16 نوفمبر، 2024 4:56 ص
Search
Close this search box.

جمعة الحلفي .. نقاء ضمير بمرتبة القلق الدائم

جمعة الحلفي .. نقاء ضمير بمرتبة القلق الدائم

علي عبد الأمير عجام
عرفت الشاعر والكاتب والصحافي جمعة الحلفي في أوساط سبعينيات القرن الماضي، لكنني عرفته أكثر وعميقا خلال عملنا المشترك في تحرير مجلة “المسلة” الثقافية المعارضة 2000-2003 والعمل الثقافي المناهض لسلطة النظام الديكتاتوري عبر “الإتحاد العام للكتاب والصحافيين العراقيين”، وخلالها لم أجد في الرجل إلا مثالا لصدق نادر ترجمه نصيا في أمسية نظمتها له في بيتي بعمّان وحضرها نحو أربعين كاتبا ومثقفا عراقيا، قرأ فيها مختارات من مجموعته الفريدة في شاعريتها ونسيجها الفني والفكري “عطر الغايب”.
وإذا كانت رحلة جمعة إبراهيم كاظم الحلفي التي قضى نحو ربع قرن فيها مثقفا عضويا حقيقيا في مقارعة نظام صدام حسين، وحالما بوطن أفضل لم يتحقق بعد 2003، قد تميزت بأشياء كثيرة، فإن الصدق كان يميزها على اتساعها وتعدد مراحلها، ذلك الصدق الذي عناها خياره في الابتعاد عن أي سقف حزبي، وذهابه الى رحابة الفكر والمعرفة والأدب.
هذه ليست بغداد؟
وبعد عودته/نا إلى بغداد في ربيعها القصير 2003، نشرنا حوارا معه في صحيفة “بغداد” التي توليت رئاسة تحريرها، أباح فيه عن الكثير من جوهره الإنساني والثقافي، فعن بغداد وملامحها التي عرفها من جديد بعد نحو ربع قرن من مغاردته لها قال” لم أجد بغداد للأسف… أقصد بغداد التي احتفظت بصورتها في ذهني وفي مخيلتي طوال الأربع والعشرين سنة الماضية، لم أجدها وإنما وجدت مدينة أخرى، مدينة شائخة ومتعبة ومرمدة. لم أجد شيئاً زائداً على المدينة التي تركتها في العام 1979 سوى تلك الكتل الإسمنتية الضخمة والمغبرة الخالية من أي مسحة جمالية، والتي كانت رائحة الحرائق لا تزال تنبعث منها، أما بغداد القديمة فقد وجدتها حزينة ومشوهة وبلا روح، وهذا ما جعلني أقف مشدوهاً وحزينا كالغريب في تلك الشوارع الأليفة، التي كانت بالنسبة لنا جزءاً من خارطة أرواحنا وصبواتنا.. كانت شرايين حياة تنبض في ذاكرتنا”.
موقد النار في ليالي الزمهرير 
وعن الشعر وموقعه في تكوينه الثقافي، لم يكن الرجل إلا صادقا أكان في توضيح معنى الشعر عنده ” كتبت الشعر منذ ثلاثين عاماً ولا أزال أحاول الكتابة دائماً. الشعر كان بالنسبة لي أحد الملا ذات، التي احتميت بها في سنوات الغربة، إنه يشبه موقد النار في ليالي الزمهرير”.
أما عن كونه مقلّا في نتاجه فأوضح “أنا مقل بمعنى التأني وانتظار لحظة الكتابة الحقيقية. التي تأتي من غير مواعيد ولا تحضيرات، لا يهمني كثيراً عدد المجموعات الشعرية بل تهمني قصيدة واحدة معبرة وصادقة ومدهشة، فهي تعادل “مجموعة” شعرية كاملة، مصنوعة صناعة مسبقة. الشعر الجيد والصادق هو الذي يحمل عطر الأشياء لا صورتها، إضافة إلى ذلك أنت تعرف طبيعة عملي، فالصحافة عمل منهك لا يعطيك الفرصة أحياناً لكي تحك رأسك، فكيف تكتب الشعر”.
للصحافة مقامها الرفيع
إلى جانب الشعر الشعبي كتب الحلفي الشعر بالفصحى والقصة القصيرة والرواية التسجيلية “مسار السنونو” فضلا عن العمل الصحافي المنضبط والدؤوب الذي باشره عام 1973 وكان من أسرة صحيفة الحزب الشيوعي العراقي “طريق الشعب” التي كان من بين آخر المغاردين لها قبيل إقفالها من قبل سلطة البعث بعد حملة السلطة على الحزب واعضائه ومؤسساته وانفضاض التحالف الذي جمعهما ضمن ما سمي “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية”.
وعن هذا التنوع وإكبار الصحافة يقول بصدق مرة أخرى “مرة سألني الروائي والناقد السوري، الصديق نبيل سليمان، السؤال ذاته بلهجة سورية محببة قائلاً: هل تريد بكتابتك للقصة القصيرة والرواية ان (تسبّع الكارات) أي ان تجمع سبع صنائع؟ فقلت له بين الجد والهزل: أبدا ان الأمر برمته مجرد إضاعة وقت وفي الحقيقة هناك شيء من هذا القبيل فالكتابة بالنسبة لي، شعراً كانت أم نثراً، عدا الصحافة طبعاً لانها مهنتي ومصدر عيشي، هي محاولة للترويح عن النفس ولتبديد الوقت إن صح التعبير، ولذلك فأنا لم أخطط يوما لأن أكون شاعراً أو قاصا أو روائياً بالمعنى البروتوكولي السائد، وهذا ليس من باب التواضع أبدا، إنه إحساسي الداخلي،  وربما ينطوي الأمر على عملية بحث ضمنية عن هوية ما، أو أنه حقاً مجرد تضييع وقت”.
السيرة إذ تمضي إلى حتفها
عن سيرته الشخصية، وبالصدق إياه يصفها بكونها “سيرة متواضعة وبسيطة بدأت في العام 1952 حيث ولدت في “العاصمة” ( منطقة الصرائف خلف السدة الشرقية ببغداد، وهي تكنى بـ العاصمة، نكاية ببغداد!) لعائلة فقيرة كانت هاجرت من أهوار محافظة العمارة في الثلث الأول من القرن العشرين، ولا تزال (أقصد السيرة) ماضية الى حتفها”!
ها هي سيرة الكفاح الطويل قد وصلت، مثلما قال، إلى حتفها، ولكنها في حقيقتها سيرة ضمير في قلق دائم، فها هي القيم العليا قد تهاوت إلى خيبات متواصلة، وأحلام “الحرية” قد انتهت إلى حقيقة من كوابيس “وطنية” لا تنتهي.
جمعة الحلفي.. إنسان يستحق أن ينثر الورد على نعشه وتطير به الملائكة.
* نقلا عن موقعه الشخصي :

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة