خاص : كتبت – ابتهال علي :
تفرض مأساة مسلمي “نيوزيلندا”، الأخيرة، علامة استفهام بوجه العالم.. من أين استقى، “برينتون تارانت”، الإرهابي منفذ الهجومين، أفكاره المتطرفة ؟
حاول تقرير لمجلة (فورين بوليسي)؛ الإجابة عن السؤال بتوجيه أصابع الإتهام نحو “فرنسا”، مؤكدًا على أن الإرهابي أستلهم أفكاره من “اليمين المتطرف الفرنسي” التي يتردد صداها منذ عقود.
حيث هاجم الإرهابي الأسترالي، “برينتون تارانت”، ظهر الجمعة الماضي، مسجدين في مدينة “كريست تشيرش”، بجنوب “نيوزيلندا”، وأطلق وابلًا من الرصاص على المصلين العُزّل؛ وقام بتوثيق جريمته عبر كاميرا في بث حي على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أسفر عن مقتل 50 شخصًا وإصابة العشرات الآخرين بجراح.
بيان حربي ضد الآخر..
وقد نشر الإرهابي، قبل تنفيذه المجزرة، وثيقة على “الإنترنت” أشبه بـ”بيان حربي”؛ يبث فيها سموم أفكاره المتطرفة ضد المهاجرين، والمسلمين خاصة.
ويظهر جليًا، بتحليل مضمون الوثيقة، تأثير خطاب “اليمين المتطرف الفرنسي” الشديد على أفكار “تارانت”؛ فهو يعتبر أن لحظة إنعتاق أفكاره المتطرفة أشبه بلحظة تعميد “السيد المسيح” – عليه السلام. ووقعت عندما شاهد ما أسماهم، بـ”الغزاة”، في أحد المراكز التجارية في رحلة له في “فرنسا”، منذ عامين، حينها أدرك أن العنف هو طريقه الوحيد لطردهم من الغرب.
المهاجرون.. ومخاوف فناء “أوروبا”..
يرتكز بيان الإرهابي، الذي أطلق عليه اسم، (الإحلال العظيم)، على كتابات “رينو كامو”، 73 عامًا، الكاتب الفرنسي المعروف بعدائه الشديد للمهاجرين، وخاصة عنوان البيان الذي سرقه من عنوان كتاب لـ”كامو”، نشر عام 2012.
وفيه يعبر “كامو” عن رفضه لعملية الإحلال الديمغرافي للرجل الأبيض في قارة “أوروبا” بالمهاجرين الذين يحملون معهم بذور فناء الحضارة الأوروبية من ثقافة وديانة وعادات اجتماعية – بحسب مؤلفاته.
وأصبح شعاره: (الإحلال الديمغرافي)؛ شائعًا في الجدال الدائر في “أوروبا” ضد الهجرة والخطاب المفضل لدى الساسة اليمنيين المتطرفين عبر القارة، ومنهم “خيرت فيلدرز”، السياسي المتطرف الهولندي، وحركة (نزعة الهوية)، المنتشرة بين شباب اليمين المتطرف بـ”أوروبا”، خاصة الفرنسيين.
وفي بيانه الإرهابي؛ يستهجن “تارانت”، غزو “غير البيض” لـ”فرنسا”، ويصف مشاعره عندما لمس ذلك بنفسه، وهو في رحلة لـ”فرنسا”، التي تأرجحت بين الغضب واليأس الحانق جراء المهانة التي تتعرض لها كرامة سكان القارة الأصليين على يد المهاجرين وفقدانهم لثقافتهم وهويتهم وسط تخاذل حكوماتهم عن تقديم الحلول السياسية الجذرية لمواجه هذا المصير.
كاتب فرنسي يتغزل في حركة “بيغيدا”..
على الرغم من أن “تارانت” كان حريصًا على أن يعود الفضل لأهله، إلا أن الكاتب الفرنسي رفض الزج بكتاباته وأفكاره في المسؤولية عن المذبحة، وأنها ألهمت الإرهابي، وأدان على حسابه على شبكة، (تويتر)، الهجوم، متهمًا مرتكبه “بالاستخدام التعسفي لعبارة ليست له؛ ولا يفهمها بوضوح”.
لكن تكررت أفكار “كامو”، في بيان “الإرهابي”، وأبرزها الخوف من المحو الديموغرافي الذي يحل فيه السكان الجدد محل السكان الحاليين، وهي عملية يُصر “كامو” على أنها مرادف لـ”الاستعمار”.
وبالفعل يشيد الكاتب الفرنسي، في مقال بعنوان: “بيغيدا، حبيبتي”؛ بالحركة الألمانية المعادية للإسلام والمسلمين، (بيغيدا)، باعتبارها “آمالاً كبيرة تنهض في الشرق” و”جبهة تحرير” تقاتل “ضد الاستعمار”. ويؤكد أنه لا يوجد أمل في فكرة “التعايش معًا” في “أوروبا”، حيث تواجه القارة غزوًا استعماريًا يتحول فيه الأوروبيون إلى “سكان أصليين” تحت “الاستعمار”.
نشأت حركة (بيغيدا)، في مدينة “دريسدن” الألمانية، ردًا على موجات تدفق اللاجئين على “ألمانيا”، عام 2014، وهي حركة سياسية بزغت ضد “أسلمة” الغرب؛ وتطالب بطرد المسلمين من دول أوروبا.
ويردد “تارانت” هذه الأفكار قائلًا: “يتدفق ملايين البشر عبر حدودنا.. بدعوة من الدولة والمؤسسات المعاونة ليحلوا مكان البشر البيض، الذين فشلوا في زيادة النسل وضخ العمالة الرخيصة والمستهلكين الجدد والضرائب التي تزدهر الدول وهذه الكيانات من خلالها”.
وحذر الإرهابي من أن معضلة الهجرات الجماعية والخصوبة البديلة إعتداء صارخ على الشعب الأوروبي، ستؤدي في النهاية إلى الإحلال العرقي والثقافي الكامل للشعب الأوروبي، إن لم يتم محاربتها، وزعم القاتل أن هدفه من إرتكاب المذبحتين توجيه رسالة للمهاجرين أن الغرب لن يكون أبدًا لهم.
وثيقة الإرهابي وجذورها الإيديولوجية..
ويمكن تتبع جذور فكر “اليمين المتطرف”، في الغرب، من منتصف القرن العشرين، حينما هدد “نيلوك باول”، السياسي الإنكليزي المناهض للمهاجرين، أن الهجرة ستحول “بريطانيا” إلى “بحار من الدماء”، وكذلك المؤلف الفرنسي، “غان راسباي”، البالغ من العمر 93 عامًا، الذي تنبأ، عام 1973، في روايته السوادوية (معسكر القديسين)؛ بإنهيار الحضارة الغربية بسبب تدفق موجات هجرة هائلة إليها من أبناء العالم الثالث. وأكد في مقال، نشره في مجلة (لوفيغارو)، عام 1985، بعنوان: “هل ستظل فرنسا فرنسية بحلول عام 2015 ؟”؛ أن نسبة المهاجرين لـ”فرنسا” سوف تنمو بصورة تهدد بإندثار القيم والثقافة والهوية الفرنسية التقليدية.
وحاول الباحث الفرنسي، “غان إيف كامو” – وهو من أقصى اليمين المتطرف -، تبرئة “رينو كامو” من المسؤولية الأخلاقية عن مذبحة مسجدي “كريست تشيرش”، وأكد أن أفكار منفذ هجوم “نيوزيلندا” تستمد جذورها من آراء “غان راسباي”، والتي تُعد أشد تطرفًا من نظرية “الإحلال العظيم”.
ولكن كيف تسللت هذه الأفكار إلى عالم السياسة ؟
تستغل برامج الأحزاب اليمينية، في جميع أنحاء العالم، مشاعر القلق الديموغرافي من تناقص أعداد البيض والزيادة المطردة لأعداد المهاجرين، خاصة من المسلمين.
وتشير مجلة (فورين بوليسي)؛ إلى أن رواية “غان راسباي”، (معسكر القديسين)، بمثابة نبراس لرجال السياسية من اليمين المتطرف مثل؛ “مارين لوبان”، زعيمة اليمين المتطرف في “فرنسا”، و”ستيف بانون”، المستشار السابق للرئيس الأميركي، “دونالد ترامب”، لدرجة أن “مارين لوبان” حرضت ملايين من أتباعها على مواقع التواصل الاحتماعي، إبان أزمة اللاجئين السوريين عام 2015، على قراءة الرواية لمنع “فرنسا” من “الإندثار”.
“الأمم البيضاء” جنوب المحيط الهاديء..
ولطالما أشاد، “راسباي”، بما أطلق عليها اسم، (الأمم البيضاء)، الواقعة جنوب “المحيط الهاديء”، ويقصد بها “أستراليا” و”نيوزيلندا”، التي تمسكت في الماضي القريب بسياسات صارمة تجاه الهجرة قائمة على أسس عنصرية، دفعت رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، “توني أبوت”، في شهر تشرين أول/أكتوبر عام 2015؛ إلى اعتبارعمليات إنقاذ المهاجرين في قوارب عبر شواطيء البحر المتوسط إلى أوروبا دافعًا مباشرًا لتدفق المزيد من البشر، ولابد من إتباع حكومات الدول الأوروبية سياسة “أستراليا” الصارمة تجاه الهجرة بعدم انتشال المهاجرين.
ولم تتغير آراء، “راسباي”، المعادية للمهاجرين، رغم مرور نصف قرن على نشرها، حيث تنبأ في حوار صحافي، عام 2016، بأنه يستشرف بذور حركة مقاومة مسلحة وعنيفة ضد الهجرة تنمو في “أوروبا”، داعيًا إلى اللجوء للقوة المسلحة في وجه “غزاة القارة البيضاء”، فهل ما شهدته “نيوزيلندا”، البلد القابع في أقصى جنوب الأرض، حلقة في سلسلة مريرة من عداء المتطرفين للتعدد والتنوع بين البشر ؟