24 نوفمبر، 2024 7:26 م
Search
Close this search box.

“خبز على طاولة الخال ميلاد”.. محنة من يخالف الصورة النمطية للرجل

“خبز على طاولة الخال ميلاد”.. محنة من يخالف الصورة النمطية للرجل

 

خاص: قراءة- سماح عادل

رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للكاتب الليبي “محمد النعاس”، التي فازت مؤخرا بجائزة البوكر العربية تحكي عن الصراع النفسي الذي يعيش فيه الرجل الذي لا تتوافق سماته الشخصية مع الصورة النمطية للرجل في مجتمع شرقي محافظ، وكيف أنه يتذبذب ما بين محاولة تمثل تلك الصورة وما بين عدم قدرته على أن يكونها.

الشخصيات..

ميلاد: البطل، رجل أربعيني، عاش حياته ما بين القرية والمدينة في ليبيا، يعمل خبازا، ويعشق الخبز، حتى أنه يعتبره جزء من حياته ويرتبط الخبز بتكوينه النفسي وتقلبات مزاجه. نتيجة لكونه تربى على أيدي شقيقات أكبر منه ينشأ قريبا من عالم النساء متعاطفا معهن، عاشقا لتفاصيلهن، حتى أنه حين يتزوج يقوم بأعمال المنزل ويتساهل مع زوجته.

زينب: زوجة “ميلاد”، عرفها منذ كانت طفلة وأحبته على ما هو عليه، وكانت تشعر بالأمان بجواره، لكن مع سنوات الزواج نشأت الخلافات نتيجة سعيها الحثيث للتحرر كامرأة في مجتمع محافظ وتردده هو مع تلك الرغبة الجامحة في التحرر.

العبسي: ابن عم “ميلاد”، نموذج للرجل المتعجرف في مجتمع محافظ، رجل يستمتع بقهر النساء وضربهن، يراهن مجرد آلات للجنس، يفسر كل كلمات المرأة وأفعالها على أنها دعوة لممارسة الجنس، يقيس الرجل  بمدى قدرته على إنهاك المرأة جنسيا وبالتالي إرضاءها، وأيضا بمدى قدرته على إذلال المرأة وكسره شوكتها وقهرها بالضرب والعنف.

المادونا: رجل في الجيش كان يعامل البطل بقسوة شديدة لأنه أحس منه ضعفا، فزاد في اضطهاده لكي يجعله يتصرف برجولة كما يتصورها هو.

المدام: صديقة “زينب” في العمل، كانت تتقرب من زوجها، وهي من وشت بها عند زوجها، وأيضا مارست معه علاقة جسدية حين جاء منهارا من خيانة زوجته له وأبلغتها بذلك.

الراوي..

الراوي هو “ميلاد”، الذي يحكي لشخص آخر طوال الوقت، نعرف في النهاية أنه رجل يريد أن يعرف حكايته لأجل فيلم ما، لا يظهر هذا الرجل ضمن الأحداث ولا يكون له أي حضور، فقط نسمع حكي “ميلاد” المتواتر الذي يتنقل ما بين الحاضر والماضي، والذي يركز فيه على حكيه عن نفسه ومشاعره وانفعالاته وصراعه النفسي العميق، وعلى باقي الشخصيات من منطقة تفاعلهم معه، ولا يترك لهذه الشخصيات فرصة التحرر إلا من خلال بعض جمل حوارية قصيرة يعبرون فيها عن أنفسهم، خاصة “العبسي وزينب والمدام”.

السرد..

تقع الرواية في حوالي 200 صفحة من القطع المتوسط، محكمة البناء، تبدأ بحكي “ميلاد” عن نفسه في الوقت الحاضر، تبدأ من النهاية، ثم يحكي عن الماضي بالتوازي مع الحكي عن الحاضر، ينصب الحكي بشكل أساسي على أزمته الحياتية ورؤية الناس له. وعن علاقة الحب بينه وبين “زينب” وكيف واجهتها العقبات الكثيرة. لم يدن الحكي “ميلاد” أو يصوره في صورة البطل إنما كان حكيا من خلال “ميلاد” نفسه. حكي محايد وتنتهي الرواية نهاية مفاجئة تتمثل في قتله لزوجته تلك التي كان يعاملها بود ورحمة وتساهل وفق نظرة المجتمع. أمر الخيانة مهد له الحكي كثيرا لكن القتل هو الذي فاجئ الجميع.

الرجولة وفق تصور المجتمع الشرقي..

أزمة “ميلاد” الحياتية أنه لا يوافق نموذج الرجولة التي يسيده المجتمع الشرقي المحافظ في ليبيا، ذلك الرجل العنيف الفحل الذي يبتعد عن شؤون النساء ويتعالى عليها، ويتعامل معها على أنها أمور دونية لا يجوز أن ينخرط فيها أو يقترب منها، ف”ميلاد” أخ لثلاث شقيقات أكبر منه وشقيقة أصغر. الأكبر منه كان يتعاملن معه على أنه دميتهن ويرعونه ويقربونه منهن، حتى أنه كان ينخرط معهن في أمور النساء مثل إزالة الشعر ومثل تضفير شعورهن. وعندما تعرف على “زينب” كان حنونا معها وقت أن كان طفلا، وحين أصبح رجلا استمر هذا الحنان والمراعاة والود، حتى أنه كان يقوم بأعمال المنزل بالنيابة عنها رغم اعتراض أمه. وكان أبوه يعامله بقسوة شديدة حين يلاحظ اقترابه الشديد من عالم النساء.

وحين استجاب لرغبة والده والتحق بالعسكرية بعد وفاة والده، حتى يصبح رجلا على حد قول والده، تعذب عذابا شديدا وعومل باضطهاد مضاعف،  وحتى زوجته التي كانت تردد دوما أنها تحبه كما هو وأنها تشعر بالسكينة معه انقلبت عليه وأصبحت تناديه بالمخنث.

الأزمة لا تكمن في كون “ميلاد” لا يوافق ذلك النموذج النمطي للرجل في مجتمع شرقي محافظ، الأزمة تذبذبه الشديد ما بين رفضه لطبيعته وسماته الشخصية وما بين رغبته في أن يرضي ذلك المجتمع، ومحاولته التشبه بذلك النموذج فتنفلت منه بعض الأفعال العنيفة يحاول من خلالها إرضاء الجماعة التي تسخر منه ومن اختلافه. يمارس العنف على “زينب” فيصفعها، ويمارس العنف على شقيقاته فيقاطعهن، ثم يعود ويمارس العنف على “زينب” مرة أخرى.

لكنه مع ذلك يقف في مجمل حياته عاجزا أمام سماته الشخصية وسلوكياته، لا يرضيه تماما ما هو فيه ولا يستطيع أن يكون النموذج النمطي للرجولة، فيظل يتعذب بذلك الصراع البغيض، وهو في حكيه، مع الرجل الذي أتى ليعرف قصته، ربما يحاول اكتشاف ذلك الصراع وتحسسه، فيعود إلى الزمن الماضي محاولا تفسير ما حدث له، ومحاولا فهم الأسباب التي أدت به إلى أن يكون ذلك الشخص غير المرضي عنه. فيرجع ذلك إلى تربيته وسط شقيقات من الإناث، ثم يحاول تفسير ما حدث في حياته الزوجية، وكيف كان الاختلاف الشديد بينه وبين زوجته صعبا.

التحرر الواعي..

“زينب” واعية تماما برغبتها في التحرر من القيود، وفي أنها تريد أن تتمرد على ما يقهر النساء من أمثالها، وتريد أن تكون امرأة عاملة وتحقق ذاتها، وترتدي ما تريد وتحتسي ما تريد، وتتمرد كلية على ما يفرضه المجتمع الشرقي على النموذج النمطي للمرأة. هذا السعي الواعي يرعب “ميلاد” لأنه رغم كونه لا يمثل نموذج الرجل المتعجرف إلا أنه أيضا لا يمثل نموذج الرجل التقدمي، فهو لا يسعى إلى التحرر ولا يقتنع بأفكار زوجته التحررية، ويرتعب من رغبتها في التحرر عندما تطلب منه أن تدخن أو تحتسي خمرا أو عندما تصر على العمل ومعاملة الرجال بندية وتتوتر علاقتهما، فهو ليس رجلا متعجرفا لكنه ليس ساعيا إلى التحرر ولا يمتلك الوعي.

يتعاطف مع زوجته وشقيقاته لكن ليس هذا نابعا من موقف فكري واعي وإنما نتيجة عجز نفسي على أن يكون مخالفا لما هو عليه، لذا يقع الاختلاف لأن “زينب” تتبنى تحررها فكريا بتأثير من عمها الفنان الذي رباها على ذلك التحرر، وقد أوصلها ذلك إلى الضغط الشديد على “ميلاد” واستثمار عجزه وضعفه لتحقيق ما تريد من حياة، تتمتع بنصيب من الحرية. لكنها واصلت سيرها إلى حد أنها فكرت في الإيقاع بمديرها الذي يتحرش بالنساء، لكنها وقعت في غرامه وكذبت على “ميلاد” ووصلت إلى حد الخيانة الزوجية.

وربما تكون النهاية المفاجئة نتيجة منطقية لتذبذب “ميلاد”، فهو قتلها لأنها خانته رغم أنه كان يستطيع تطليقها والرحيل عنها وهجرها، لكنه في مواقفه القليلة كان يحاول التصرف وفق الرجل النموذج، وقد فعل، وقد جعله ذلك الفعل يصل إلى مرحلة الجنون فيحتفظ بجثة “زينب” ويرعاها كما كان يرعاها وهي حية.

حب مدمر..

تتناول الرواية أيضا علاقة الحب بين “ميلاد وزينب” وكيف أنها علاقة حب مدمرة له، فهو بذل كل ما في وسعه ليوفر ل”زينب” كل ما تريد، حتى أنه كان يقوم بأعمال المنزل ويريحها ويقبل بطموحها الشديد في العمل ويحاول إرضاءها بكل الطرق، حتى أنه تعامل مع عائلته بجفاء لأجلها وخسرهم في النهاية لأجلها، ولم يستجب لكل محاولات المدام لإغواءه حبا لها ومراعاة لمشاعرها. وهي من جانبها استغلت ذلك كثيرا وظلت تطلب المزيد وتتحايل على علاقتها به، وحملته ذنب عدم الإنجاب وكرهته، وفي النهاية أحبت آخر دون أن تحاول إنهاء علاقتها به فكانت تلك العلاقة مدمرة ل”ميلاد” ولحياته.

اعتمدت الرواية على لغة عذبة ومحملة بكثير من المشاعر والدفقات الشعورية، كما قدمت تصويرا عميقا للشخصيات ل”ميلاد والعبسي وزينب والشقيقات والأب وحتى العم”. وقدمت أيضا رصدا لأحوال ليبيا في نهايات القرن الماضي تحديدا منذ فترة الثمانينات والتسعينات من خلال عيون “ميلاد” وحكيه عن مراهقته وشبابه. وكان الحكي ثريا بالأحداث.

كما رصدت مدى التناقض الذي يقع في المجتمع وقدمت فهما لذلك النموذج المتوافق عليه للذكر والنموذج المتوافق عليه للأنثى. كما رصدت التحولات الاجتماعية التي حدثت في ليبيا من خلال حكي “ميلاد” عن “المدام” التي انتمت إلى الطبقة الغنية قبل صعود السلطة الذي حدث في ليبيا، وكيف تحولت ليبيا من الانفتاح على الثقافات والجنسيات وعلى العالم إلى الانغلاق والمحافظة والتشدد الاجتماعي.

كما كان ذلك الهوس بالخبز ساحرا، خاصة حين كان يصفه “ميلاد” مرتبطا بالته المزاجية وبمشاعره وشعوره تجاه أزمات حياته.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة