إعداد/ آية عبد العزيز
تعد زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى فنزويلا يوم الأحد الموافق 2 ديسمبر / كانون الأول 2018، محطة جديدة في السياسة الخارجية التركية تجاه دول أميركا اللاتينية؛ حيث يمثل “أردوغان” أول رئيس تركي يقوم بزيارة كراكاس منذ عقود لتوطيد العلاقات بين الجانبين في وقت يشهد النظام العالمي حالة من التحول الجوهري في نسق وبنية النظام نتيجة عدة متغيرات متلاحقة أدت إلى رغبة النظام التركي في التوجه خارج نطاق نفوذه لخلق موطئ قدم مختلف بعيدًا عن الشرق الأوسط وأوروبا ودول آسيا الوسطى. وقد أشاد “أردوغان” بسياسات الرئيس الفنزويلي ”
جاءت الزيارة بعد حضور “أردوغان” قمة العشرين في الأرجنتين؛ حيث عبر عن تعاطفه لـ “كراكاس” قائلًا “إن حكومة فنزويلا تضررت بصورة غير عادلة من العقوبات الدولية في ظل الأزمة الاقتصادية، حيث عاقبت دولة بأكملها”.
المشهد الفنزويلي من الداخل
تواجه كراكاس عدة تحديات داخلية على كافة الأصعدة بجانب العقوبات الدولية على النظام الحاكم، تكاد تعصف بأمن واستقرار الدولة الفنزويلية، على النحو التالي:
على الصعيد السياسي؛ تعاني كراكاس من استمرار حالة الحراك الداخلي بين النظام الحاكم برئاسة “نيكولاس مادورو” واليمين الفنزويلي، خاصة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في مايو/ أيار 2018، بنسبة 67.7% لولاية ثانية بنسبة المشاركة بلغت 32%، وفقًا للمجلس الوطني للانتخابات في فنزويلا.
وفي المقابل ندد العديد من الفنزويليين في بعض دول أميركا اللاتينية مثل كولومبيا، والأرجنتين، وتشيلي بجانب إسبانيا بنتائج الانتخابات ورافضين تولي “مادورو” وذلك لأن الانتخابات تفتقد الشرعية، والشفافية وفقًا للمعايير الدولية. (1)
على الصعيد الاقتصادي؛ يعاني الاقتصاد الفنزويلي من انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وانهيار قيمة العملة الوطنية “البوليفار الفنزويلي”، ومع ارتفاع معدلات التضخم الذي وصل إلى ما يقرب من مليون بالمئة في 2018، مما أدي إلى تراجع القوة الشرائية للمواطنين، بجانب انهيار الحد الأدنى للأجور. فيما بلغ العجز 20 % من إجمالي الناتج الداخلي، ووصل الدين الخارجي ما يقرب من 150 مليار دولار بينما لا يتعدى احتياطي النقد 9مليار دولار. (2)
والجدير بالذكر؛ أن كراكاس تمتلك أكبر احتياطات النفط في العالم ويمثل ما يقرب من 95% من عائدات صادرات فنزويلا.
على الصعيد الاجتماعي؛ يهرب العديد من المواطنين الفنزويليين من خطر الأوضاع الاقتصادية الطاحنة وذلك في أعقاب إصدار العملة الجديدة لمواجهة التضخم، وحالة عدم الاستقرار السياسي، إلى دول الجوار مثل البرازيل وكولومبيا وإكوادور؛ حيث بدأت الدول باتخاذ التدابير الوقائية والاستباقية على الدخول إليهم لمواجهة موجات الهجرة التي تزايدت بالتزامن مع تفاقم الأوضاع الداخلية. (3)
على الصعيد الدولي: تعاني كراكاس ضغوطًا دولية كبيرة في الآونة الأخيرة من أجل انتهاج استراتيجية سياسية قائمة على أسس الديمقراطية، فقد أقرت معظم العقوبات من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، مستهدفة بذلك قطاع النفط. (4)
مآلات التوجه التركي نحو كراكاس
حاول “أردوغان” إبان الزيارة توثيق العلاقات بين الجانبين؛ حيث صرح في المؤتمر صحفي عن رغبته في “مواصلة تعزيز العلاقات مع فنزويلا والحفاظ على الزخم الذي تم تحقيقه خلال العامين الماضيين.” كما أوضح في منتدى الأعمال إن “القيود التجارية والعقوبات خاطئة” محذرًا من أن مثل هذه الإجراءات لن تؤدي إلا إلى تعميق “عدم الاستقرار”. والجدير بالذكر إن التجارة الثنائية بين تركيا وفنزويلا قد قفزت أكثر من ستة أضعاف مقارنة بالعام السابق، لتتجاوز مليار دولار في الأرباع الثلاثة من عام 2018.
وفيما يتعلق بمحاولة الاغتيال التي تعرض لها الموكب العسكري لـ “مادورو” باستخدام طائرة بدون طيار في أغسطس/ آب 2018 واصفها “أردوغان” بانها “خيانة” ضد زعيم منتخب.
في المقابل قدم “مادورو” لـ “أردوغان” نسخة مطابقة من السيف الذي استخدمه بطل الاستقلال في فنزويلا، سيمون بوليفار، وزينه بميدالية، تسمى “إل ليبرتادور”، مخصصة لبوليفار. الأمر الذي أعتبره أردوغان رمزًا للصداقة بين أنقرة وكراكاس، كما تم توقيع عشر معاهدات بين الدولتين، في التعدين والتنقيب عن النفط والدفاع والنقل البحري. (5)
كما دعا “مادورو” الشركات التركية للاستثمار في قطاع التعدين خاصة في المناطق الواقعة في جنوب البلاد وتعرف باسم أركو ديل أورينوكو وهي منطقة ذات احتياطيات كبيرة من الذهب والماس والكولتان. مؤكدًا أن البلدين يتمتعان بعلاقات اقتصادية “مستقلة” بدرجة عالية من الشفافية. مُعربًا عن أمله أن تكون الزيارة هي تمهيد لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، وعليه تعتزم الشركات التركية استثمار نحو 4.5 مليار يورو في فنزويلا. (6)
دلالات التغلغل التركي في كراكاس
تعود العلاقات التاريخية بين تركيا وأمريكا اللاتينية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعد دولة تشيلي أول دولة قامت بالاعتراف بالجمهورية التركية في 1926، وبداءً من الأربعينات قامت أنقرة بافتتاح سفارات مقيمة في دول المنطقة.
وبالرغم من تميز العلاقات بين أنقرة ودول المنطقة إلا إن البعد الجغرافي أثر على أولويات التوجه التركي وانعكست بشكل عميق على الجانبين، وهو ما تجلى في الزيارات الرسمية رفيعة المستوى التي بدأت في منتصف التسعينيات لأول رئيس تركي “سليمان ديميريل” التي شملت كل من تشيلي، والبرازيل، والأرجنتين، وجاءت الزيارة الثانية في 2015 بعد مضي عقدين قام بها “أردوغان” لكل من كولومبيا، وكوبا، والمكسيك. والجولة الثالثة كانت في 2016 لكل من بيرو، والإكوادور، وتشيلي. هذا بجانب زيارة وزير الخارجية التركي في 2017 لبعض دول المنطقة، علاوة على اللقاءات على هامش اجتماعات القمم الدولية والمؤتمرات. وعليه تمثل الزيارة الأخيرة لـ كراكاس محطة جديدة للتوجه التركي حو المنطقة. (7)
وهنا يمكن التساؤل حول هذه الزيارة، لماذا كراكاس التي تعاني من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية متفاقمة أدت إلى هجرة السكان إلى الدول المجاورة هربًا من حالة عدم الاستقرار الداخلي؟
تتميز السياسة الخارجية التركية بكونها مرنة ولديها أولويات متغيرة وفقًا للمتغيرات الإقليمية والدولية المتلاحقة، هو ما تجسد في إبان الحرب الباردة وما بعدها فلم تكن المنطقة ذات أولوية لها، وبل كانت أولوية التحرك نحو الدول الغربية، ثم إلى منطقة الشرق الأوسط لخلق مؤطى قدم لها يتوافق مع مصالحها وطموحاتها التوسعية المستمرة.
وفي سياق التوسع التركي في دول المنطقة، تنتهج أنقرة استراتيجية التحرك الاستباقي عبر تمهيد الآليات التعاون بين البلدين على كافة الأصعدة تمثل ذلك في أن أنقرة قد أسست آلية للتشاور السياسي مع كراكاس من قبل بجانب 16 دولة من دول المنطقة.
كما تمتلك عددًا من مكاتب الاستشارات التجارية في كراكاس بجانب بعض عواصم أمريكا اللاتينية، بهدف تعزيز التبادل التجاري بين الجانبين، بجانب التطوير المستمر لرحلات الجوية التي تساهم توطيد العلاقات بينهم؛ حيث بدأت بتنظيم رحلات إلى كراكاس منذ 2016.
وتستند في بعض الأحيان إلى أضعف نقطة في النظم الإقليمية لتوظيفها لصالحها لتكون نقطة انطلاق لها إلى الدول الأقوى من خلال آليات القوى الناعمة المتبلورة في تقديم المساعدات والمنح، بهدف الدعم الإنساني ولكنها تكون البداية الفعلية للتغلغل داخل دول المنطقة.
إجمالًا؛ فبالرغم مما تواجه كراكاس من عقوبات دولية وتحديات داخلية إلى إنها تتمتع بثروات معدنية ونفطية هائلة، يمكن الاستفادة منها، فكلا الجانبين يحتاج لدعم الأخر فأنقرة تحتاج لفتح أسواق جديدة لمنتجاتها، علاوة على رغبتها في الاستثمار في مجال التعدين والطاقة. علاوة على تنشيط حركة السياحة إليها عبر توسيع خطوط النقل الجوي بين الجانبين، فضلًا عن تعزيز العلاقات التجارية وزيادتها إلى الحد المأمول.
في المقابل تحتاج كراكاس لدعم خارجي لتخفيف الضغوط التي تواجهها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما تسعى إلى الاستفادة من التوجه التركي من خلال زيادة الاستثمارات، وتلقي المساعدات من أنقرة لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، وتهدئة الأوضاع الداخلية.
الهوامش:
1- “الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يفوز بولاية ثانية والمعارضة تطعن في النتائج”، فرانس 24، مايو 2018.
http://cutt.us/Uxjp9
2- “اجراءات اقتصادية جديدة لانعاش الاقتصاد المنكوب في فنزويلا”، فرانس 24، 28/8/2018.
http://cutt.us/nMe9L
3- ” تفاقم أزمة فنزويلا مع فرار المئات يوميا عبر الحدود”، هيئة الإذاعة البريطانية، 21/8/2018.
http://www.bbc.com/arabic/world-45257450
4- ” كارثة العملة الفنزويلية”، سكاي نيوز عربي، 20 أغسطس 2018.
http://cutt.us/uo2Sj
5- “Turkey determined to enhance ties with Venezuela: Erdoğan”, Daily News, 4/12/2018. http://www.hurriyetdailynews.com/turkey-determined-to-enhance-ties-with-venezuela-erdogan-139417
6- خلال زيارة أردوغان.. مادورو يحث الأتراك على الاستثمار في فنزويلا”، روسيا اليوم، 3/12/2018.
http://cutt.us/pLh66
7- صحيفة إسبانية: تركيا تركز اهتمامها مجددا على أمريكا الجنوبية، ترك برس، 8/12/2018.
https://www.turkpress.co/node/55559
المصدر/ المركز العربي للبحوث والدراسات