خاص: قراءة- سماح عادل
في دراسة بعنوان (من البيت إلى موقع العمل: دراسة عن ظروف العمالة النسائية) للكاتبة المصرية “هالة شكر الله”، والتي نشرت في كتاب (النساء والعمل)، في دورية “طيبة” التي تصدر عن “مؤسسة المرأة الجديدة” يتضح تدهور حالة العمالة النسائية في مصر منذ منتصف السبعينات وحتى وقت صدور الدراسة.
مشاركة النساء في قوة العمل..
تؤكد الدراسة على أنه بالرغم من انخفاض نسبة مشاركة المرأة، بوجه عام، في قوة العمل الرسمية في مصر، % 10 فقط سنة 1986 إحصاء السكان والسكان 1976- 1986، كان هناك ارتفاع ملحوظ في نسبة النساء اللائي دخلن سوق العمل في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث تشير البيانات إلى أنه بالرغم من أن نسبة دخول المرأة إلى سوق العمل في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، لم تزد على % 3 فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 17% وإلى % 18.5 سنة 1994، وقد تزايد هذا الاتجاه مع استمرار المرأة في البحث عن العمل خارج البيت، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي لم تؤدي فقط إلى ارتفاع نسبة البطالة، ولكنها ساهمت وبقوة، في تقليل دور الرجل كعائل داخل الأسرة، وقد ترك انحسار هذا الدور، والذي كان حجر الزاوية الأساسي الذي قامت عليه العلاقة بين الجنسين لقرون طويلة، الكثير من النساء بدون العائل المالي القديم، حيث ظل الرجال ينتظرون فرصة الحصول على عمل، أو ذهبوا إلى أراض بعيدة بحثا عن فرص أفضل.
ويشهد على سيادة هذا الاتجاه في دول العالم الثالث، تزايد عدد الأسر التي تقوم المرأة على رعاية شئونها في جميع أنحاء العالم، والتي وصل عددها إلى % 30 من إجمالي عدد الأسر، ونرى هذه الصورة في مصر أيضا، حيث أظهرت الدراسات التي أجريت مؤخرا، أن نسبة الأسر التي تعولها النساء وحدهن، قد وصلت إلى 25% ، على أن تولى المرأة مسئولية الأسرة وحدها ليس هو السبب الوحيد لزيادة مشاركتها في سوق العمل، حيث إنه بات من المعترف به الآن أن تدهور ظروف المعيشة أدى إلى عدم قدرة ثلثى الأسر المصرية الآن على الاستمرار اعتمادا على مصدر واحد للدخل فحدا بها ذلك، وبشكل متزايد، إلى استغلال كل أعضاء الأسرة، في محاولة منها للوفاء ببعض الحاجات الأساسية.
إن العديد من تلك الاحتياجات الأساسية، سواء أكانت غذائية أم طبية، أم تعليمية، إلخ، وجب الاستغناء عنها نتيجة الانخفاض الهائل في المرتبات مقارنة بارتفاع الأسعار. لذلك، فبالرغم من اعترافنا بأن حجم مشاركة المرأة في سوق العمل أصبح اتجاه متناميا، فمن الأهمية بمكان أن نقيم تأثير هذا الدور المتنامي على ظروف عمل المرأة، وعلى العلاقات بين الجنسين في المجتمع.
تأثير مشاركة المرأة في العمل..
دافعت العديد من الدراسات عن التأثير الايجابي لازدياد مشاركة المرأة في سوق العمل على العلاقات بين الجنسين، بينما ذهب البعض الآخر إلى أن هيمنة الخطاب الديني المحافظ قد يؤدى في نهاية المطاف إلى انخفاض نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، بينما تؤكد الدراسة أنه نظرا لأن ازدياد مشاركة المرأة في سوق العمل لم ينشأ عن تحسن في سياسات النوع الاجتماعي أو عن المساواة في علاقات النوع الاجتماعي، ولكنه نشأ بسبب أزمة اقتصادية متزايدة الوطأة، إن ذلك تم في ظروف غير مواتية تماما، شكلت هذه الظروف عدد من العوامل التي تفاعلت مع سياسات الدولة، والخطابات المهيمنة، والسوق، لتجعل من النساء قوة عمل قابلة للاستغلال بشكل كبير، وحتى نستطيع فهم هذه المعضلة، لابد أن ننظر عن قرب إلى العلاقة الدينامكية بين ازدياد عمل المرأة بأجر والظروف المتزايدة سوء التي تبيع فيها المرأة جهدها.
دفعت هذه الأزمة الاقتصادية، المتزايدة حدة، أعدادا متزايدة من النساء خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى الخروج إلى سوق العمل، كما ضغطت بدورها على بنية الأسرة الأبوية التقليدية، وأدت، في مواطن عديدة، إلى انهيارها وإلى تآكل قاعدتها المادية، وأطلق هذا الانهيار رد فعل أبوي عنيف استهدف النساء في المجتمع، على وجه الخصوص، من أجل منع أي تغيير في علاقات القوى القائمة بين الجنسين، وأعاد ترسيخ المعايير التقليدية، سواء في الحيز الخاص أو العام. وهذه المعايير تقيم المرأة على أساس دورها التقليدي فقط، كأم أو زوجة، وتبخسها قيمتها وتحارب أي وجود لها خارج هذين الدورين.
ومن ناحية أخرى، فبينما ساد، في السوق، الأسلوب نفسه في تقليل قيمة عمل المرأة، استغل هذا التقزيم اقتصاديا ليحقق المزيد من الأرباح، بل ونستطيع أن نقول باطمئنان أن أجر المرأة في بعض قطاعات الصناعة كان مصدر أرباح هائلة للرأسمالية العالمية، خاصة عندما يعهد إليها بأداء العمل في بعض الصناعات في دول من العالم الثالث، حيث ما تزال علاقات القوى القديمة هذه سائدة، منذ أن انتقلت السيطرة الأبوية، عمليا من داخل محيط الأسرة إلى بقية المجتمع، وبالرغم من أن ذلك تم في غياب أي شكل تقليدي للحماية و/أو المقاومة، أصبحت المرأة في مواجهة قوى قمعية متعددة ومتضاربة فهناك من ناحية، الاستغلال الاقتصادي والاتهام الاجتماعي لدورها في النشاط العام، والذي اجتمع فيه غياب أي حماية قانونية أو مؤسسية، مما دفعها إلى العودة إلى البيت.
بينما هناك من ناحية أخرى، الأزمة الاقتصادية وغياب دعم الرجل، وتآكل الأسرة، وكلها عوامل تدفعها إلى الخروج من البيت، لقد تحالفت قوى السوق الحرة، مع الإيديولوجية الأبوية التي تعادى مجرد خروج المرأة للعمل، ودول تلك السوق تجسد الإيديولوجيتين كي تحرم المرأة من أي شكل من أشكال الحماية، وكي تحرم المرأة من أي بديل أيديولوجي أو/ وحماية اجتماعية، لتخلق جميعا دائرة من القمع أصبح كسرها شبه مستحيل. لذلك، فعمل المرأة، بالرغم من أنه يمكن أن يحررها، حيث يضعف قبضة السيطرة الأبوية الأسرية عليها، ويمكنها من الدخول إلى مجال التفاعل الاجتماعي الواسع الذي يمكن أن يتحدى تلك المعايير، إلا أن تأثيره قد يكون محدود لو لم تعمد المؤسسات التي تهيمن على مجال العمل العام إلى التوجه إلى تقليل الآثار السلبية للمعايير القائمة.
تغير السياسات في الدولة..
منذ منتصف السبعينيات بدأت الاتجاهات العامة، في التوظيف في مصر، في التغير، مع تطبيق سياسة الانفتاح التي بدأ تنفيذها سنة 1975، مع إبرام اتفاقية مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكان من بين أكبر آثارها تغير سياسة الحكومة للتوظيف في المجتمع، والتي كانت تضمن، منذ الستينيات، توظيف كل خريجي التعليم المتوسط والعالي. وكان التعليم، بما إنه مجاني في كل مراحله بما فيها الجامعي، يشكل مسارا مضمونا نحو تأمين الوظيفة، أن توظيف المرأة ظل منخفض نسبيا لو استثنينا عملها الزراعي، والذي استمر محسوب كامتداد للعمل الأسري، وإلى جانب سياسة العمل التي كانت توفر تأمين الوظيفة والمكاسب الاجتماعية، مالت الخريجات إلى الالتحاق بالعمل الحكومي، فأصبح لهن الأغلبية في هذا القطاع بوجه عام، لو استثنينا القطاع الزراعي، وهو ما يعنى أن الحكومة كانت أكبر صاحب عمل للنساء في تلك الفترة، وفى عام 1981 ألغت الحكومة العمل بسياسة تأمين الوظيفة للخريجين، فأصبح على الخريجين ذكورا وإناثا على حد سواء، أن يتجهوا إلى سوق العمل.
ومع تزايد بطالة الرجال من ناحية، واتساع هجرة العمالة من ناحية أخرى، زادت نسبة توظف المرأة، بين سن 15 و 64 سنة، أكثر من الضعف بين عامي 1981 و 2002، حيث ارتفع العدد الإجمالي من 917000 سنة 1981 إلى نحو 4.3 مليون سنة 2002، أي أن معدل النمو الإجمالي بلغ نحو % 7.4 ، وتشي هذه الأرقام بأن حجم مشاركة المرأة في سوق العمل ارتفعت خلال حقبة الثمانينيات من القرن العشرين من % 10 إلى % 22 وبات من المعروف أن المناطق الريفية هي المسئولة عن معظم الزيادة الملحوظة في أعداد النساء الداخلات إلى سوق العمل، أي أن النمو كانت نسبته % 11.4 في المناطق الريفية مقارنة ب % 5.2 في المناطق الحضرية.
إلا أنه بالرغم من النمو السريع في نسبة عمل المرأة، إلا أن نسبة بطالتها أصبحت مرتفعة أيضا، مما يشير إلى أن سوق العمل أصبح غير قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من النساء اللاتي تدخلنه.
الدولة ترسخ قهر النساء..
ترسخ الدولة في تفاعلها مع المجتمع نموذج معينا، من خلال إضفاء المشروعية عليه ومكافأته، من خلال سياساتها في التوزيع، كما تنظر الدولة للمرأة، بوجه عام، على أنها اعتمادية وغير نشطة اقتصاديا، بينما ينظر للرجل على أنه عامل ناشط اقتصاديا، إن التعريف الذي نجده في مبادئ الأسرة، يفرض نوعا معينا من الأسر تركز عليه الدولة في علاقتها الإدارية مع مواطنيها، وهو ما يترك الأرامل والمطلقات، أي النساء اللاتى قد لا يكون لديهن سند اقتصادي، خارج التعريف، أي خارج رعاية الدولة، وبالإضافة إلى ذلك فإن مساهمة المرأة الاقتصادية ماتزال غير معترف بها ويساء تقديرها، بوجه عام، من قبل الدولة، ولذلك فإن عدم الاعتراف بمساهمة النساء الاقتصادية، بل ووجودهن نفسه، غير معترف به من قبل الدولة إلى حد يبتعد تماما عن الموضوعية في الوقت نفسه، تضعف الدولة حقوق المرأة داخل رابطة الزواج من خلل إنفاذها للمبدأ الديني في الأسرة الذي يحافظ على الحق التقليدي للرجل في فض رباط الزوجية.
البيئة التشريعية..
تدهورت البيئة التشريعية الخاصة بالعمل بوجه عام، وبعمل المرأة على وجه الخصوص، بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، فمع استيلاء القطاع الخاص على معظم الأنشطة الاقتصادية من القطاع العام، تم تعديل قانون العمل السابق “القانون 48” الذي كان يضمن الحقوق المهمة للعمال وفى ظل القانون المعدل، تم الحد من كثير من الحقوق السابقة التي كانت تحمى حقوق المرأة الإنجابية، وأقر القانون الجديد الكثير مما كان في قانون القطاع الخاص، فيما يتعلق بالحق في فصل المرأة التي تحمل خلال فترة ما بين ستة وثمانية أشهر من تعيينها، وهكذا أوقع بالمرأة بين شقي رحى القيم الاجتماعية التي تعاقبها إن لم تقم بدورها الإنجابي.
إن حاجة المرأة المتزايدة للعمل بأجر، في مصر كما في بقاع أخرى حول العالم أيضا، إضافة إلى المعايير القائمة التي تحد من اختياراتها وتوليها قيمة ووضع أدنى، لم تمتد فقط إلى كل جوانب حياتها وهى تكافح للقيام بأدوارها المستمرة في الاتساع، ولكنها جعلت منها أيضا مصدرا واسعا للعمالة الرخيصة والمرنة.
وأخيرا توصلت الدراسة إلى نتيجة أنه بسبب مختلف الآليات التي تهيمن على العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل، أصبحت المرأة أحد أكبر موارد العمالة الرخيصة، والمرنة، والمؤقتة، وذلك في ظل حقوق قانونية محدودة للغاية، كما أصبحت عرضة لمختلف أشكال الاستغلال والتمييز في موقع العمل. وهكذا أصبحت هناك قابلية أكبر لاستيعاب المرأة في مجالات العمل التي تفتقر إلى آليات حماية والتي يسهل فيها، بشكل أكثر، استغلالها. والمرأة التي تخرج عن دورها التقليدي تتعرض، ليس فقط لاستغلال الاقتصادي، ولكن أيضا إلى الحد من قدرتها عن طريق التحرش الجنسي في الأماكن العامة ومواقع العمل على حد سواء. ولم يؤد ذلك فقط إلى الحفاظ على السلطة والرقابة الأبوية على المرأة وترسيخها، ولكنه ساهم أيضا في خلق سوق عمل قائم على التمييز بين الجنسين.