10 أبريل، 2024 11:13 م
Search
Close this search box.

حميد العقابي.. كتب عن الديكتاتور والحرب وظل مسكونا بالوطن

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: كتبت- سماح عادل

“حميد العقابي” شاعر وقاص وروائي عراقي، ولد في مدينة الكوت في العراق في 1956، رحل عن العراق في 1982، تعرض للأسر في إيران ثم عاش في سوريا وبعدها أقام في الدنمارك منذ 1985.

كتب “حميد العقابي” الشعر والقصة القصيرة والرواية وله حوالي عشرون عملا إبداعيا، لكنه كان يعاني من صعوبة النشر، ومن قلة انتشار أعماله في البلدان العربية مثل معظم الكتاب العراقيين، ورغم ذلك كان بارعا في أدبه واستمر يكتب حتى فاجأه الموت بسكتة قلبيه في منفاه بالدنمارك.

الكتابة..

في حوار مع “حميد العقابي” أجراه معه “عبد الواحد مفتاح” يقول عن الكتابة وشغفه بها :” لا أدري، كل ما أتذكره هو أني كنت طفلاً مهووساً بالأشياء الغامضة والحوار معها بلغة صامتة، حتى كان أهلي يظنون أني مجنون وأهذي بكلمات لا يفهمونها. الكتابة عندي الآن فعل يومي، أمارسه في كل لحظات يقظتي. لا أعيش تفاصيل الكتابة بل أعيش التفاصيل اليومية وألعب معها ألعابي الطفولية، كأن تختبئ وأنا أبحث عنها وحينما أقتنصها أفرح، وأضحك مثل طفل”.

وعن النشر في الفضاء الالكتروني الانترنت يقول “حميد العقابي”: ” قبل الانترنت كان النشر في الصحف أو المجلات وسيلة لعرض البضاعة، أما الآن فقد تغير الأمر جذرياً، حيث أصبح النشر بالنسبة إلي جزءاً مكملاً للعملية الإبداعية، فالنشر أصبح ضمن العملية الإبداعية نفسها، فكما الحال في كتابة القصيدة أو القصة لإثبات وجود في هذا العالم، أصبح النشر اليومي بالنسبة لي كتابة ثانية للقصيدة ضمن الممارسة التي تُشعرني بأني مازلت على قيد الحياة أو كما أسميتها في إحدى قصائدي بأنها حفر في الحلم لكي أتيقن بأني ( سأزال حياً )”.

يقول “حميد العقابي” عن كتابته للشعر: “على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاماً على كتابتي للشعر، إلا أني لم استطع أن أمسك بناصية القصيدة، ولم أتعلم وسيلة لاستدراجها، سوى أني تعلمت الإصغاء إلى إيقاعها البعيد وهيأت نفسي لاستقبالها، لذلك حينما تأتي بغتة تنسيني كل شيء خارجها. لا أفكر مطلقاً بأي أفق للقصيدة سوى أني أحاول كل جهدي لملمة الأشعة المنكسرة بموشور اللاوعي والمحافظة عليها من التشتت”.

وعن التخلص من كتاباته يقول: “الإبداع وإنْ كان يعتمد على الموهبة، وبالمناسبة، أنا لا أعرف تعريفاً دقيقاً لهذه الكلمة ولكني أتحسسها وهي ربما مجموعة عوامل تتضافر في شخصية المبدع ، إلا أنه ( الإبداع ) خبرة تنتجها الثقافة والإصغاء إلى التجربة الحياتية والروحية، لذا فأن الموهبة الفطرية لها سقف محدد لا يمكن أن تتجاوزه لتحلّق أبعد، ولا يخلو أي إبداع من صناعة وحرفية، ومن هنا أرى أن من حق المبدع أن يلغي تجاربه الأولى وإن كانت في بعض الأحيان تحمل ملامح براءة وطفولة قد يفتقدها المبدع في كهولته. أما بالنسبة إلي فأنا مازلت أمزق مما أكتبه أكثر مما احتفظ به. لا علاقة لهذا الأمر بمسألة الكمال ولكن هي حالة طبيعية لتطور وعي الكاتب المستمر ونضوجه بسبب تراكم التجربة”.

الشعر العراقي..

يقول “حميد العقابي” عن الشعر العراقي: “الجواب الوافي على هذا السؤال قد يحتاج إلى كتابة مئات الصفحات، لأنه يتطلب استعراضاً لميزات الشعر العراقي وملامحه ومسيرة تطوره على الأقل في العقود الستة الأخيرة. الشعر العراقي حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي كان نبعاً ثرياً من ينابيع الشعر العربي، وللـ (مذهب البغدادي) في الشعر تقاليد قديمة استطاعت حماية الشعر العربي من الانحدار نحو هوس التجريب المتهور الذي كان ولا يزال (المذهب الشامي) يمارسه في الشعر العربي، لكن ما حدث منذ منتصف الثمانينات، وضمن المحاولة الشاملة في تخريب الروح العراقية، ظهر جيل عراقي استهوته اللعبة الشكلية ووجد تأييداً من النظام السياسي العراقي لأنه وجد فيها طريقة لإلهاء الشاعر العراقي عن مهمته الجمالية الحقيقية بإشغاله بجنوح يدّعي أكثر مما يقول، فسادت في هذه المرحلة نصوص معبأة بالخواء الدّعي وبالصوت الزاعق ثرثرةً، لكني أثق في البيئة العراقية بأنها ولاّدة. أرى أن جيلاً جديداً من الشباب الآن يكتبون قصائد رائعة”.

ويواصل عن الأدب وعلاقته بذات كاتبه: “أنا ضد مقولة نيتشه بأن الفنون تجعل الحياة مستساغة. أنا أرى العكس تماماً. الفنون هي تقريظ للحياة. كلما عشتَ الحياة بعمق أصبحت أكثر قدرة على كتابة قصيدة جميلة أو رواية عميقة أو ترسم لوحة باهرة… لذلك أرى أن القفز على الواقع وهمٌ، وهمٌ كرّسه الفهم الديني للحياة، فتخيّل الشاعر نفسه نبياً حازَ على اليقين، فأعطى لنفسه الحق في التعالي والوعظ، وهذا الفهم (للأسف) سائد في الأوساط الأدبية العربية، لذلك تجد النرجسية والأنا المنتفخة عند الشاعر والتي أدّت إلى أن تتحول القصيدة إلى استعراض إدعائي شكلاني ممتلئ بخوائه، وكثر استخدام أفعال الأمر وصيغ النهي. أنا أميل إلى الأدب الحسي المتواضع غير المتعالي على الإنسان بطبيعته الحقيقية، والذي لا يطمح إلى امتلاك أكثر من خمس حواس يستخدمها الشاعر بشكلٍ مهذب وعميق”.

أصغي إلى رمادي..

وعن مجموعته المثيرة للجدل يقول “حميد العقابي”: ” (أصغي إلى رمادي) هو كتابي السردي الأول، صدرت طبعته الأولى عام 2002، فبعد أن أصدرت خمس مجاميع شعرية توقفت لمراجعة تجربتي في كتابة قصيدة النثر. وجدت أني أتحايل على نفسي في كتابة قصيدة النثر، فاللجوء إلى السرد في القصيدة هو تعويض لغياب الإيقاع، لذلك فكرت أن أعيد النظر في ما كتبته كقصائد نثر. حوّلت بعضها إلى قصص قصيرة، وعدت إلى طفولتي الشعرية في كتابة قصيدة التفعيلة، لكني في الوقت نفسه اكتشفت في السرد متعة لا تقل عن متعة كتابة الشعر. خطر في ذهني أن اقتحم هذا المجال، فبدأت بكتابة فصول من سيرتي الذاتية . جمعتها في كتاب وأصدرته فلاقى إعجابا واهتماماً لم أكن أتوقعه وصدرت منه طبعتان. لهذا الكتاب وقع عزيز في نفسي لأني كتبته ببراءة طفل يركّب لعبته ثم ينثر أجزاءها على الأرض ليعيد تركيبها ثانيةً دونما قصد سوى المتعة باكتشاف ما فاته اكتشافه من أحداث مر بها”.

العراق و الحرب..

عن العراق وأزماته يقول “حميد العقابي” : “العراق، الحرب، صدام حسين.. هذه المفردات اللعينة هي التي شكّلت تفاصيل حياتي ولم أستطع التخلص منها. تصور.. أنا أقيم خارج العراق منذ 31 سنة ولكني مازلت أحلم كل ليلة (تقريباً) بأني عائد إلى العراق وشرطة صدام السرية تطاردني في الشوارع وأنا أركض.. أركض والقذائف تسقط بين ساقيّ، وحينما استيقظ أحمد القدر على أني أعيش بعيداً عن موتي بآلاف الأميال، حتى وإن كان مكان إقامتي موحشاً”.

أسر ومنفى..

وعن منفاه الطويل يقول: “عام 1982 هربت من العراق مشياً على الأقدام إلى إيران عبر جبال كردستان. في إيران عشتُ ثلاث سنوات في معسكرات اللجوء التي لم تكن تختلف عن أبشع المعتقلات. خلال هذه المدة حاولت الهرب مشياً إلى أفغانستان وتم القبض علي من قبل (المجاهدين) ثم تم تسليمي إلى الشرطة الإيرانية ليلقى بي في سجن داخل سجن، حتى استطعت السفر إلى دمشق بعد أن قام أحد الأصدقاء بعمل دعوة لي. بقيت في دمشق ستة أشهر، كانت هناك معاناة تختلف عن المعاناة السابقة حيث عشت فيها الجوع الحقيقي والتشرد والنوم على الأرصفة، لحين وصولي بما يشبه المعجزة إلى الدنمارك. رحلة متعبة ولكن كما يقول كافافيس إن الطريق إلى إيثاكا منحتني تجربة لولاها لم أكن كما أنا الآن، فهي على الرغم من مأساويتها إلا أنها كانت تجربة غنية ولا تخلو من متعة وتمارين في تعلم المشي على طريق الإنسانية الحقيقي”.

الجنس في الأدب..

يقول “حميد العقابي” عن كتابته عن الجنس في أدبه: “الكتابة عن الجنس أو عن الثالوث المحرّم (الدين، الحاكم والجنس)، هو جزء من ممارسة الكاتب لحريته، ولكن هذا الأمر تحصيل حاصل وليس دافعاً للكتابة، فالكاتب الذي يحرص على حريته ولن يساوم عليها مهما تكن الظروف لا يضع في حسابه اهتماماً للتابوهات، وحتى اختراقها لا يأتي لغرض المشاكسة أو الاستفزاز بل هو لا يضع في حسابه سوى الصدق. الدافع الأساسي في الكتابة عن الجنس أو الدين هو أن هذه التابوهات تشكل الجوهر الأساسي للإنسان، وكل كتابة تبقى ناقصة إذا تجاهلت هذا الأمر. في رواية ( الضلع) التي صدرت عن دار الجمل عام 2005، تناولتُ مسألة الكبت الجنسي وتأثيره على الشخصية العراقية، ولم يكن الجنس هو المحور الأساسي أو الوحيد في الرواية بل جاء موضوع الكبت الجنسي كملمحٍ من ملامح الشخصية المستلبَة التي شكّلها الأب والحاكم ورجل الدين فتحولت إلى شخصية انهزامية، سلوكها الحياتي كله عبارة عن عملية استمناء ليس جسدياً فقط، بل هي تستهلك حياتها في ممارسات إيهامية لكي تهرب من مسؤوليتها في المواجهة لتحقيق طموحها الإنساني الحقيقي”.

التميز والمغايرة..

وفي حوار آخر مع “حميد العقابي” ونشر في صحيفة “الصباح” يجيب عن سؤال عن ما اتصفت به كتاباته من مغايرة ومشاكسة في الفكرة والأسلوب واللغة: “لا أدري إن كان هذا الوصف ينطبق علي حقاً أم لا، ولكني سأصدّقه. أعتقد أن الأمر لا يتعلق بالمغايرة أو المشاكسة، وإنما هو طريقة تفكير وأسلوب حياة. فكرة الخصوصية هي هاجس كل كاتب، والوصول إلى هذه الخصوصية أمر قد يبدو صعباً وقد يبدو في منتهى السهولة، لأنه يعتمد على معرفة المبدع لنفسه. هذه المعرفة ستشكل له مناعة ضد ما يتسرب إليه من أفكار الآخرين وتمنعه من التطفل على تجاربهم وتقمصها. هناك أمر لاحظته عند المبدع الكاتب العربي وهو أنه ينظر إلى الإبداع كنتيجة وكمصير في حين أن الإبداع الفني هو وسيلة لمعرفة الحياة، أو بالأحرى لمعرفة جانب من الحياة وربما جزئية منها. أنا أخالف رأي نيتشه حول الفن بأنه يجعل الحياة قابلة لأن تعاش. أنا أرى العكس تماماً، فالفن هو تقريظ للحياة، وعلى المبدع أن يعيش أولاً، وكلما توغل في العمق أنتج فناً عميقاً. من هنا آليت على نفسي أن أكتب ما أعيشه. والخصوصية لا تأتي مما يفكر فيه المبدع، فالفكرة التي تخطر في ذهنك قد تكون خطرت في ذهن غيركَ، فالأفكار الذهنية تتشكل في أغلبها من تسربات الثقافة المدونة في الكتب. أما ما يعاش بعمق فهو بصمة إبهام المبدع التي لا تتشابه مع بصمة مبدع آخر”.

أدب الحرب..

وعن بداياته يقول “حميد العقابي” : “أنا لا أنتمي إلى جيل الثمانينيات، وإنما إلى جيل النصف الثاني من السبعينيات، بل إلى فئة صغيرة من هذا الجيل لها مواصفات خاصة، فنحن مجموعة من الكتاب والشعراء العراقيين بدأنا النشر في نهاية السبعينيات ثم غادرنا العراق، ربما قبل اكتمال أدواتنا الكتابية إلى (المنفى)، وهناك تبلورت تجاربنا بما يحمله المنفى من تراكمات إيجابية وسلبية، فإذا كنت تقصد بجيل الثمانينيات هو الجيل الذي عاش في العراق خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية فبالضرورة هناك اختلاف بيني وبينهم، بل أنا لا أتورع عن إلغاء أغلب ما كتبه هذا الجيل، فقد سادت في العراق خلال هذه الفترة موجة من الكتابات تختلط فيها العبثية والبعثية لكتاب وشعراء وجدوا في إدعاء الحداثة ستراً يقيهم من مواجهة الواقع فراحوا يملؤون الصفحات بانثيال من ركام جمل مبهمة تعتمد على تلاعب بالكلمات الفارغة واهمين أنفسهم بأنهم يكتبون شعراً أو قصة في حين أنهم لا يكتبون سوى خواء، ناهيك عن أدب الحرب والتعبئة التي أترفع عن مقارنة نفسي به”.

وعن الشعرية في سرده يقول : “ذكرتُ في حوارات وشهادات سابقة بأني شاعرٌ، وبصراحة أنا إنسان بدائي يثيره الإيقاع قبل الفكرة. أما عن شعرية نصوصي النثرية فهي عفوية وليست عفوية في الوقت نفسه. عفوية، لأني أكتب نفسي ولا أتصنع الحالة أو أستعير أسلوباً من الآخرين. أما عدم عفويتي فيكمن في أن لي رأياً مسبقاً في الكتابة السردية (الرواية بشكل خاص)، إذ أني أرى أن أغلب السرد الروائي مملٌ وسطحي ورخو، لذلك أحاول أن أستخدم كل ما أتقنه لاجتراح أساليب جديدة لتوسيع دائرة التأويل في السرد الروائي بما هو متاح من وسائل، والشعرية إحدى هذه الوسائل. بالمناسبة، أنا لا أكتب شعراً وإنما أكتب القصيدة، وفي رأيي هناك اختلاف بين الشعر والقصيدة، فالشعر موجود في كل تفاصيل حياتنا، أما القصيدة فهي بناء هندسي محكم ومحسوب بدقة. لذلك أنا أطمح لكتابة رواية بشروط القصيدة، أعني رواية خالية من الزوائد ومبنية بناءً معمارياً يختل لو تم حذف سطر منها، وكما قال الشاعر محمود البريكان بأن مفردة في غير موضعها في القصيدة تعني خيانة، أنا أطمح (ربما بشيء من المبالغة) لتطبيق هذا الحرص الشديد على الرواية”.

وعن اتجاهه لكتابة الرواية بعد سبع مجموعات شعرية ومجموعة قصصية يجيب “حميد العقابي”: “على المبدع ألاّ يجعل الكتابة الإبداعية غاية، بل وسيلة من الوسائل غير المتناهية لفهم الحياة، لذلك أرى أن فهم جانب من الحياة يتطلب وسائل مختلفة تتغير على مدى العصور والظروف. الرواية عالم واسع يستطيع من خلالها المبدع أن يستخدم وعيه وثقافته وتجربته بشكل أكثر حرية ووضوح من الشعر الذي يلعب اللاوعي والفعل السحري فيه دوراً رئيساً. لكن.. لي اعتراض على مسألة انحسار الشعر والقصة أمام الرواية، فأنا أرى العكس تماماً (إلا إذا اعتبرنا السوق هو المقياس)، إذ إني أرى الرواية في طريقها إلى الانقراض، وهنا أقصد الرواية كفنٍ أدبي راقٍ، فانقراضها سيكون بسبب شيوعها كفن جماهيري، وهذا ما نلاحظه الآن في الغرب حيث هناك نزوع مخيف لكتابة تخضع لشروط السوق التي هي بدورها تخضع لشروط القارئ الكسول روحياً الذي يطلب أدباً بسيطاً يقرأه لكي يستدرج النعاس إلى عينيه، أو يقتل به ملل الانتظار. أرى (وهذا ليس ترفعاً) أن الأدب الحقيقي ينحط حينما يكون جماهيرياً، وقد ضربتُ مرة مثلاً بشعر نزار قباني الذي تحول إلى كلام ساذج حينما تحول إلى أغانٍ. من هنا نرى أن الشعر والقصة والموسيقى والفن التشكيلي كفنون راقية تعتمد على التكثيف والإيحاء والتأويل وتتطلب متذوقاً ذا فطنة خاصة، تفقد شعبيتها لصالح الرواية التي لا تتطلب من قارئها أن يكون ذا صفات خاصة، ولكن هذا الأمر ليس جديداً فالشعر في كل زمان ومكان كان فنّاً نخبوياً”.

الرواية العراقية..

وعن رأيه في الرواية العراقية يقول ” حميد العقابي” : ” تجربة الرواية العراقية لا تزال في دور الطفولة أو ربما بدأت بُحة صوتها تظهر بوضوح مشيرة إلى حالة بلوغ (هذا إذا اعتبرنا الرواية مذكراً، أما إذا كانت مؤنثاً فنقول بدأ نهداها الجميلان بالبروز)، قبل خمس سنوات كنت متشائماً إذ كنت أتصور أن بسقوط النظام القمعي في العراق ستظهر كنوز روائية، معوّلا بذلك على كتّاب عاشوا التجربة العراقية، ولكن اكتشفت أن تعويلي لم يكن في محلّه. تشاؤمي هذا سرعان ما تحول إلى تفاؤل بحماس مع إطلاعي على كتابات الجيل الجديد في العراق وعلى شعراء تحولوا إلى كتابة الرواية بنضج وطموح. نعم.. هناك روائيون موهوبون في فترة فتوتهم يستحقون الثقة وأن يُعوّل عليهم، فهم يمتلكون أدواتهم الكتابية وإخلاصهم واندفاعهم نحو خلق رواية جديدة، وأمامهم أرشيف حياتي زاخر يستطيعون أن يغترفوا منه لينتجوا فناً راقياً متميزاً، متمنياً أن يمتلكوا شجاعة السينمائيين الإيطاليين حينما انتبهوا إلى غنى تجربتهم الواقعية، فبدأوا بهمة وشجاعة بعد سقوط الفاشية مباشرة”.

ذاكرة الحرب..

في دراسة للكاتبة والأكاديمية العراقية “باهرة محمد عبد اللطيف” بعنوان “مقاربات نقدية أولية لـ “أصغي إلى رمادي”- فصول من سيرة ذاتية” تقول: “في الفصول التي يتحدث فيها حميد العقابي عن الحرب العراقية الإيرانية تتجلى براعته وقدرته على تكثيف اللقطة المشهدية. هذه الحرب التي خلـفت الآلاف المؤلفة من القصص المأساوية في الذاكرة الوطنية خلقت لدى القارئ العراقي تحديداً شعوراً حقيقياً إلى حد ما بغياب أو بندرة الكتابة المؤثرة عن الحرب من الجهة الأخرى المضادة. لذا فإن للعقابي وقلة من الكتاب الذي تمردوا وكتبوا الأهاجي ضد الحرب إبان حكم الديكتاتور فضيلة تحتسب ولا بد من تأشيرها كجزء من عملية توثيقية هي شهادة على حقبة من أشد الحقب حلكة من تاريخ بلادنا المعاصر. وبهذا السياق فإن سيرة العقابي هي شهادة أخرى مترعة بالألم والغضب والصدق، وهو ما يسجل لهذا الكاتب الذي لم ينتظر سقوط النظام ليروي – كما يفعل كثيرون في هذه الأيام- موقفه من الحرب ومن الظلم ومن تراث الديكتاتورية الرث. كما أن العقابي في نبشه الفوضوي – دونما تسلسل زمني محدد – في الذاكرة يحاكم نفسه ويحاكم الآخرين بقسوة شديدة الهدوء. ربما لأنه أشبع الموضوعات التي طرحها تأملاً وتمحيصاً بمجهر وعيه، وربما لأنه عانى كثيراً قبل أن يتمرد على سلطة أبوية فاشلة في أعماقها، مأزومة ومأزمة: سلطة الأب الضعيف الفاشل الذي من حيث يدري أو لا يدري تسبب في شقاء الإبن والزوجة، وهي السلطة الباترياركية نفسها للحاكم الذي يفشل في مهمته فيخفي انكساره وهزيمته بقسوة مبالغ فيها مما أودى بالشعب إلى جحيم الحروب ومآسيها.والكاتب لا تفوته أيضاً محاسبة السياسيين والنخب المثقفة وحتى اللغة وأمثالها الشعبية التي تبرر الانتهازية وتختلق الذرائع لها في سلوك الشعب”.

ثنائية الطهرانية والإثم..

وعن المرأة في سيرته وكيف قدمها” حميد العقابي” تقول الدراسة: “تحتل المرأة أجزاء حميمة من الكتاب، خصوصاً في المقاطع التي تصور الأم، بشخصيتها التي طغت على حضور الأب في حياة الكاتب. فهو لا يخفي حبه الشديد لهذه الأم القوية، الصابرة بكبرياء، برغم جموحها المكتوم بل ويعجب حتى بقدرتها على الكره واللاتسامح مع الزوج الضعيف إعجاباً يصل حد تجاوز المألوف أو مما يحرج التصريح به. لقد رسم لنا الكاتب حميد العقابي عبر لقطات تصويرية مدهشة وبشجاعة فائقة صورتين متناقضتين لأمه وأبيه، كانت الأم تتفوق فيها دوماً على حضور الأب في كل الأحوال، في المرض والعافية، في الحياة وفي الموت. كما يظهر هذا الاهتمام عبر الفصل المخصص للشخصية الأسطورية الجدة شمعة، بصورتها في ذاكرة المراهق قبل أن تصبح لاحقاً رمزاً يختصر الأمومة والعهر معاً، الأسطورة والحقيقة، الذاكرة والزوال وكل النقائض الأخرى. ثم أضفى عليها وعي الشاب المثقف للكاتب بعداً آخر حين جعل منها نموذجاً فطرياً للاحتجاج النسوي في دفاعها عن ( سهام)، الفتاة التي خرجت عن التقاليد الاجتماعية وارتكبت المحظور يوم حملت سفاحاً فاستحقت القتل على يد والدها الجزار المتهتك أصلاً.

بيد أن صورة المرأة- الأنثى بعيداً عن شخصية الأم تبدو ملتبسة دوماً بصورة آثمة في الذاكرة وهذا ما يصرح به الكاتب بوعي أو بدونه في مواضع عدة من الكتاب حينما يتحدث عن علاقته بالمرأة والجنس في ثنائية مشوبة بالتعالي تارة انتصارا لطهرانية يبحث عنها، والشعور بالإثم تارة أخرى. ولعل جذر هذا الإحساس يكمن في حادثة دخوله السجن في سن الرابعة عشرة بسبب ” فتاة لم يرها”. أو لربما يجد تفسيراً له في حادثة ” سهام” التي مثلت للكاتب النموذج البدئي للمرأة، جسداً وحسب – إذ لم يتح له وهو صغير السن أن يكتشف منها سوى الجانب الحسي فقط، قبل أن تقتل محواً لعارها- والتي خصها بمساحة كبيرة فهي كما يصرح: ” أول فتاة أكتشف نفسي بها وأول جسد ألمسه وأراه حياً بكامل عنفوان أنهاره وشلالاته، وكذلك كانت سهام أول جثة لقتيل أراها مسجاة على الأرض ينزف منها دم ساخن كأن بخاراً يتطاير منه وأول موت يفضّ شغاف حياتي”.

بهذا المعنى فإن الكتاب يخلو من عاطفة الحب إزاء المرأة الحبيبة، والكاتب لا يتردد في الجهر ببراغماتية واضحة بنوع العلاقة التي تربطه بها ” لم تكن المرأة في حياتي سوى وهم من أوهامي الكثيرة التي أهرب إليها حينما أشعر بالوحدة أو الهزيمة..” وهي “وسيلة وليست غاية”. إنها -كما يقول- موضوع للجنس الذي هو بدوره وسيلة للانعتاق من سلطة الجسد والتسامي لاحقاً من خلال الأدب والشعر تحديداً. أي في المحصلة النهائية تغدو المرأة أداة للجنس الذي هو أداة أخرى لبلوغ مرحلة الإنسان الأرقى المتجسد بالعملية الإبداعية وهذا بحد ذاته إجحاف كبير وتشيئ للمرأة لا أخال الكاتب يتعمده لأنه دافع بحرارة عن حق المرأة في كل جوانب الحياة، بما في ذلك حقها في الجنس حين انتقد عبر السطور المكرسة لمشهد قتل سهام منظومة القيم الاجتماعية السائدة. أو هذا ما يطرحه وعيه كما يبدو، أما لا وعيه فهو الذي قاده إلى هذا التشيئ، وإلى أحكام أخرى ظالمة، مطلقة، تسقط في التعميم الجمعي الذكوري التقليدي .

العقابي يعترف- وفي هذا الاعتراف فضيلة- بأنها ” ليست مشكلته وحده، بل هي مشكلة الرجال الشرقيين كافة ترتبط عندهم الفضيلة والرذيلة بعلاقتهم بالمرأة…”.

توفي” حميد العقابي” في مدينة (فايله) الدنماركية بتاريخ 4 أبريل 2017.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب