خاص : عرض – سماح عادل :
دائماً ما يشغلنا معرفة كيفية نشأة الإنسان وتطوره.. وكيف تحول إلى مروض للحيوانات وللطبيعة ؟.. هذا السؤال شغل بال الكثيرين على مر العصور وقدموا له تفاسير استنتاجيه تعتمد على الخيال، وفي العصر الحديث، ومع تقدم العلم، أصبحت الإجابة عن هذه التساؤلات متاحة، وإن كانت غير مؤكدة بشكل مطلق، لكنها أقرب إلى اليقين لأنها تعتمد على الإكتشافات العلمية في مجالات العلم المختلفة، مثل دراسة الأحياء، ودراسة مخلفات الإنسان من العصور القديمة، من هياكل عظمية وبقايا ومن أدوات تركها خلفه، وأبنية حافظت عليها الأزمان.
نظرية موحدة للتطور..
يعتبر علم الأحياء التطوري فرع من فروع العلم، فلقد خطا العلم خطوات كبيرة في القرون الثلاثة الماضية في فهم كيفية عمل الطبيعة، وعلاقة الإنسان بها، مع حلول العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بدا إجماع من علماء الطبيعة وعلماء الوراثة وعلماء الإحاثة، “دراسة أشكال الحياة القديمة”، حول نظرية موحدة للتطور، عرفت بنظرية التركيب التطوري، وبحلول منتصف القرن العشرين تم الاتفاق على فهم عملية التطور بإعتبارها تعديل في جينات الأنواع الحية عبر الإمتدادات الواسعة للزمن، حيث برهن التنوع الهائل للحياة على إنقسام السلالات، وقد إعتبرت التغيرات البيئة والعوامل الجغرافية؛ مثل إرتفاع السلاسل الجبلية وتغير مسار الأنهار، بمثابة عوامل ساعدت على تقسيم الأنواع الحية المنحدرة من سلف واحد إلى إثنين أو أكثر من السكان المنحدرين من هذا السلف، محولة كل قسم منها إلى مساره التكيفي الخاص، وفي النهاية يصبح كل قسم من السكان مختلفاً بما فيه الكفاية عن أبويه بما يؤهله ليكون نوعاً إحيائياً جديداً.
أسلاف الإنسان..
ليس هناك اتفاق بالإجماع على زمن ظهور عائلة أسلاف الإنسان، عائلة القردة العليا، إلى الوجود بدقة، غير أن أكثر العلماء راضون نسبياً، في الوقت الحاضر، عن فكرة أن السلف المشترك الأخير للبشر ولواحد أو أكثر من القرود قد عاش قبل حوالي 7 ملايين سنة، ويعد الوقوف المنتصب على القدمين في الوقت الحاضر الخاصية السرية المميزة للسلالة البشرية. والأحفورة الأكثر شهرة من أسلاف الإنسان هي “لوسي”، وهي عبارة عن هيكل عظمي لفرد صغير جداً، ولذلك يفترض أنها أنثى عاش قبل 3 مليون سنة أكتشفت في إثيوبيا، ويقترح العلماء أن أسلاف الإنسان الأوائل ربما عاشوا على شكل مجموعات متعددة الإناث والذكور ذات حجم متغير، تنفصل أثناء نشاطات اليوم لكنها تعيد تشكيلها في الليل في قواعدها المحمية بشكل جيد، فتنام على المنحدرات وفي الأشجار.
وقد حاول العلماء تحديد الفائدة التي أكدت النصر النهائي للأفراد الثنائيي الأقدام من العائلة الكبرى لجميع القرود، في بيئات غير الغابة، وكان العنصر الأساس لهذه الفائدة تحرير الأيدي من حمل وزن الجسم، لتكون متاحة لتعديلها واستخدامها لأغراض أخرى كحمل الأشياء أو معالجتها.
الإنسان العامل..
صنف العلماء أول نوع من الإنسان باسم “الإنسان العامل”، أي الذي سعى لعمل أدوات تساعده من الحجر، حيث قام بثقل أحجار حادة ليقطع بها لحم الحيوانات التي يتناولها، وقد بدأ “الإنسان العامل” قبل حوالي 5.1 مليون سنة بتصنيع نوع جديد من الأدوات الحجرية تختلف عن تلك التي تتميز بحواف قاطعة حادة، هذا النوع الجديد من الأدوات يحتاج عملاً مركزاً، وكان على شكل الفأس، وبدأت هذه الأدوات تنتج بأعداد ضخمة، وتشير تلك الفئوس إلى نوع ما من القفزة المعرفية لدى من صنعها، لإصطياد حيوانات أكبر حجماً من التي صادها أسلافهم.
كان كل أفراد عائلة أسلاف الإنسان محصورين في إفريقيا إلى أن جاء زمن “الإنسان العامل”، وليس هناك تقارير موثقة من أي مكان آخر في العالم لفترة ما قبل حوالي 2 مليون سنة عن أحافير أسلاف الإنسان، لكنه حالما ظهر على موقع الأحداث البشر الذين لهم حجم جسم الإنسان الحديث، تبين أنهم لم يتركوا بسرعة القارة التي ولدوا فيها فحسب؛ بل أنهم أيضاً أخترقوا كامل الطريق إلى شرق آسيا بفترة قصيرة من الزمن، فقد إبتعد أسلاف الإنسان الأوائل بشكل واضح عن قارتهم المحلية إفريقيا على عدة موجات، إذ حدثت أول هجرة بعد فترة قليلة من قبل 2 مليون سنة إلى القوقاز، عبر أواسط آسيا وجنوب الصين، وموجة ثانية من المهاجرين إلى أوروبا وموجة ثالثة إلى أوروبا والصين.
الإنسان العاقل..
جاءت مرحلة “الإنسان العاقل”، الذي نشأ في إفريقيا، ككيان قابل للتميز من الناحية التشريحية في ما بين 200 ألف و150 ألف سنة تقريباً، لقد بدأ هذا النوع قبل 80 ألف سنة بالتعبير عن سلوكيات رمزية حديثة، وقبل 50 ألف سنة غادر تلك القارة وأتجه شرقاً إلى أستراليا، وبعد احتلاله العابر لشرقي البحر المتوسط قبل 90 ألف سنة دخل أوروبا حوالي 40 ألف سنة.
يرجح وجود عدة أنواع من أسلاف الإنسان في إفريقيا في الأيام المبكرة، وحتى لو أن بعض هذه الأنواع فقط قد أشترك في البنية الفيزيائية الجديدة في الفترة التي تلت حوالي 2 مليون سنة مضت، يمكننا أن نفترض أن هناك شيء من التنافس كان بينهما بشكل متقطع.
أسلاف البشر اختبروا فترة حرجة منذ زمن ليس ببعيد، وانخفض عددهم إلى بضعة آلاف أو حتى بضع مئات، وانطلاقا من هذا العدد الصغير توسع الجنس البشري بشكل سريع ليهيمن على العالم، عبر التكيف مع الظروف المحلية في كل منطقة مستعمرة حديثا، ولهذا السبب نحن قادرون على تمييز الاختلافات الجغرافية الكبيرة بين البشر الإفريقيين والآسيويين والأوربيين، ولكن عند النظر عن قرب تختفي خطوط التقسيم الواضحة، لأنه على الرغم من أن التنوع المحلي بين السكان يعد صفة مألوفة بين جميع الأجناس، إلا أن الأصل لكل البشر واحد.
ومنذ انتهاء العصر الجليدي الأخير سادت عملية الاندماج بين الجماعات البشرية، ولهذا السبب لا جدوى من تصنيف الكائنات البشرية ضمن فئات عرقية، ومن الصحيح أنه أثناء التوسع الجغرافي الأول لجنسنا من المتوقع أن الجامعات البشرية المحلية في مختلف أنحاء العالم قد طورت صفات محلية مميزة نتيجة للعمليات الجينية الروتينية التي كانت تحدث ضمنها، ولقد اجتمع العلماء على وجود سلف إفريقي “للإنسان العاقل” نشأ قبل ما لا يزيد عن 150 ألف:200 ألف سنة، وتنقل نتيجة لتقلبات المناخ والبيئة والأنواع المنافسة إلى باقي أنحاء العالم، ومن الواضح مثلا أن الاختلافات في نوع البشرة يرجع إلى الاختلافات في الإشعاعات فوق البنفسجية المحيطة، والخاصة بالبيئة المكانية.
الإنسان العاقل يسود..
استمر “الإنسان المنتصب” أو نوع قريب له في شرق آسيا أثناء فترة الوصول المفاجئ ل”الإنسان العاقل” إلى المنطقة، وانتهى السيناريو إلى اختفاء نوع “الإنسان المنتصب” لصالح “الإنسان العاقل”، إما بالتزاوج أو بالتغلب عن طريق القوة لا نعرف بالتحديد.
الوعي البشري..
أن ظهور قدراتنا الإدراكية نتج عن لقاء بين خصائص غير مترابطة، وإلى حين ظهور “الإنسان العاقل” لابد أن الدماغ البشري قد تطور، بصرف النظر عن الأسباب، إلى درجة أن تغيرا جينيا بسيطا، ربما ترافق مع نتائج تطورية عميقة، كان كافيا لإنتاج بنية تتمتع بإمكانات جديدة كليا، لكن رغم ذلك لا نزال لا نعرف كيفية تحول مجموعة من الإشارات الكيميائية والكهربائية المتبادلة بين الخلايا العصبية إلى ما يعرف بالوعي البشري، ونتيجة لذلك غير واضح على الإطلاق ماهية التغير الفيزيائي الأخير الذي جعل سلفنا المباشر قادرا على التفكير الرمزي، فوفق المعلومات المتوفرة ظهر التركيب البنيوي الحديث البشري قبل فترة من بدء “الإنسان العاقل” التصرف بالطرق التي هي مألوفة اليوم، وبوجود البنى الببيولوجية الضرورية انتظرت قدرة التفكير الجديدة إطلاقها ليس عن طريق أي إبداع بيولوجي، ولكن عبر محفز ثقافي من نوع ما، يعتقد الكثير من الباحثين أن هذا المحفز الثقافي هو تطور اللغة، ويجمع العلماء على أن ظهور قدرة البشر على التفكير كان حدثا جديدا وناشئا ولم يكن نتيجة لعملية تدريجية.
الحياة المستقرة ..
خلال نهاية العصر الحجري القديم، من حوالي عشرة آلاف سنة، كانت الكائنات البشرية وأسلافها في حركة دائمة بشكل مستمر، لقد عاشوا حياة الصيد والجمع حتى بعد أن بدأوا في تأسيس مواطن أصلية لهم، حالما ظهر الإنسان العاقل على المشهد قام أسلاف الإنسان على الأرجح بتغيير نشاطاتهم من تلك التي كانت تعتمد على الطوفان بحثا عن الطعام، إذ كانوا يتجولون حول مناطق الطبيعة ليستفيدوا من المصادر التي يصادفونها، إلى نشاطات كائنات من الجامعين الذين يراقبون عن كثب مصادر الطعام حولهم، ويخططون لاستغلال المصادر المحلية وفقا لذلك، ومع نهاية العصر الجليدي الأخير كانت بعض شعوب العصر الحجري العلوي قد طورت طرقا لتمديد فترة إقامتها في أماكن محددة، مثل هذا النوع من فترات الإقامة الطويلة كان متاحا بفضل تطور تقنية التخزين عن طريق تخزين اللحوم في حفر في الأرض.
كان للتغيرات البيئية الناتجة عن التحولات المناخية في نهاية العصر الجليدي الأخير تأثير ملحوظ على شعوب “الإنسان العاقل”، والتي كانت آنذاك مشتتة في كافة أنحاء العالم القديم، وكان رد فعل الإنسان العاقل على تلك التغيرات مختلفا عن استجابات أسلاف الإنسان الأوائل، وكانت المنطقة التي تأثرت بشكل خاص بالتغيرات المناخية الحديثة هي منطقة الشرق الأوسط، في هذه المنطقة كانت الشعوب تعتمد على جمع الحبوب البرية ثم وجدت نفسها مع تغير المناخ تتعرض لخفض الإنتاج الطبيعي لهذه المصادر من الحبوب، وللتعويض عن هذه المصادر بدأت شعوب الشرق الأوسط، وخاصة منطقة الهلال الخصيب، من 11 ألف إلى عشر آلاف سنة مضت عملية الزراعة والانتقاء، فقد قاموا بزرع الحبوب البرية وأولها القمح ثم الشعير والبقول والعدس والحمص، كما دجنوا الحيوانات، وكان الكلب أول حيوان قام الإنسان بترويضه، وذلك لاصطياد الحيوانات، كما روضت الأغنام والبقر، لقد أدى الوجود المستقر المبني على الزراعة بشكل مباشر إلى تغير في بنى المجتمعات الإنسانية وأشكال التنكولوجيا التي تستخدمها.
تعقيد المجتمعات..
فسر العلماء اتجاه المجتمعات البشرية للتحول من البساطة إلى التعقيد بسبب النمو البسيط لعدد السكان، والتنافس مع المجتمعات المجاورة، والحاجة إلى آليات لتوزيع منتجات الزراعة وضرورة التخطيط، أن الفترة ما بين 10 آلاف و6 آلاف سنة كانت فترة انتقال عالمية من حضارات الصيد والجمع البسيط إلى أشكال أكثر تجذرا نعدها حضارة، وكان الناس في مجتمعات المتنقلين المقتاتين على الصيد والجمع يميلون إلى التوحد بشكل وثيق مع البيئة المحيطة بهم، ليفهموا أنهم جزء من هذا المحيط وليعترفوا أنه وبسبب أن البيئة تطعمهم وتكسيهم لديهم بالمقابل مسؤولية تجاهها، في حين أن الزراعة والاستقرار قد جعلت الإنسان ينفصل عن الطبيعة ويحاول السيطرة عليها وامتد ذلك إلى التأثير على الطبيعة وإيذائها.
المصدر: كتاب “العالم من البدايات حتى عام 4000 قبل الميلاد” ل”إيان تاتيرسول”، ترجمة “حازم نهار”، إصدار أبو ظبي للثقافة والتراث.
https://www.youtube.com/watch?v=k2oDAxLQG1E