7 أبريل، 2024 1:15 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. عبد الكريم العبيدي: لكل سارد روايته الكبرى في أعماقه

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: حاورته- سماح عادل

“عبد الكريم العبيدي”، كاتب وروائي عراقي، مسئول الصفحة الثقافية بجريدة (طريق الشعب)، صدرت له روايات: (الضياع في حفر الباطن- الذباب والزمرد- كم أكره القرن العشرين) ومجموعة قصصية (ثمانية أعوام في باصورا). فاز بجائزة “كتارا” للرواية العربية 2018، عن روايته (اللحية الأمريكية – معزوفة سقوط بغداد) والتي اقتنصت جائزة كتارا من بين “596” رواية مشاركة.

إلى الحوار:

(كتابات) مع عودتك إلى وطنك العراق متوجا بجائزة “كتارا” للرواية العربية 2018. هل لنا أن نتعرف على “كتارا” وما أضافته لك وعلى روايتك الفائزة؟

• بداية اسم الرواية (اللحية الأمريكية.. معزوفة سقوط بغداد” وهي روايتي الرابعة، وتخوض في أخطر راهن دموي مر به العراق في العصر الحديث، وقد حظيت بالفوز بجائزة كتارا للرواية العربية 2018 – فئة الروايات غير المنشورة.

أظن أن هذه الجائزة تمكنت من تحديد الحقل الدلالي الإبداعي لي كروائي، وجعلتني أتلذذ باكتشافها مساحة الإبداع لروايتي الفائزة، وجعلتني أحتفي به.. هذا التحفيز المبهر مكنني من التحقق من التقاط إشارات الإبداع من الطرف الآخر – الخارج دائماً – واستكشاف تميزه وجودته، وفق آليات لجان متخصصة اتسم أعضاؤها المنتخبون بالحيادية.. مؤكد، ستزداد سعادتي حينما أشهد حفل توقيع روايتي في العاصمة القطرية الدوحة في العام القادم بعد طباعتها ونشرها وترجمتها إلى اللغتين الانكليزية والفرنسية والإشراف على تسويقها وإطلاقها نحو العالمية.

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف طورته؟

• الروائي، شأنه شأن الشاعر والتشكيلي والموسيقي، لا يصل إلى الإبداع بذات آلية الطبيب أو المهندس، هناك مكنونات فطرية بحته تطفح على سلوكه مبكرا وترسل إشارات واضحة له ولمن حوله، ربما تبدأ بمظهر فني مغاير، كأن يرسم أولاً، أو يعزف على آلة، أو يمارس الصحافة، وحالما تختمر موهبته الحقيقية تظهر بجلاء، ومن هنا تبدأ رحلة التطوير والصقل والنمو والرعاية، وكل هذه المؤثرات تنتج من الانغمار بقراءة الفلسفة وعلم النفس والمسرح والروايات والقصص، والتعرف على مدارس الرسم وسماع الموسيقى وفهمها والتفاعل الحياتي اليومي والحب وغيرها.

(كتابات) في رواية “كم أكره القرن العشرين” هل تسعى إلى التجريب في شكل الرواية .. ولما؟

• أسلوبي في السرد، حسبما أرى يعتمد على شعرية الكلمة وجاذبية الجملة ومعلوماتية الثيمة.

ربما من المحال أن يقترب أسلوب أي مبدع من “القصدية”، وإن حصل أمر كهذا فحليفه الفشل حتما. الأسلوب لا يُصنع، بل تخلقه ملكة المبدع، ومثل ماله من السحر والجاذبية والشد، فله مقومات البناء والنمو والتطوير القادمة من التفاعل مع الأشياء وتخمير ما تم اصطياده ومزجه مع الكثير من أدوات المبدع واجتهاده ومواظبته وأحاسيسه، وفي النهاية تأتي عمليات التكوين والمخاض والولادة.

(كتابات) في رواية “كم أكره القرن العشرين” رصد لمعاناة جيل كامل من الشباب تعذب بسبب حرب العراق وإيران..وإعلان لرفض الحروب.. حدثنا عن ذلك؟

• روايتي مرثية انتقائية النواح. استنتجتها من هوسي المغلي، من تطاير أعمار الهاربين العبثيين العدميين. لم أسع إلى تمجيد الذات. ربما وصي على تبديد نفسي وحسب. لأنني كائن مُسْتَعْبَد لا إرادة له طيلة أعوام الحروب والحصار وما خلفه الاحتلال الأمريكي اللعين. هذا كل ما أعاني منه. كائن له ذات تعي أنها ذات، تلك هي مصيبتها الكبرى. الهرب الذي انغمر به الشباب في روايتي هو حلٌ غاصب. صورةٌ مشوهةٌ من صور الهلاك. هو أعوص الحلول لأنه موتٌ مع رعب العيش في عالم سفلي، لا يحقق للهارب سوى الذيوع في ثرثرة الشوارع و دخان المقاهي ومتاهات الرعب.

لكنَّ الهارب لا يستوعب ذلك، لأنه لا يدرك ضياع الزمن من حوله، ولا يملك حلا له سوى أن يضيع معه. ربما لأنه أخفق في إدراج الحرب على سجل المعقولات، وربما لأنه ابتلى بمتلازمة طابور الإعدام. وربما لأنَّ المدن لفظته، فبات بندولا. أينما يتأرجح سيبدو هاربا وإن في السِلم. سيظلُ هكذا سائرا إلى الخلف، عكس المخلوقات، في فوضى ذلك الخراب المريح!

(كتابات) في رواية “كم أكره القرن العشرين” تكلمت عن البصرة والتحولات التي حدثت لها بسبب الحرب.. ماذا تعني لك البصرة؟

• أنا ابن البصرة، ولدت على ضفاف شط العرب، وهُجِّرت منها بسبب القصف المدفعي الإيراني مطلع ثمانينيات القرن الماضي. عقد من السنين تكرم على العراقيين بحرب عبثية بددت كل شيء. ولو سألتني في ذلك الوقت وماذا بعد؟ أقول لك: اختفى هذا السؤال من أحاديث البصريين، لا أحد يذهب إلى ما هو أبعد من غصته. الحرب وقد بدأت. وجثامين شبابهم القادمة من سواتر الموت يُسلِّمُها الجنودُ المأمورون إلى مراكز الشرطة ويهربون سريعا.

وها هو القصف المدفعي يحيل الكثير من بيوتهم وممتلكاتهم إلى خرائب. لن تجد جنة ولا نارا إلا في البصرة. في البصرة، هناك دائما “لا فرق”، تتصادم من فرط تداولها، مثلما تتشابك النُشُج من كثرة التعكز عليها. كل نشيج في أزقة هذه المدينة هو اليقطين للسُقماء المنبوذين من أمثالنا، أولئك المرعوبين من ظلهم، المتعثرين بخيبتهم، الهاربين من لوم أنفسهم. لا فرق دائما هنا، بوعي أو من غير وعي. فكل شيء في هذه المدينة لا يكلِّف الردّ عليه أكثر من لا فرق. لا فرق أن تحمل معنى أو تتبرّأ من كل شيء، أن تغدو ذاتا أو تمسي أقل وثوقا بها، أن تتمسك بدرجة قرابة مع أي شيء أو تُلفظ غريبا. ما من قانون هنا أكثر معنى من لازمة الـ “لا فرق” وضراوة أحكامها. هذه البصرة غدتْ أكبر بكثير من حواسِّي، من سقم هربي، من قدرتي على الانتماء لها. ومن المؤكد أن دروبها ستضيق بي، وبيوتها التي لفظتني ستظل تسخر مني.

(كتابات) في روايتك تناولت محنة الأقليات.. هل مازالت تلك المحنة قائمة؟

• محنة الأقليات ربما نجدها في كل البلدان العربية بصيغ متفاوتة لكنها متقاربة. هنا في العراق ما زالت موجودة، سواء تحت الغطاء أو علنا. كل أقلية تجدينها غير مدعومة قبليا في مجتمع لم يتحرر بعد من بداوته وقبليته وينظر بعين الدونية إلى الأقلية.

لاحظي في روايتي “كم أكره القرن العشرين- معلقة بلوشي” أُحبِطَتْ قصتَي حب بسبب تلك النظرة المتغطرسة والمتخمة بالعنجهية ومرض الوهم والماضوية. غالبا ما تكون قصص الحب محبطة وتموت في أوجها، وكأنها صورة من صور تخلفنا الجمعي، وإشارة واضحة من إشارات “سقيفة بني ساعدة”!

البلوشي في روايتي يبقى فاغرا فاه وهو يطالع خللا فطريا في بطاقة أحواله المدنية، نقصا لا مفر منه يشير إلى نصف عراقيته، نصف آدميته، داخل وطن وُلِدَ على أرضه آباؤه وأجداده وأقرباؤه. أنت بلوشي، إذن اخْفي “عيبك” دائما، انساه، امحه من ذاكرتك. لا تقل لأيّ شخص، مهما اقترنت معه بصداقة متوقدة أنك بلوشي، لأنك، إنْ فعلت ذلك، فستفتح على نفسك كل أبواب جهنم، تذكر ذلك في كل وقت، لا أحد يناسبك أو يصاهرك إلا بلوشي مثلك. لا تحب فتاة غير بلوشية. ستندم، ويتحطم قلبك. لا تنظر إلى الأعلى، ستسقط، وتنكسر رقبتك. أنت بلوشي. إيّاك أن تنسى. لا تنسى ذلك ما حييت!

(كتابات) في مقال لك بعنوان “إلى أين تتجه الرواية العراقية الجديدة” قلت أنه حصلت الثورة السردية العراقية أخيرا.. كيف ذلك؟

• حالما أدركت الرواية العراقية أنها في “نقطة أمان نسبي” بعد الاحتلال الأمريكي البغيض للعراق، وثمة ما يوجد لتضيفه لنفسها، سارعت إلى إعلان أحقِّيتها في امتلاك الحقيقة عن التاريخ المصاب بمرض العقم!

وهي حقيقة مفادها أنه لا يوجد مهرب من سرد حقبة التكتيم التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود دموية، لذلك بادرت بأخذ السرد من معتقل العتمة إلى مساحة غضبية عارمة، تحول فيها السرد من سرد حجري تعبوي إلى سرد منفتح تجريبي يؤسس لعهد روائي جديد، بعد صدمة انهيار أعتى أنواع الدكتاتورية، وبذلك غدت الرواية العراقية أشبه بميزان المختلف من الأمر وشهادة مثالية على التحقيب المبكر للرواية الجديدة. لقد عادت الرواية أخيرًا مكتفيةً بذاتها، وانغمرت برحلة فتح الأبواب المغلقة والكشف العجائبي ورفع الغطاء عن أحداث “قديمة مجهولة”. فروايتي “كم أكره القرن العشرين.. معلقة بلوشي” صدرت عام 2017 لكن أحداثها تدور في ثمانينيات القرن الماضي! وروايتي “الذباب والزمرد” كتبت في عام 2009 بينما تدور أحداثها في أعوام الحصار والقحط التسعينية، ويحيلنا هذا القياس إلى روايتي “ضياع في حفر الباطن” التي صدرت عام 2007 وهي تتحدث عن غزو الكويت والهزيمة وضياع أجيال عراقية في مطاحن الحرب.

أظن أن الرواية العراقية محكوم عليها بـ “عقدة الماضي”، لكنها مقبلة على طور التحرر من كل ما هو ماضي واقتحام عصر الكشف والابتكار ومنافسة الروايات “العالمية”.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة والأدب العراقي في الوقت الحالي؟

• الثقافة هي المتكأ الوحيد، والرهان الأوحد. أظن أنها تحررت من طوق الدكتاتورية، لكنها كُبِلتْ بخطوط حمر عديدة، وتعاني من التهميش وبعيدة عن أولويات العقل السياسي المتسلط. والمثقف يعتمد على مقدراته ويجهد نفسه في تجاوز أزمة بلد ما زال يسير نحو الأسوأ.

(كتابات) ماذا تعني الجوائز العربية لك.. وهل في رأيك ساهمت في دعم الأدب العراقي؟

• مهمة الجائزة الرصينة البحث عن الإبداع واقتناصه وتثمينه. على المبدع أن لا ينشغل كثيرا بالجوائز. لكنه لن يستطع التحرر من شعور الإهمال إذا ما ابتعدت عنه الجائزة طويلا. أظن أن الجائزة هو عرس ثقافي لا بد منه في نهاية المطاف.

(كتابات) ماذا يعني التاريخ بالنسبة لك.. وهل هو أحد عناصر السرد الأساسية لديك؟

• لم أقدم على آلية أرشفة في كل رواياتي، ومن يقرأ رواياتي وقصصي سيجدها تقرأ الحدث التاريخي وتتعمق به ثم تخلقه بلبوس جديد، وبعدها تنيب وتتقدم على التاريخ الذي تم تزييفه منذ عقود، وربما على مدار الزمن بسبب كتابته من قبل الحكام أو في عهودهم من قبل لاعقي مواعين الأنظمة في كل عصر.

للأرشفة آليتها وحياديتها التاريخية والإعلامية. أنا سارد و لست مؤرشفا وغير معني بهذا الفضاء، لأن مهمتي هي الخلق والابتكار والصناعة الروائية. ولكل سارد روايته الكبرى في أعماقه، وما عليه سوى أن يغرف منها الثيمات المؤهلة لولادة رواية جديدة من تلك الرواية الكبرى. شخصيا أطلق على رواياتي ببناتي الجميلات الحالمات المصنوعات بعراقيتي الحبيبة. أظن أنني أسرد مشاهد الحياة وفق آلياتي التي يلتقطها المتلقي، والسرد لا يتكئ على المشهد التاريخي بل يغرف ما يشاء من صور وآليات عديدة ليقدمه بأسلوب روائي لا يُعْتمد عليه تاريخيا، بقدر ما يكون شهادة صادقة حية بنيت بالسرد وليس بعدسة مصور أو قلم مؤرشف أو حقيبة مؤرخ، بل بعين ساردة وحسب.

(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب وما هو جديدك؟

• الروائي في العراق هو رواية لوحده. أعتقد أن هذه الجملة اختزلت كتاب كامل للإجابة على سؤال حضرتك!

فصل من رواية “كم أكره القرن العشرين – معلَّقة بلوشي”..

هل لي أن أحظى بكرم التفاتة؟ نظرة متكسرة أو ناعمة، تشير إلى شح انتباهك، إنها لحظة نادرة يا “بالاچاني”. تسلَّلت ببطء من أفول هذه المدينة، وعشَّشت في تخومك. ربما لأنها لحظة ضالة وُجِدَتْ لذاتها. لحظة مخيفة مسكونة، أضحت قصيًّة عن الإدراك، منقوعة في كَنفِ الدهشة، وممسوسة بالرعب.

مَهلَكَ لحظة…

جرِّب أن تنصت لي مرة، لنختم أمر صحبتنا. أراهن أنك ممتعض وحزين، وتعاني من نهارات مشوَّشة، غلبت عليها كوامن الحيرة والضعف، لكنني نصفك العليل يا “بالاچاني”. “خوشگه” رخيص، وجد بلوشيته بحدس مباشر، وحالما ألف غروبه، تملَّكه شعاع تأهيل الذات، واتجه به إلى “سليكة”. أوه… شكرا لك، ها نحن على وفاق إذن، كنتُ على يقين أنك ستسامحني. هذا لطفٌ منك، سأفضي لك بما يشبه حشرجة الموت، ثم أرحل.

ولكن كيف!؟ هي زلزلة عصيبة. ربما أستطيع أن أحصي بوضوح كل شهقاتها العالقة، وقد أستجمع كل آلامها الخفيَّة، ولكنني أجد صعوبة بالغة في سردها. هل تدرك ماذا يعني اقترابك من موت مدينتك!؟ انه دنو مهول مسحور، مشارفة ملموسة كبرى، قد تصعب عليك، من خارج تلك الضائقة الانفعالية التي حشرتني عنوة، في طنين هذه المدينة.

اطْمئِنْ “بالاچاني”، لن أخلف ثغرة في جدار انسدادك. لا أحد في البصرة يتابع خرابه غيري. كل شيء يفصلني عنك لا بد أن يجرفني إلى “سليكه”. هو لقاء عابر لا غير، أبدو فيه كساع بريد عجوز، يسلمك رسائلك ويمضي. لكنني لم أستطع بعد أن أتخطى سآمة إحباطك، ولم أفهم ما أتشوّق إلى رؤيته فيك، وبينما ظلَّت كلَّ أوجاعي غير المروَّضة بمنجىً من عصيانك، ها أنا أتجه ثانية إلى تخومي الرخيصة، كي أتجلَّى فيها وأنبسط، على الرغم من أنني أشعر بخوف جافل، بتوتر وتذبذب. الشكوك سيول تتواثب في البيوت يا “بالاچاني”. لا مأوى لي في ظلها إلا حضن “بيبي”. هي نوازع هربي، وهي دواؤه الوحيد.

حسنا، هل أنتَ جاد في حسم هذه الصفقة؟

صمتك هذا يعني أنك تهزأ بي، ولكن جل ما أخشاه أن أبدو أكثر وحشة في طبق بلوشيتي. لقد رأيت، حتى الآن ما لم تره، ومن حولي تفتحت، في لمعان أول رجَّة، جواهرٌ مغرية، أسرتني، أنا نصفك الشارد، وطوَّقتني بغزلها الرجّاج، لتصنع أنفاق الفرار إلى “بيبي”، إلى أقاصي سرحانها المألوف. وجدتُ “سليكة” هناك كرغوة سحر، تزهر وتفوح، وتطش نسمات “هوا اعْذيبي”، لتوقظ قلبي المُقْفل، وتصنع منه آهات مغرية، ما عدتُ أقدر البتة، أنا المعني بكل هذه الإيماءات أن لا أنجذب إليها. بيد أني، حقيقة ارتعدت، العشق الفادح أسرني فعلا، والأخدار الساحرة أسْرَت بي عنوة، إلى تخوم القرية العذراء، إلى عافية العيش في دخان أكواخها.

إن ما تسمعه الآن هو معزوفة نهر عذبة. موسيقى قرويَّة عراقية إيرانية، تُعد الحركة الأبطأ في سيمفونية “الگفة والزنبيل والطست”. سوناتا رتيبة ساحرة، تقوم الأوركسترا بعزفها على أوتار الجريان، فتصدح الاهتزازات المغرية حول سعف النخيل، وعلى الضفاف، وفي عيون الأهالي. ملامح ألفة بلا حدود يا “بالاچاني”، تجاوزت الرسوم الجمركية، والمحاذير الأمنية، وشروط منافذ العبور، وغدت “خوّة على حب الله”. لا تحتاج إلى رقابة أو اتفاقيات، ولا يطالها قانون. هي وثيقة قروية شفاهية غير مدونة، لأكشاك وقتية متخيَّلة في الهواء. يدنو المتسوق من ضفة النهر الغربية، يملأ “الگفة” برطب تمر البرحي، ويودعها في ذمة الموج. تهتز “الگفة” قليلا، ثم تبتعد ببطء، باتجاه امرأة إيرانية، تنتظرها على ضفة النهر الشرقية، وحالما تصل إليها، تفرغها من الرطب، ثم تملأها بالـ “ميوَه”،  وتسلمها لموج النهر الوفي، ليعود بها آمنة مطمئنة إلى الغرب، إلى صاحب الرطب. وبينما يضع عجوز إيراني من هناك، “قْران أبو دبيلة” في “زنبيل”، ويودعه في النهر. تضع، من هنا شابة بَصْريَّة “شاهيَّة” أو “شاهيتين أو ربِّية” في “طست” قديم، أو يضع صبيٌ حافي القدمين “عانة أو بيزات أو قرش أو قمري” في “گفة”،  ويسلمها للموج. يبتسم “قران الزنبيل لشاهيَّة الطست”، وتُراقص أسماك “اصْبور الگفة” فاكهة “الزنبيل”، وتغمز حنّاء “الطست” لمذاق “الگفة” المحملة “بفصوص القَند”، * فتبرق آثار تعرجات رجراجة، في غدوها ورواحها. قبلات جيرة بريئة على وجنات السلال، تارة ممتلئة بما لذَّ وطاب، وتارة فارغة إلا من قطع نقدية معدنية. لا يوجد ميزان واحد على الضفتين. الأوزان تصنعها قلوب الجوار، وأعيرة “الگفة والزنبيل والطست”. لم يعرف أيّ منهما أوزان الكيلو والكيلوين و”الحُگَّه”.  وزن البيع المتبادل الوحيد هو:”عينك ميزانك”! يمتلئ “الزنبيل” بمحاصيل زراعية عراقية ويبحر شرقا، مثلما تمتلئ “الگفة” بمواد غذائية إيرانية وتتجه غربا، ويبقى “الطست” هكذا ينوء بحمل الفواكه والخضروات شرقا وغربا، ومع هذه التبادلات العفوية، يبحر “قْران أبو دبيلة، والشاهيَّة والشاهيتين والروبيّة والقرش والقمري”، بلا صيرفة يا “بالاچاني”، بلا حسابات، ولا سعر إقفال أو بورصة. لا تقلبات على ضفتي النهر، عدا تقلبات الفصول، واختلاف المواسم صيفا وشتاء. تتبادل أدوار البيع والشراء هناك بيسر، كل شيء يجري بهدوء، مثل سماحة جريان النهر. هي ألفة لا تفصلها حدود، أيُّ حدود!؟ انكفأت حدود البلدين غائمة خلف سورها الرسمي. لا عوائق تفصل بين كتفي الشط، ولا بين ظلال غابات النخيل. البسطاء هناك لا يحذرون من إشارات خرقاء. تعايشهم يخترق الخطوط الحمر. يوحدهم في تقاسم الزاد والأمن، طالما أن هول الفجوة بين أيّ منهما ورعب الحكومة هو ذاته مرسوم على الضفتين. ذلك ما يوّحدهما ويصنع تسامحا عذريا يناغيه في الخفاء، متسللا من بين ثنايا الخوف، ليقود الطرفين إلى وحدة مستترة.

تلك هي شريعة البدائيين المنسيين يا “بالاچاني”، بياض ناموسهم الفطري، فهؤلاء تبقى رؤوسهم محنيَّة دائما، تَحْدَوْدَب ظهورهم مبكرا من فرط بساطتهم، لا يرفعون رؤوسهم إلا في أدعيتهم، أو في مطالعة السماء، طمعا في رؤية غيمة ماطرة. أما ما يتناهى إلى مسامعهم، من أخبار الخُطَبٍ الرنّانة، فغالبا ما ترد اليهم فيما بعد، نعم فيما بعد يا “بالاچاني”، بعد شهور على انفراج الأزمة، ولا تأخذ منهم أكثر من صفنة “استكان چاي”، في جلسة سمر قصيرة، كأنَّ الحدث المدوِّي معني بنزوات الحكّام الطغاة، وبسِيَرِ فتوحاتهم. حتى لو وصل الأمر إلى تغيير مسار الحدود بقرار من هذا الدكتاتور أو ذلك، فهذا الأمر لا يمسهم، لا يعني تعايشهم، لأنَّ تآلفهم أصلا كان بلا حدود، بلا ثوابت. إنها “عِشرة نهر قديمة” يا “بالاچاني”، صحبة بلا ملوثات، ولا أضغان، ولا أطماع مُبيَّتة. إنَّ مَن يوحدهم نهرٌ، لا تفصلهم سياسة!

ذلك ما دعاني إليه قلب “سليكة”، من داخل ثنايا بيت البلوش. حنون ذلك القلب يا “بالاچاني”، هو هكذا يا صاح، قبل أن أُدرك أن “جاروك” الجذّابة توفيت حال ولادة “ميا”، حتى قبل أن أعرف أن التي كانت عشّا لي في الحَر والبرد  هي “لال بيبي سليكة”!

ها هي تتكئ الآن على شفة الذاكرة. تنزلق في هرب مريح، في دوامة نبش قبورها المكتظة برفات حوادث صاخبة. تجتر وتتأمل، ثم تستيقظ فجأة، تلتصق بذكرى ما، وتتخفى عن شماتة النهارات، تردد، جازمة:”أن مَن لا سند له سرعان ما يدهسه الآخرون”. تهمس قولها هذا مرفقا بحسرة، بنيران آهة أقسى من تجرُّع الزرنيخ، ثم تضع فص “سويكه” جديد ما بين اللثة وبطانة الشفة السفلى، فينتابها خدر لذيذ، وتهرب، ومع هربها تختفي كل “الكرمشات” من وجهها، وتعود لها أسنانها، وقليل من سواد شعرها، فتتسلل حذرة، شبه متنكرة مع “جاروك”، باتجاه بيت العجوز “أم عبودي”، تطلب من أمي أن تستلقي على ظهرها في غرفة الجدّة. تقترب منها “أم عبودي”، تجلس لصقها، تنحني قليلا وتهز ببطنها، تحركه ذات اليمين وذات الشمال، تسألها، في كل مرة عن إحساسها بالجهة الأثقل، وحالما تتأكد أنها اليمنى تبتسم، تهمس قائلة:”مبروك، الجنين ذَكَر”.. وذلك الجنين، أنا يا “بالاچاني”!

تمرق ذكريات “بيبي” كنيران متوالية. قصص مازوشية لا تمحى، لطالما تسللت من قلبها ليلا، وتناهت إلى مسامعنا كسحر قديم، لتمنحنا رعشة انبهار شبه غامضة، بألق بلوشيتها الغارب:”تصدح ترنيمات الشكر لله، في أول ليلة الولادة، تتبعها ستة أيام صاخبة بالغناء. في الليلة السادسة، تلامس أنغام الحفل تباشير الصباح، ومع حلول النهار يذبح خروفان للمولود الذكر، وخروف للمولودة الأنثى. تقوم النسوة بتدهين رأس الطفل، وتوزيع الحلوى، تتطلع الأم إلى وجه وليدها فيتهلل وجهها فرحا، ترى شعر رأسه الأسود الكثيف، وأنفه البارز، وعينيه السوداويين، ولون بشرته البيضاء.. “سبهدار، شيركنن، خوشن”، بلوشي أصيل، حمدا لك يا “رحمن”، هكذا تردد بصوت مهموس لمرات عديدة، وهي تمسد وجهه بأطراف أصابعها، حالمة بعامه السادس، بثلاث ليال فرحٍ مكتظة بالغناء والأناشيد، مراسيم الختان التي يحضرها الأقارب والأصدقاء والجيران، وتختتم بإقامة مأدبة عشاء كبرى، ثم يجلسون الطفل على سرير، ويحيط به المحتفون، تشرع إحدى العجائز بتخضيب يديه ورجليه بالحناء، ثم يقوم المدعوون برمي النقود في آنية قريبة منه.

في اليوم التالي يا “بالاچاني”، يُجلسون الطفل البلوشي بهودج على جمل مسرج، ويسير المحتفون على وقع الدفوف والغناء والرقص باتجاه عين ماء صافية، ليتم غسله، ثم يعود موكب الفرح إلى البيت، يوضع الطفل داخل خيمة مصنوعة من قماش “التور”، تنصب في باحة الدار، ومع تعالي أصوات الغناء والطرب والموسيقى، يقص “المطهرچي” حشفة اللحم، ثم يربطها بخيط أسود برجل الطفل اليمنى.. هذا ما كان يحصل في قصص “سليكة” الغاربة. حتى اسمي يا “بالاچاني” لم يغد “عِزَّتْ خان” تيمُّنا باسم جدي، “لا بد أن تخفوا بلوشيتكم يا أبنائي. صيروا عربا مثلهم، حالكم حال خلق الله”!

البصرة، أحيانا تبدو غير عادلة يا صاحبي، لكنَّ تقهقرات قليلة فيها، تبدو كافية لإعادتي إلى حكايات “بيبي مهر خاتون” * عن “سنة الحالوب”، و”سنة أم زوعه”، و”سنة أم مصران”، ومطر “العگروك”، * وكيف كنّا نسهر في ليالي الشتاء حول “صوبة علاء الدين”، وتبدأ “سليكة” بسرد حكاية مثيرة، وكلما وصلت إلى عقدة حاسمة، رددنا أنا و”ميا” و”ريا”:”إيه والله”، فترد “سليكة”:”إيه والله – بنده الله”، ثم تكمل مقطعا جديدا من حكاياتها الخرافية. حكايات وقصص وأشعار وأحاديث وملاحم غنية يا “بالاچاني”، فيها مواقف حماسية تمجِّد أجدادنا البلوش العظام. لطالما احتاجت “جان بيبي” إلى سبع ليال لسرد حكاية واحدة مشوقة من حكاياتها!

حقا، بعض الأمور لا تُفسَّر يا “بالاچاني”، ولكن تلك هي صفحة العيش في عطر “سليكه”. واحة تبقى محيِّرة على الرغم من كل شيء، لكن الجرح لن تنفع إزاءه الترقيعات، لم تنفعنا مسالمة الأسرة وعزلتها من نزفه، واندماجنا بمن حولنا ظلَّ هشا، فمع أول شجار صبياني حصل بيني وبين “صارم”، أدركتُ ضياعنا المر، وتجرعتُ قسوة غربتنا، وصغر أملنا بوطنٍ، سرعان ما أنكرنا!

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب