات.. لم أندم على كتابة تلك الرسالة المعروفة لديك “بالنشيد الغنائي”- ولن أندم.. لم أندم على أصغر حرف فيها ولا على أكبر نقطة فيها- ولن أندم..لم أكن في ضلال لذلك لم أر داعياً للاهتداء.. وكيف يا ترى أندم على أمر موجود الآن في نفسي مثلما كان موجوداً إذ ذاك؟” وبالاستنتاج يبدو أن “مي” قد قابلت بوح “جبران” بالرفض، بل وقست عليه بوصفها لمشاعره وعاطفته ب”النشيد الغنائي” لكنه رغم ذلك يؤكد لها في رسالته هذه أنه لم يندم على البوح.

وفي رسالة بتاريخ “نيويورك 3 تشرين الثاني 1920” نقرأ: “يا صديقتي يا مي.. لم يكن سكوتي في الآونة الأخيرة سوى الحيرة والالتباس ولقد جلست مرات بين حيرتي والتباسي في هذا لأحدثك وأعاتبك ولكنني لم أجد ما أقوله لك. لم أجد ما أقوله يا مي لأنني كنت أشعر بأنك لم تتركي سبيلً للكلام. ولأنني أحسست بأنك تريدين قطع تلك السلك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح و روح. جلست مرات في هذه الغرفة ونظرت طويلاً إلى وجهك ولكنني لم أتلفظ بكلمة. أما أنت فكنت تحدقين بي وتهزين رأسك وتبتسمين ابتسامة من يجد لذة في تلبك وتشويش جليسه. من سكوتي ومخجول من ألمي ومخجول من الكبرياء التي جعلتني أضع أصابعي على شفتي وأصمت. كنت بالأمس أحسبك “المذنبة” أما اليوم وقد رأيت حلمك وعطفك يتعانقان كملكين فقد صرت أحسب نفسي المذنب.. ولكن اسمعي يا صديقتي فأخبرك عن أسباب سكوتي وألمي: تقولين لي “يجب عليك أن تكون سعيداً مقتنعاً لأنك فنّي وشاعر” ولكن يا مي أنا لست بفني ولا بشاعر. قد صرفت أيامي وليالي مصوراً وكاتباً ولكن “أنا” لست في أيامي ولياليّ. أنا ضباب يا مي. أنا ضباب وفي الضباب وحدتي وفيه وحشتي وانفرادي وفيه جوعي وعطشي. ومصيبتي أن هذا الضباب وهو حقيقي, يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء. يشوق إلى استماع قائل يقول ” لست وحدك, نحن اثنان, أنا أعرف من أنت” اخبريني, اخبريني يا صديقتي, أيوجد في هذا العالم من يقدر ويريد أن يقول لي “أنا ضباب آخر أيها الضباب, فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية. تعال نسير بين الأشجار وفوقها, تعال نغمر الصخور المتعالية.. أنت يا مي صوت صارخ في البرية. أنت صوت رباني, والأصوات الربانية تبقى متموجة في الغلاف الأثيري حتى نهاية الزمن”. ويتضح انه امتنع فترة عن مراسلتها لأنه كره نكرانها لعاطفته نحوها.

طفلته..

وفي رسالة أخرى: “بوسطن 11 كانون الثاني 1921.. يا ميّ.. أنا بعيد عن “الوادي” يا مي. جئت هذه المدينة – بوسطن – منذ عشرة أيام لعمل تصويري, ولو لم يبعثوا إليّ ببقجة من الرسائل الواردة إلى عنواني في نيويورك لعشت عشرة أيام أخرى بدون رسائلك, هذه الرسائل التي حلت ألف عقدة في حبل روحي, وحولت الانتظار, وهو صحراء, إلى حدائق وبساتين. الانتظار حوافر الزمن يا ميّ, وأنا دائما في حالة الانتظار. وأنت تريدين كلمة “نشيد غنائي” أن تحفر في قلبي! تريدينها أن تنتقم لك من هذا الكيان الخافت الذي يحملني وأحمله. لندعها تحفر وتحفر وتحفر, بل لننادي جميع الأناشيد الغنائية الهاجعة في الأثير, ولنأمرها أن تنتشر في هذه البلد الواسعة لتحفر الترعات, وتمد السبل وتبني القصور والأبراج والهياكل, وتحول الوعر إلى حدائق وكروم، وفي الوقت نفسه أنت ابنة صغيرة في السابعة تضحك في نور الشمس و تركض وراء الفراشة وتجني الأزهار وتقفز فوق السواقي. وليس في الحياة شيء ألذ وأطيب لديّ من الركض خلف هذه الصغيرة الحلوة والقبض عليها ثم حملها على منكبي ثم الرجوع بها إلى البيت لقص عليها الحكايات العجيبة الغريبة حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً”. في هذه الرسالة يسخر “جبران”  من وصف “النشيد الغنائي” الذي وصفت به “مي” مشاعره وربما ظل عالقا بذهنه طويلا، كما تخيلها طفلته يداعبها ويهدهدها ويحكي لها حكايا قبل النوم.

يتخيلها..

ويتخيلها “جبران” في صورة أقرب إلى حلم اليقظة في رسالة: “نيويورك مساء السبت 21 أيار 1921.. يا مي يا صديقتي.. حبذا لو كنت الساعة في مصر. حبذا لو كنت في بلدي قريباً ممن تحبهم نفسي. أتعلمين يا مي أنني في كل يوم أتخيل ذاتي في منزل في ضواحي مدينة شرقية وأرى صديقتي جالسة قبالتي تقرأ في آخر مقالة من مقالتها التي لم تنشر بعد, فنتحدث طويلاً في موضوعها ثم نتفق على أنها أحسن ما كتبته حتى الآن. وبعد ذلك أنتشل من بين مساند فراشي بعض الوراق وأقرأ قطعة كتبتها أثناء الليلة الغابرة فتستحسنها صديقتي قليلً ثم تقول في سرها “يجب ألا يكتب وهو في هذه الحالة. إن تراكيب هذه القطعة تدل على الضعف والوهن والتشويش- عليه ألا يأتي بعمل فكري حتى يتعافى تماماً”- تقول صديقتي هذا في سرها وأنا أسمعه في سري فأقتنع بعض الاقتناع ثم لا ألبث أن أقول بصوت عالٍ ” أمهليني قليلً, أمهليني أسبوعاً أو أسبوعين فأتلو عليك قطعة جميلةً, جميلة للغاية”. فتجيبينني بصراحة ” يجب أن تمتنع عن الكتابة والتصوير وكل عمل آخر عاماً أو عامين, وإن لم تمتنع فأنا عليك من الساخطين!” – تلفظ صديقتي كلمة “الساخطين” بلهجة ملؤها “الاستبداد المطلق” ثم تبتسم كالملائكة فأحتار دقيقة بين سخطها وابتسامها, ثم أجدني فرحاً بسخطها وابتسامها- وفرحاً بحيرتي”.

المبارزة العقلية..

وعن سعيها إلى تحديه عقليا، ومبارزته، وخصامه يقول “جبران” في رسالة مبينا أن الخصام بينهما يقتصر على المناقشة الفكرية، ولا يمتد إلى العاطفة بينهما: “نيويورك 5 تشرين الأول 1923.. لا يا مي, ليس التوتر في اجتماعاتنا الضبابية بل في اجتماعاتنا الكلامية. ما لاقيتكِ في ذلك الحقل البعيد الهادئ إلا وجدتك الصبية العذبة العطوفة التي تشعر بكل الأشياء وتعرف كل الأشياء وتنظر إلى الحياة بنور الله وتغمر الحياة بنور روحها. لكن ما اجتمعنا بين سواد الحبر وبياض الورق إلا رأيتكِ ورأيتني أرغب الناس في الخصام والمبارزة – المبارزة العقلية المفعمة بالقياسات المحدودة والنتائج المحدودة. الله يسامحكِ. لقد سلبتني راحة قلبي, ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني. من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا.. يجب ألا نتعاتب, يجب أن نتفاهم. ولا نستطيع التفاهم إلا إذا تحدثنا ببساطة الأطفال. ” أنت تحيين فيّ وأنا أحيا فيكِ, أنتِ تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك”. أليست هذه الكلمات القليلة أفضل بما لا يقاس من كل ما قلناه في الماضي؟ ماذا يا ترى كان يمنعنا عن التلفظ بهذه الكلمات في العام الغابر؟ أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية أم ماذا؟ منذ البدء عرفنا هذه الحقيقة الأولية فلماذا لم نظهرها بصراحة المؤمنين المخلصين المتجردين؟ لو فعلنا لكنا أنقذنا نفسينا من الشكوى الألم والندم والسخط والمعاكسات, المعاكسات, المعاكسات التي تحول عسل القلب إلى مرارة وخبز القلب إلى تراب. الله يسامحك ويسامحني”..

ويستعيد “جبران” حبهما منذ من البداية: “لما كتبت إليك في البداية كانت رسالتي دليلً على ثقتي بك, لما جاوبتني كان جوابك دليلً على الشك. كتبت إليك مضطراً فأجبتني متحذرة. حدثتك عن حقيقة غريبة فأجبتني بكل لطف قائلة “عافاك يا شاطر, ما أحسن قصائدك الغنائية”. أنا أعلم جيداً أنني لم أتبع إذ ذاك السبل المألوفة.. وأنا أعلم أن تحذرك كان من الأمور المنتظرة, والغريب أنني لم أندم بعد ذلك. بل بقيت متمسكاً بحقيقتي راغباً في إظهارها لكِ, فكتبت إليكِ مرات عديدة وكنت أحصل بعد كل مرة على الجواب اللطيف, ولكن من غير ميّ التي أعرفها. كنت أحصل على الجواب اللطيف من كاتمة أسرار ميّ , وكنت أحصل على الجواب نعم كنت أحصل على الجواب ولكن ليس من تلك التي “أحيا فيها وتحيا فيّ ” بل من امرأة متحذرة متشائمة تأخذ وتعطي معي كأنها المدّعي العمومي وكأنني المُدّعى عليه.. وهل أنا ناقم عليكِ؟ كلا , لكنني ناقم على كاتمة أسراركِ.. وهل حكمت عليك حكماً عادلًا أم غير عادل؟ كلا, لم أحكم أبداً. إن قلبي لا ولن يسمح بإيقافك أمام منصة القضاء”.

الحب..

وفي هذه الرسالة يصرح “جبران” بكلمة الحب، وكأنه كان عليه أن ينتظر تلك السنوات: “نيويورك بين 1 و 3 كانون الأول 1923.. أحبّ صغيرتي, غير أنني لا أدري بعقلي لماذا أحبها, ولا أريد أن أدري بعقلي. يكفي أنني أحبها. يكفي أنني أحبها بروحي وقلبي, يكفي أنني أسند رأسي إلى كتفها كئيباً غريباً مستوحداً فرحاً مدهوشاً مجذوباً, يكفي أن أسير إلى جانبها نحو قمة الجبل وأن أقول لها بين الآونة والأخرى “أنتِ رفيقتي, أنتِ رفيقتي”.

لكن “مي” رغم ذلك ما زالت تقاوم، مازالت تخاف وكأن كلمة “الحب” أفزعتها فيقول لها في الرسالة التالية: ” نيويورك 26 شباط 19.. تقولين لي أنك تخافين الحب. لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لما يا ترى تخافين الحب؟.. أنا أعلم أن القليل في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري أن في الإرادة الحصول، لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.. اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب. ولقد ولدتْ هذه الرغائب عندما ولدتُ. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار، وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرّين طليقين نحو قمة الجبل؟.. والآن قربي جبهتكِ. قربي جبهتك الحلوة. والله يبارككِ والله يحرسكِ يا رفيقة قلبي الحبيبة”.

وفي عذوبة يستمر “جبران ” في البوح بمشاعره نحوها: “نيويورك 9 كانون الأول 1925.. أفكر فيك يا ماري كل يوم وكل ليلة، أفكر فيك دائماً وفي كل فكر شيء من اللذة وشيء من الألم. والغريب أنني ما فكرت فيك يا مريم إلا وقلت لك في سري “تعالي واسكبي جميع همومك هنا، هنا على صدري” وفي بعض الأحيان أناديك بأسماء لا يعرف معناها غير الآباء المحبين والأمهات الحنونات.. وها أني أضع قبلة في راحة يمينكِ، وقبلة ثانية في راحة شمالكِ، طالباً من الله أن يحرسك ويبارككِ ويملأ قلبكِ بأنواره، وأن يبقيكِ أحب الناس إلى”.

ويبقى فضولي كقارئة لمعرفة لما لم تتحقق تلك العلاقة الملائكية، ولما لم يعش ” جبران و”مي” حبهما في الواقع، هل بسبب خوف “مي” من الحب  أم أن هناك أسباب أخرى.

مع ملاحظة أن نشر رسائل العشاق تعد انتهاكا لخصوصيتهم، لأنهم وقت أن كتبوها لم يرغبوا أو يتخيلوا أنها ستقرأ على الملأ، وأن البوح بمشاعرهم سيكون متاحا للجميع، وأن لحظات ضعفهم وقوتهم وعشقهم سوف تتفحصها العيون الفضولية.

وملاحظة أن الكتاب لم ترد فيه أية تفاصيل تخص التعريف بالكاتبين أو أيه معلومات تاريخية عنهم تسهل على القارئ فهم ما هو مكتوب بالرسائل.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة