خاص: إعداد- سماح عادل
“جميل عطية إبراهيم” كاتب مصر، حصل على شهادات دراسية متباينة ونتيجة لذلك عمل في مهن متعددة، فقد عمل قبل تخرجه من الجامعة كاتب حسابات في مصنع للنسيج في شبرا الخيمة، ومدرساً للموسيقي للأطفال، وكذلك مدرساً للحساب والجبر والهندسة للمراحل الإعدادية في مصر والمغرب، وبعد تخرجه من الجامعة عمل كمفتش مالي وإداري في وزارة الشباب في سنوات الستينات، وبعد نجاحه في نشر بعض القصص انتقل إلى الثقافة الجماهيرية بفضل الأساتذة “نجيب محفوظ” و”سعد الدين وهبة” و”يعقوب الشاروني”، وظل في الثقافة الجماهيرية حتى سافر إلى سويسرا عام 1979 وعمل بالصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة العربية في جنيف.
“جميل عطية إبراهيم” أحد مؤسسي مجلة “جاليري 68 الأدبية”، ومن رواد حركة أدباء الستينيات، ركز من خلال أعماله على الدور الاجتماعي للأدب، من مؤلفاته.. (أصيلاً، النزول إلى البحر، ثلاثية 1952، أوراق إسكندرية، الثورة، المسألة الهمجية، خزانة الكلام) وغيرهم..
الثلاثية..
في حوار معه أجراه “محمد الشاذلي” يقول “جميل عطية إبراهيم” عن ثلاثيته الشهيرة: “الرواية الجديدة التي انتهيت منها عنوانها “أوراق 1954” وهي بمثابة الجزء الثاني من ثلاثية أعكف على إعدادها، نشر منها الجزء الأول منذ عامين بعنوان “1952”، وأراعي إمكانية قراءة كل جزء مستقلاً بمفرده، فلكل جزء نهاية تصل فيها الشخصيات إلى خاتمة معينة تمتع القارئ. الجزء الثاني في الواقع يبدأ من أزمة 13 كانون الثاني يناير 1954 حين وقعت اضطرابات في جامعة القاهرة. وكان هذا الحدث منذراً بأزمة تحت السطح تتعلق بالديمقراطية وكيفية تشكل نظام الحكم والصراع بين جمال عبد الناصر من جانب ومحمد نجيب من جانب آخر، في ذلك الوقت كان محمد نجيب يترأس مجلس قيادة الثورة والسلطة كاملة، من الناحية الشكلية، في يديه، بينما جمال عبد الناصر لم يكن قد بدأ يكشف عن شخصيته بشكل واسع، لكن السلطة التنفيذية كانت لا تخرج من يديه. وهذه الأزمة تطورت إلى أزمة آذار مارس الشهيرة والى الاستقالات التي تمت وإلى تمرد في سلاح الفرسان، وإلى عزل محمد نجيب وإلى نزول الناس إلى الشارع ثم عودة الرئيس محمد نجيب في آذار وصدور قرارات 5 آذار، وهي قرارات ارتجلها عبد الناصر ليكتسب رضا المتمردين في سلاح الفرسان وأعلن عنها، وعرفت بأنها قرارات 5 آذار. لكن محمد نجيب عاد وتتالت الأزمات في مجلس قيادة الثورة إلى أن تكسرت أجنحة محمد نجيب واستسلم ثم بدأت المفاوضات الجدية مع البريطانيين الذين كانوا يراهنون على تفجر الثورة ونظام الحكم من الداخل، وأسفرت عن اتفاقية الجلاء، إلى أن أطلقت الرصاصات الطائشة على جمال عبد الناصر في المنشية وأعقب ذلك عزل محمد نجيب ودخوله إلى فيلا المرج.. هذه أحداث كثيرة يعرفها قارئ التاريخ ويعرفها من عاشها، لكن المشكلة هي تحويل الأحداث إلى عمل فني، فوظيفة الفنان ليست سرد التاريخ ولكن تحويله إلى عمل فني ممتع يضيف إليه الكاتب رؤيته في تفسير هذه الأحداث أو تحمسه لرأي معين أو ترجيح رأي على آخر. الأحداث كثيرة في الفترة من كانون الثاني يناير إلى تشرين الثاني نوفمبر 1954 ولا يستطيع الكاتب الروائي الغوص فيها وتقديمها بشكل فج. عليه الاختيار والتركيز على السمات الإنسانية للشخصيات بحيث يكون هناك معنى لقراءة الرواية، وأنا اعتقد أن الرواية يجب أن تحقق شيئين أساسيين هما: المتعة الفنية والمتعة الروحية أو المتعة الجمالية. إذا لم تحقق هذا فالرجوع إلى كتب التاريخ أفضل، السياق الموجود في الرواية هو سياق مكمل لسياق “1952” بمعنى أن معظم الشخصيات في “1952” سنلتقي بها في “1954” بعد مرور عامين بالتقريب، لأن الجزء الأول بدأ في 26 كانون الثاني يناير 1952 وانتهى بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي في مصر في 9 أيلول سبتمبر 1952، والجزء الثاني يبدأ في 13 كانون الثاني يناير 1954″.
النزول إلى البحر..
وعن روايته ” النزول إلى البحر” وكونها رواية تاريخية يوضح “جميل عطية إبراهيم”: “لكل كاتب مبرراته وأسبابه الخاصة، ولم يكن واضحاً في بالي كتابة رواية تاريخية أو رواية أجيال. رواية “النزول إلى البحر” معظم أحداثها يدور في حي المقابر في القاهرة، والزمن الروائي فيها عصر الرئيس السادات والتحولات الكبيرة التي طرأت على مصر وعلى العالم العربي آنذاك. بعدما انتهيت من “النزول إلى البحر” ولاقت نجاحاً كبيراً لدى النقاد، وجدت من الضروري لفهم أشياء كثيرة العودة إلى ثورة 52، ليس ككاتب فقط ولكن كقارئ أيضا، لأني وجدت تساؤلات في الرواية لم يجد بطل الرواية إجابة عنها، بطل الرواية “سيد” الذي قطعت قدمه والذي كان عضو الاتحاد الاشتراكي أخذ يطرح تساؤلات في هذه الرواية لم يستطع الإجابة عنها. وأصبح هناك علامات استفهام كبيرة: لماذا حدث هذا؟ لماذا بعد 30 عاماً من الثورة في مصر تسكن الناس المقابر؟ ولماذا يذهب الرئيس السادات إلى الكنيست ويلقي خطاباً؟ ولماذا الفلاحون عاشوا كما هم؟ كل هذه التساؤلات جعلتني أعود كقارئ، كدارس للتاريخ، إلى قيام ثورة 52، أنا اعتقد أنه مهما كان للثورة من إيجابيات وسلبيات فهي أعظم حدث في التاريخ الحديث في مصر والعالم العربي. لذلك قررت أن أكتب “ثلاثية” عن الثورة متمثلاً في ذهني ثلاثية الأستاذ “نجيب محفوظ” عن ثورة 1919، وأعتقد أن الأستاذ “نجيب محفوظ” أضاف إلى فهمنا الكثير بالنسبة لثورة 1919، وأنا رأيت أنني من جيل ثورة 52 وأنا أقدر من غيري من الأجيال الأخرى سواء السابقة أو اللاحقة على كتابة تاريخ هذه الثورة. فتصديت لهذه الكتابة”.
وعن التجهيز للثلاثية يضيف: “درست دراسة أكاديمية، دراسة قراءات، وأجريت اتصالات بالناس وتحقيقات صحافية مع بعض أبطال الحدث. درست في الجزء الأول حريق القاهرة دراسة مستفيضة، وقضية إعدام خميس والبقري في كفر الدوار، وهي الجريمة الفظيعة التي أخطأت الثورة كثيراً بارتكابها. لم أضمن الرواية نتائج الأحداث التي درستها، ولكن، بعد عملية الدراسة كانت هناك عملية الاختيار والخضوع للضرورات، وأنت تذكر أنه في نهاية رواية “1952” نشرت قائمة ببعض المؤرخين الذين استفدت منهم وهذا ليس معتاداً في الرواية، وهناك مؤرخون ساعدوني كثيراً بكتاباتهم ولقاءاتي معهم مثل أحمد حمروش، صلاح عيسى، الدكتور رفعت السعيد، وكانت تقابلني مآزق في فهم بعض الأحداث التاريخية. يوجد هناك حدث تاريخي واضح ولكن ملامح شخصياته التاريخية غير واضحة. كنت اهتم وأسأل عن أمور يضحك منها المؤرخون، اسأل: في تلك الواقعة هل كنت متزوجاً؟ لديك أطفال؟ ألم تكن تخشى الاعتقال؟ ما الذي كنت ترتديه؟ وفي أوقات كنت أبحث عن درجة حرارة الجو في القاهرة”.
سلبيات 1952..
وعن الموقف السياسي في ثلاثيته يوضح: “في صباي كنت معجباً بالملك فاروق ولكن تغيرت الأحوال، أنا كتبت هذا العمل وأنا من المقدرين لدور ثورة 1952 في حركة التحرر المصري والعربي والإفريقي. لكن، في مراحل النضج أعرف أيضا سلبيات 1952 وهي أزمة الديمقراطية.. ثورة 52 كانت لا تثق في المثقفين الذين يتحمسون لها واستطيع أن أقول أن 90 في المائة من أصدقائي مروا بتجربة الاعتقال وطوردوا في أرزاقهم، وهذه التجربة لا أنساها. أنا لم اعتقل لأنه لم يكن لي نشاط سياسي مباشر ولكن جميع أصدقائي الذين اعتز بكتاباتهم دخلوا هذه التجربة المريرة جداً في تقييمي لثورة 52. عندما بدأت كتابة “1952” في سويسرا كانت طبول انهيار الكتلة الاشتراكية، وهذا سبب لي أزمة كبيرة جداً، أحسست أنني أكتب عن شيء خارج التاريخ. أتحدث عن ثورة والعالم كله معاد لفكرة الثورة وكلمة الثورة، كما لو كان العالم يعاديني وأنا أكتب عن ثورة 1952 أحسست أنني خارج التاريخ، فما قيمة العمل الذي أكتبه والعالم كله يسقط، ولكني صممت على كتابة التجربة كما عشتها وكما أؤمن بها وليس كما سوف يتقبلها الناس أو النقاد، وقلت، على الأقل، في مصر والعالم العربي سوف أجد قلة ترغب في فهم هذا العمل”.
المسألة الهمجية..
وفي حوار آخر أجراه معه “محمد أبو زيد” يقول “جميل عطية إبراهيم” عن روايته “المسألة الهمجية” وأسطورة الصهيونية: “إذا كان تاريخ البشرية هو تاريخ مقاومة الشرور فإن على الكاتب أن يقاوم دفاعاً عن بشريته لأن الهمجية ظلت وصمة عار وما تزال وصمة عار في عالمنا الحديث، لذلك فإن الرواية تلفت النظر إلى أن الهمجي يزاول همجيته وفقاً لمنطق خاص يضعه لنفسه ويؤمن به لكي يبرر همجيته ويعتقد الهمجي دوماً أنه على صواب وعلى استعداد لتقديم مبررات وأسانيد قانونية لأفعاله المشينة، وليس كما يعتقد بعض الناس بأن الهمجي لا يمتلك قانوناً ينظم همجيته ومن هنا تأتي أهمية الرواية فهي لا تدين الفعل الهمجي فقط ولكنها تكشف عن منطقه الخاص وتدينه”.
وعن إشكالية التعامل بين المثقف والسلطة يواصل: “هذه إشكالية موجودة منذ تشكلت السلطة ومنذ وجد المثقف وهي إشكالية تتسق في بعض العصور بالحدة، بل إلى حد إرهاب المثقف وفي عصور أخرى تتسم بالليونة ومحاولات الاحتواء والاستفادة من المثقف ويوجد في ذهني مثال واضح: يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الحالي كان في شبابه في الستينات من الطلبة المشاغبين والفوضويين ووجهت له أقصى الاتهامات وهو حالياً من أنجح وزراء الخارجية الذين عرفتهم ألمانيا، وهذا حدث لأن النظام الألماني سمح لهذه الشخصية أن تسير في طريقها الطبيعي وتصل إلى السلطة من موقع المثقف، الأنظمة الأقل عقلانية والأكثر استبداداً لا تعرف هذا المسلك وتصنف الناس إلى خانة أعداء وخانة أصدقاء، تماماً كأنظمتنا العربية، ومن الطبيعي دوماً أن تكون هناك خلافات واسعة بين المثقف والسلطة لأن من واجب المثقف النظر دائماً إلى تحقيق الأفضل بينما السلطة تؤمن بشعار ليس في الإمكان أبدع مما كان”.
شهرزاد على بحيرة جنيف..
في مقالة بعنوان (جميل عطية إبراهيم في «شهرزاد على بحيرة جنيف») يقول “محمد فرح”: “تضم الرواية ثلاثين لوحة سردية، ورغم التجزؤ تنتظم الرواية حول الموضوع الرئيس الذي حدده مبدعها وهو”شهرزاد على بحيرة جنيف”. وتدور الوقائع بين شخصيات رئيسة على رأسها الراوي ابن نجع البطوطة، والانجليزية”كريستينا”، وشهرزاد وأختها دنيا زاد، وثري عربي يصفه الراوي بأنه أمير نفط، وأحيانا بالثري الخليجي الأمير”ميتراس”شغله الشاغل مطاردة دنيا زاد للإيقاع بها، يعثر عليه مقتولا، إذ شنق نفسه في قصره بجنيف لأنه لم يتعلم الطبيخ. ينسج المؤلف الراوي في حكاياته عن الواقع العالمي، ومكانة العرب فيه مستندا إلى موقعه في قصر الأمم بجنيف. يخلط المؤلف الواقعي بالأسطوري، ويبرع في تخيل الأحداث مؤسسا لواقعية سحرية عربية متميزة المنابع والأهداف، وتحاول استكشاف موقعنا ضمن الواقع البشري في عولمة اليوم. البطل صعيدي ابن نجع البطوطة، مثقل بذكرياته وبحكايات الأجداد في النجع في الزمن القديم، تمرغ حمار في التراب حتى ارتوى ثم طار وتعلق بصاري المديرية وهات يا نهيق.. بطلنا حزين لأن الناس نسيت حكاية الحمار، وأضاعت تفاصيل غضبته وأسباب نهيقه من الذاكرة، لم يلتفت أحد من المؤرخين أو حتى مدرسي الكتاتيب إلى هذه الحكاية وسبب النهيق.. حكاية الحمار أسطورة مفقودة يأخذ الكاتب على عاتقه إحياءها لأن جده أبو علامة سجل تفاصيل الحكاية وشجار العمدة مع الحمار وأحاديث حفيدته من زوجته الثالثة مع الحمار، ويتخذ قرارا أن تكون رسالته ترتيب أوراق جده حول الحمار مقدمة للغوص بحكايات شهرزاد ومقارناته ومقارباته بين حكايات الشرق والغرب، أساطيرهم وأساطيرنا، كيف يفكرون وكيف نفكر؟ . الراوي ابن النجع بحكاياته عن الجن والحمير والعنزات الطائرة وكريستينا التي تجيد خمس لغات درست شكسبير والأدب الروسي، كريستينا تشعره أنها شهرزاد في جنيف وأنها في ورطة، فيبدأ الصعيدي بالبحث عنها.. شهرزاد جاءت تستذكر حكاياتها التي لا تتمتع بأية حماية مادية بعد مئات السنين، ربما جاءت للدفاع عن شهريار الذي امتلأت الصحف بصوره وتحتها اعتراف بقتل سبع فتيات نسمع الراوي يردد: ليحاكم شهريار أمام محكمة جنائية دولية.. يركز الكاتب على شخصية الثري “ميتراس” باعتبار ديدنه الجري إلى الخلف والعودة إلى حياة وحشية في ثوب عصري، رجل لا يهمه سوى تسهيل عمل شركاته العابرة للقارات، وتحويل العالم إلى غابة حتى يتواءم الواقع مع الشرائع قبل أن تهب موجات الثورات من جديد”.