وكالات – كتابات :
عندما نتحدث عن تاريخ الفلسفة وتطورها، يتبادر إلى الأذهان كبار فلاسفة اليونان مثل: “سقراط، وأرسطو، وأفلاطون” وغيرهم ممن أسهموا في نشأة الفكر الفلسفي وتطوره. وعلى الصعيد العربي، تبرز أسماء لعلماء عرب في قائمة الشرف التاريخية بجوار فلاسفة “اليونان” الأوائل.
أحد أشهر هذه الأسماء هو: “أبويوسف الكندي”، الذي نبغ في الفلسفة، والرياضيات، والفلك، وعُرف باعتباره: “مؤسس الفلسفة الإسلامية”. فما هي قصته ؟.. وكيف أسهم في تطور الفلسفة العربية وإثراء المكتبة العربية بأمهات الكتب في مختلف العلوم ؟
من “الكوفة” إلى “بغداد”.. قِبلة العلم وجنة المفكرين..
وُلد “أبويوسف يعقوب بن إسحق الكندي”؛ في “الكوفة”، حوالي عام 801م (185هـ)، وكانت حينها مركزًا للثقافة والعلوم في القرن التاسع الميلادي، والمكان المناسب لـ”الكندي” لتحصيل أفضل تعليم ممكن في ذلك الوقت. وكان والده “إسحق بن الصيّاح”؛ واليًا على “الكوفة”، مثلما كان جده أيضًا. وينحدر “الكندي” من قبيلة “الكندة”؛ التي نشأت في جنوب الجزيرة العربية.
وقد ساعدت مكانة والده وعائلته المرموقة، واتصاله بالنخبة من العلماء والدارسين، في توفير أفضل تعليم ورعاية ممكنة له. وفي صباه، حفظ “الكندي” القرآن، وتعلم النحو، والأدب العربي، ودرس الحساب، والفقه، وأطلع على علم الكلام، الذي كان قد بدأ في الظهور، ولكن يبدو أنه كان أكثر ميلًا للعلوم والفلسفة التي عكف عليها طوال حياته، خاصةً بعد انتقاله؛ في 820م، إلى “بغداد”، عاصمة الخلافة العباسية، ليستكمل دراسته في الفقه والفلسفة والمنطق.
وأثناء إقامته في “بغداد” اكتسب خبرة واسعة من التنوع الثقافي الغزير هناك، وسرعان ما حقق شهرة بعلمه ومعرفته جذبت أنظار الخليفة “المأمون”.
بين الحظوة وتدبير الدسائس.. علاقة “الكندي” بالخلفاء العباسيين..
كان الخليفة العباسي؛ “المأمون”، محبًا للعلم وراعيًا له، وأسس ما يُعرف: بـ”بيت الحكمة”، الذي كان أشبه بأكاديمية متعددة التخصصات، وكانت تترجم فيها الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية. وقد عين “المأمون”؛ “الكندي”، في “بيت الحكمة” مع غيره من العلماء البارزين في ذلك العصر مثل: “الخوارزمي، وإخوان بني موسى، محمد وأحمد والحسن بن محمد بن موسى”.
وكانت مهمة “الكندي” وزملائه الرئيسة في “بيت الحكمة” ترجمة المخطوطات العلمية اليونانية لتُضاف لمكتبة المخطوطات التي أسسها الخليفة، وكانت أول مكتبة كبيرة تؤسس منذ تأسيس “مكتبة الإسكندرية”، وبالإضافة لـ”بيت الحكمة”؛ أنشأ “المأمون” مراصد لعلماء الفلك المسلمين.
وفي عام 833م، توفي “المأمون” وخلفه شقيقه؛ “المعتصم”، الذي استمر في دعم “الكندي” ووكله بتعليم ابنه؛ “أحمد”، وبعد وفاة “المعتصم”؛ عام 842م، خلفه الخليفة “الواثق”؛ ومن بعده “المتوكل”، في عام 847م، وفي عهد هذين الخليفتين أفلَ نجم “الكندي”؛ في ديوان الحكم، ويُرجع البعض ذلك إلى الخلافات الداخلية والتنافس بين العلماء في “بيت الحكمة”.
ويذكر كتاب (موسوعة عباقرة الحضارة العلمية في الإسلام) اقتباسًا عن “ابن نباتة المصري”، أديب وشاعر من شعراء العصر المملوكي يتحدث فيه عن “الكندي” وعلاقته بالخليفة والعلماء: “وكانت دولة المعتصم تتجمل به وبمصنفاته؛ (المقصود الكندي)، وهي كثيرة جدًا، وكان عظيم المنزلة كذلك عند المتوكل، وكانت له مكتبة تحفل بالكثير من المصنفات حتى سُميت: بـ (الكندية)، وتحوي شتى الفنون، وخاصة الهندسة والنجوم. وحسده بعض معاصريه ودسُّوا له عند المتوكل، وأقنعوه بالاستيلاء على المكتبة”.
فلسفة “الكندي”..
يذكر كتاب (تاريخ فلاسفة الإسلام)؛ نقلًا عن “سليمان بن حسان”؛ (ابن جلجل الأندلسي)، طبيب ومؤرخ، أن “الكندي” أول فلاسفة المسلمين والعرب. واعتبره “غيرولامو كاردانو”، باحث إيطالي من عصر النهضة، من: “بين الإثني عشر عبقريًّا الذين ذكر أنهم أهل الطراز الأول في الذكاء والعلم”.
ومن أهم مساهمات “الكندي” استيعابه للفكر الأفلاطوني الحديث والفكر الأرسطي، إذ كان مسؤولًا عن ترجمات أعمال “أرسطو” و”أفلاطون” أثناء عمله بـ”بغداد”، وكان من أبرز وجوه حركة ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية، هو ومعاصره؛ “حنين بن إسحق”.
وقد استطاع “الكندي” تقريب الفكر الفلسفي اليوناني إلى النطاق العربي، وحوّل الكتابات صعبة الفهم إلى مواد سهلة التناول بلغة العرب، وكان له الفضل في تسهيل احتكاك المثقفين المسلمين مع الفلسفة؛ آنذاك. وساعده عمله في “بيت الحكمة”؛ بـ”بغداد”، في تعزيز هذه الجهود، من خلال ترجمته للعديد من النصوص الفلسفية المهمة.
وأدخل “الكندي” كثيرًا من المفردات الفلسفية إلى اللغة العربية، وقال عنه؛ “سليمان بن حسان”، في كتابه: (طبقات الأطباء والحكماء)؛ أنه: “ترجم من كتب الفلسفة الكثير وأوضح منها المشكل، ولخص المستصعب، وبسط العويص”. وجعله “ابن أبي أصيبعة”؛ في طبقات الأطباء من حذاق المترجمين؛ فقال: “حذاق المترجمين في الإسلام أربعة: حنين بن إسحق، ويعقوب بن إسحق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن فرخان الكندي”.
وقد تأثر “الكندي” بالعديد من المدارس الفلسفية، على رأسهم فلاسفة المدرسة الأفلاطونية المحدثة، مثل: “بروكلوس، وأفلوطين، وجون فيلوبونوس”، وغيرها من المدارس الأخرى. وكانت فلسفته الخاصة تميل إلى السماح بتقديم الإيمان على العقل، وكان يعتقد أن الوحي مصدر المعرفة للعقل، لأن مسائل الإيمان المسلم بها لا يمكن استيعابها.
ومن أشهر مؤلفاته الفلسفية: (رسالة في الفلسفة الأولى)، التي يقول فيها إن الكون ليس أزليًّا، وإن الرب واحد، وإن الفلسفة هي علم الأشياء بحقائقها، وعلم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ومن مؤلفاته الفلسفية أيضًا: (ترتيب كتب أرسطوطاليس)، و(الحث على تعلم الفلسفة)، و(في عبارات الجوامع الفكرية)، وغيرها الكثير.
وقد وُجّهت عديد من الانتقادات لمنهجه، ووصف بالبدائية، ومع أن فلاسفة آخرين جاؤوا بعد “الكندي” وربما تفوقوا عليه، مثل: “الفارابي وابن سينا، والغزالي”، إلا أنه يمكن القول إنه لولا أعماله الفلسفية لما تمكن هؤلاء الفلاسفة من الوصول إلى ما وصلوا إليه.
إسهامات “الكندي” الموسوعية..
كان لفيلسوف العرب إسهامات ونظريات متنوعة في عديد من المجالات، وكان غزير التأليف وساهم في إثراء المكتبة العربية بأمهات الكتب في مختلف العلوم، من الطب والفلك والمنطق إلى الهندسة والرياضيات والموسيقى.
وقد وصل عدد مؤلفاته إلى أكثر من: 270 عملًا، معظمها أطروحات قصيرة أشبه برسائل صغيرة الحجم، لا يتجاوز عدد صفحات بعضها: 10 صفحات، غير أن كثيرًا من هذه المؤلفات ضاعت ولم يُطُبع منها إلا: 40، ولا يزال الباقي مخطوطًا، وبعضها في الترجمات اللاتينية.
واشتغل “الكندي” في الهندسة وألّف فيها، وكان العلماء في القرن التاسع وما بعده يرجعون إلى نظرياته ومؤلفاته عند القيام بأعمال البناء مثل عملية حفر القنوات بين “دجلة” و”الفرات”. وتُرجمت بعض أعماله إلى اللاتينية، وتأثر بكتاباته الهندسية؛ الراهب “روغر بيكون”، المُصلح والمفكر البريطاني ومن دعاة العلم التجريبي، واعترف “بيكون” بفضل “الكندي”؛ فقال عنه: “إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس”.
ولـ”الكندي” كتابات في الطب، أبرزها: (رسالة في قدر منفعة صناعة الطب)، شرح فيها طريقة استخدام الرياضيات في الطب والصيدلة، ووضع أيضًا مقياسًا رياضيًا لتحديد فعالية الدواء، ومن أبرز مؤلفاته الفلكية، كتاب (الحكم على النجوم) المكون من: 40 فصلًا في صورة أسئلة وأجوبة، وله مؤلفات أخرى بعناوين مثل: (علل الأوضاع النجومية)، و(علل أحداث الجو)، و(أحوال الكواكب).
هذا فضلًا عن كتاباته في الكيمياء والرياضيات، والموسيقى، فهو أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي. وضع أيضًا سلمًا موسيقيًا من: 12 نغمة، ما زال يستخدم في الموسيقى العربية، وله ما يقرب من: 15 أطروحة في نظرية الموسيقى، لم يبق منها إلا خمس فقط.