خاص: إعداد- سماح عادل
هناك رأي يفسر الهوس بأنه انبهار بصورة ملفقة للكاتب، سواء هو من يصنعها لنفسه، ويبالغ في حشد تفاصيلها، أو تصنع له من قبل جهة ما أو مؤسسة ما، من واقع فكرة صناعة النجم على مستوى الكتابة، وأن هذا الانبهار يسبب الهوس.
ورأي آخر يفسره بأنه نتاج الخلط ما بين الكاتب وما بين شخوصه التي يرسمها في نصوصه، لذا يتوهم القارئ أنه عرف الكاتب من ملامح الشخصيات التي يكتب عنها، ورأي ثالث يعتبره اتحاداً بين وعيين متماثليْن ونفسين متشابهتين، لأن القارئ أحس أن الكاتب يعبر عنه وعن أفكاره وميوله وتوجهاته.
هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكتاب والكاتبات من مختلف البلدان:
- ككاتب هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئة ما.. مثل أن تسعى للتعرف عليك أو تتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
- ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما وما تفسيره؟
- كقارئ هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتبة.. أو حتى كاتب وأحببت أن تعرف تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
- هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟
الانبهار بصورة ملفقة للكاتب..
يقول الكاتب المصري “صالح الغازي”: “أنا حياتي بسيطة ودائرة تحركي ليست متسعة، إنما تعرضت لحالات تقدير أكثر من المتوقع أحيانا، فهناك شخصيات تحب المبالغة في الاحتفاء بالكاتب وتقديره، وهناك شخصيات تحب التقرب منه أو تقريبه منها واستشارته أو وجوده بين أصدقائها. لكن كلها في دائرة السلوكيات الاجتماعية المقبولة.
لكن لماذا لا ننظر للموضوع بمزيد من الواقعية عن هؤلاء الكتاب التي تضيع حقوق الملكية الفكرية الخاصة بهم حتى وهم أحياء يعانون معاناة شديدة، على الأقل بسبب قسوة البعض في عدم تعويضهم مقابل عادل لكتابتهم؟
أو حتى سرقة كتاباتهم أو مجهودهم!
أو هؤلاء الكتاب العظام الذين يعيشون ولا نعرف أنهم أحياء لنتفاجأ بوفاة أحدهم ونسمع قصة معاناة من المرض أو الفقر!”.
وعن هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما يقول: “قد يحدث الغرام بالمبدعين في كل المجالات، فهم يلمسون المشاعر برهافة ويتوقفون عند التفاصيل بعمق ومنهم من يشاركنا الحالة فمعهم تصنع الذكريات، أما السلوكيات الشاذة التي تصل للتتبع والإيذاء فهي أمور مرضية.
في الغرب قد ينتشر ذلك ويحدث أيضا مع الكتاب لأن تواجدهم في الغرب لا يفرق بينهم وبين المطرب أو الممثل أو الرسام، بينهما تصعب شهرة الكاتب العربي.
وغالبا تسليط الضوء على شخص والإلحاح على شهرته، بمعنى تبني جهة إنتاجية سواء حكومية أو خاصة لهذا المبدع، فيخرج إلى دائرة الشهرة والنجومية ليغازل مشاعر الناس. وأذكر قصيدة اسمها “أنا لذيذ” كتبتها ومنشورة في ديواني “المتوحش اللي جوايا”:
ماركة أنا لذيذ
تمثيلك بالصوت
لزوم جذب الانتباه
والبحة
إثارة الخيال
تكلمها برفق
وتكلمه بحدة
وبإشارة العين
تغير الكاميرات
وتبص للكاميرا بابتسامة الحياة
تبين شعر صدرك
وتلبس اكسسوارت ع الموضة
تحشر كلمات الحب والبكا
والرومانسية في الحركة الانسيابية
والجدية في النصح.
وأعمال الخير اللي بتكلفك بها
شركة إعلانية.
والضيوف اللي بتختارهم بعناية
إما صحابك أو مصلحة
تشترى أغلى العطور
عشان تداري ريحة الخوف
اللي ماليه قلبك.
و الكلام عن إجهادك
في التحضير
بتغفل مجهود ناس تانية.
انت كده over
خللي بالك
جمالك في البساطة
حافظ عليها
وتعالى ورايا.
أتكلم من جواك
عشان نعرف نقضي وقت مع بعض.
مش كل الناس تعرفها
لزوم المصلحة.
ومش لازم تقول أنا ليا أصحاب دماغ
وطول الوقت تكلمني عن ماركات الساعات.
عاوز الصراحة!
أنا شايفك
كأنك طفل كل سنانه مخلوعة!
وعن هوسه كقارئ يقول: “الاهتمام بالكاتب خارج النص، حدث طبعا. عند كتاب كثيرين، إنما لم يصل أبدا للهوس. ولا ننسى أن هناك مناهج نقدية تعتمد على التعرف على حياة الكاتب لندرس النص.
ولنتفق أن بشكل عام وسائل التواصل الاجتماعي قللت من الهوس بالنجوم، لأنها جعلتنا نشعر أن أخبارهم متاحة ليل نهار. وقللت من الهالة التي كانت ترسم حولهم”.
وعن كون هذا الهوس يعني أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس يقول: “قد يكون ذلك جزء من الأمر، فالكاتب حينما يكتب فإنه يعرض تجربته الخالصة. هو لا يؤدي مثل المطرب أو الممثل. إنه صاحب تجربة الكتابة وما كتبه يعبر عن تجربته وذاته مباشرة. كما أن هناك شئ اسمه صناعة النجم وهو أمر يعمل على خلق صورة ملفقة لهذا النجم.
بالإضافة أن هناك شخصيات بعد رحيلها بدأنا نشعر بتأثيرها الحقيقي وتتبع البعض حياتهم الدرامية لنجد فيها من الأسطورية، ففتش البعض في حياة الذين رحلوا.
وعن حالة الهوس بالكاتب ومضايقته كانت فكرة ديواني الأخير (المتوحش اللي جوايا)، حيث تناولت هذا الكائن الذي يرافقني طول الوقت ويضايقني منذ الصغر، مثلا”.
الخلط بين الكاتب وبين شخوصه..
ويقول الكاتب السوداني “محمد الطيب”: “لا يبدو الأمر هوسا بالمعنى الحرفي للكلمة، ربما هو الفضول المعتاد لدى القارئ/ة ومحاولة المزج بين الكاتب والمكتوب والبحث عن الكاتب بين السطور، ومن ثم محاولة إرضاء الفضول بالتقرب من الكاتب ومحاولة التعرف إليه ولفت إنتباهه، وعادة ما نقع في فخ المتخيل للكاتب وعالمه الساحر، وهذا ربما يفضي إلى خيبة الأمل لاحقا”.
ويضيف: “عادة ما يقع الكاتب كصورة كاملة البهاء في خيال القارئ، أذكر عندما كنت حدثا ومع خطواتي الأولى في القراءة كنت أتخيل الكتاب أو الرواة أعلى مرتبة من بقية الناس وأكثر فهما ووعيا، وكان هذا الجانب يمتد ليصل مرحلة أقرب للقداسة، ورغم أن هذه الفكرة قد تغيرت الآن ربما بدافع النضج، أو لولوجي عالم الكتابة لاكتشف أن الكتاب بشر مثل البقية لا يزيدون أو ينقصون إلا بقدر خيالهم المسكوب في الورق، كل هذا يدفعني لتفهم دوافع قارئ قد يشعر بالهوس اتجاه كاتب معين ربما لأنه وجد نفسه بين طيات الكتاب أو وجد ما يتمنى أن يكونه وكلها دوافع مبررة عندي للهوس بكاتب معين”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “في مرحلة ما تمنيت أن أقابل “تشيخوف” يوما، ثم اكتشفت لاحقا أنه قد مات قبل أن أولد بعقود طويلة من الزمن، أذكر أنني قد حزنت وكأنما وافته المنية الآن وليس قبلا، ثم لاحقا تمنيت مقابلة العديد من الروائيين الذين زينوا مكتبتي واحتشدوا في ذاكرتي، ولكن الأمر لم يصل لمرحلة الهوس ولكنه أقرب لرسالة عرفان وشكر ومساحة تقدير تخص إبداعهم المتفرد”.
وعن عرض الكاتب لذاته في النصوص يقول: “تظل الدعوة لموت المؤلف هي طوق النجاة من كل هذا، البراعة أن تكتب عن نفسك دون أن يدرك القارئ وأن تتقمص الآخر حتى يظنه القارئ أنت، الوقوع في فخ المقارنة بين الشخوص في العمل وكاتبه وافتراض تشابه وتقارب يرهق القارئ ويحرج الكاتب، وان كان لابد من البحث عن الكاتب فلتذكر.دائما أنه موجود على غلاف الرواية أعلى أو أسفل العنوان، ألا يبدو هذا كافيا؟”.
اتحاد بين وعيين متماثليْن..
ويقول الشاعر المصري “مؤمن سمير”: “في نهاية تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت معركة إثبات الوجود ومقاومة النفي والتهميش والإقصاء بالنسبة لجيل التسعينات الشعري المصري على أشدها، كنت قد نشرتُ ديواناً واحداً وقصائد في عدة دوريات ولكني كنتُ أتحرك مشاركاً في هذه الحراك بأكثر من شكل وكنت قد أضفت للسيرة الذاتية رقم هاتفي على أحد المواقع على الإنترنت.. وفوجئت باتصال من أحد الأشخاص يخبرني فيه أنه شاعر وأنه يتابع كتابتي معدداً نقاط اختلافها عن قصائد الشعراء الآخرين وأنها كانت من أسباب انتقاله لكتابة قصيدة النثر وأنه كان يتمنى لو كان هو كاتبها..
سعد الشاب الذي كنتهُ بكلامه جداً معتبراً أن معسكرنا الشعري اللاهث زاد منافحاً صلباً ونحيتُ ملاحظتي عن صوته الذي كان كأنهُ يخرج من قعر بوق ونبرته الغريبة جانباً، وفي نهاية المكالمة طلب عنواني البريدي ليرسل لي قصائد ورحبت طبعاً وبعدها بأيام قليلة وصلني خطاب منه يحمل صوراً ضوئية من قصائد له وقبل أن أشرع في قراءتها وصلتني في الأيام التالية نسخ أخرى من نفس الخطاب!! تعجبت لكني فسرت الأمر بأنه قد يكون صاحب ذكريات سيئة مع البريد لهذا يود أن يطمئن على وصول الخطاب، قرأت القصائد ووجدت عليها ملاحظات عديدة ورددت على عنوانه بخطاب أوردت فيه هذه الملاحظات الودودة.
بعد وصول الخطاب إليه فوجئت بمكالمة مرتعشة يتهمني فيها وهو يحسُّ بصدمة هائلة بأنني ظلمته وأنني شخص غادر نسيتُ جميله الكبير بمحبة قصائدي والانحياز لها! حاولت الاعتذار وإفهامه أن الموضوع مجرد ملاحظات من قارئ مخلص، له أن يأخذ بها أولا يأخذ وأنها تدل في النهاية على شاعر جميل في الطريق، لكنَّ محاولتي لم تقلل غضبه الذي تحول إلى صوت حزين ومضطرب للغاية.
بعد ذلك تسلمتُ تلاً من خطاباته التي تحمل شهادات تقدير من مسابقات شارك فيها وعتاباً جباراً لا ينقطع وطول الوقت كنت أفاجأ بمكالمات لا ترد صباح مساء، كنتُ أحس بذنبٍ وتعاطفٍ مع نفسية معذبة كهذه مما جعلني أتحمل هذا الإزعاج الدائم وأتحمل تقريع الأهل بسببه، باعتبارِ أنها ضريبة واجبة تنبع من إنسانية كل إنسان، بعدها وصل خطاب يقول إنه بعد معركة عنيفة مع ذاته انتصر أخيراً الجانب الذي يرى أن محبة شخصي حتمية وتشبه القَدَر لأن محبة نصوصي واجبة، حيث أن إحساسه بأنه هو من يكتب هذه النصوص ليست مجانية ولا سهلة وأنه من المؤكد بالتالي أن هناك تلاق في الأرواح بيننا!
عند هذه المرحلة تحول انزعاجي إلى خوفٍ حقيقي حدا بي إلى تغيير رقم هاتفي وعدم استلام أي خطابات تأتي منه ليعيدها البريد إليه مرة أخرى، ثم مرت سنوات على هذه الفترة المرهقة إلى أن فوجئتُ بصفحة على الفيسبوك تحمل اسمه وهي صفحة بلا صورة ولكنها مملوءة بمنشور واحد يقول إن تركتِني يا حبيبتي وسافرتِ معه سأفجر الطائرة!”.
وعن هذا النوع من الهوس يقول: “أظن الهَوَس في إحدى تجلياته، نوع من التماهي بين طريقة تفكير القارئ وبين الكتابة التي قد عبر بها الكاتب ورتب الأفكار والتصورات بطريقة أرضت ثوابت المتلقي وما يعتنقه، لدرجة أنه اعتقد أن الكاتب قريب وصديق وأن العلاقة بينهما أقرب لأن تكون اتحاداً بين وعيين متماثليْن أو نفسيتيْن متحدتيْن. وربما عبر الكاتب عن أحلام القارئ وتطلعاته أو كان جريئاً بما يكفي لإثارة الدهشة أو تحفيز الاعتراف الذاتي بأن هذه الشجاعة، مثلاً، كانت حلماً قديماً وهكذا.
وربما استمتع القارئ بكتابات الكاتب مما حدا به لاعتبارها واحة المتعة وسط هذه الدنيا القاسية وكلما مر الزمن ولم يخذل الكاتب قارئه، زادت الصداقة والمحبة وتعمقت وباتت جزءاً لا يتجزأ من شخصية الإنسان وشفرته الذاتية. كل هذا معتاد لكنه قد يتحول إلى هَوَس إذا رأى القارئ أن هذا الشخص المبدع يخصه وحده بالذات وأن مشاركة الآخرين له فيه جريمة وخطأ”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “كنت أقرأ وأنا صغير بكثافة مرعبة، أقرأ كل ما يقع تحت يدي حتى ولو لم أفهمه ثم حددتُ أمر الاستمتاع وحصرته في الروايات والقصص، و لهذا أظنني قرأت غالبية ما كتب “نجيب محفوظ ومحمود جودة السحار وعلى أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ويوسف إدريس”، وبعد فترة ليست طويلة أحسستُ أن محفوظ وإدريس مختلفان وأن لكلٍ منهما سقفاً فنياً أعلى بكثير من بقية الرفاق.
والعجيب أن هذا اليقين البسيط أدى بي للتعاطف مع الباقين وجمع كل ما يخص حياتهم الشخصية في ملفات كنتُ أتمنى أن أشهرها في وجه العالم لإثبات أنهم لا يقلون عَظَمة عن الساحريْن المغويين! وكنت أدافع باستماتة وانفعال في أي جلسة مع الصديق الوحيد في بلدتنا الذي يشاركني القراءة، وأعيد مشاهدة الأفلام المأخوذة عن أعمالهم طول الوقت.
وبعد سنوات المراهقة تلك والتي أرهقتُ نفسي فيها بلا داعٍ واعتبرتُ نفسي فارس الإنسانية وإعادة الحقوق الضائعة لأصحابها، قلتُ لنفسي بعد أن ضربت بكفي على جبهتي فجأة: وما علاقة حياتهم الشخصية بالأمر، المهم هي النصوص ذاتها أيها المسكين! كان هذا اليوم علامة على زمنيْن من أزمنة القراءة معي، كان الأول بسيطاً بلا حدود ومنحازاً بلا منطق ومندفعاً بلا تعقل والثاني أقرب لتلجيم الانفعالات وتوجيه العواطف نحو الكتابة لمسارها الطبيعي”.
وعن عرض الكاتب لجزء من ذاته يقول: “يظن بعض القراء أن ما يكتبه الكاتب هو سيرته الذاتية بالضرورة وبالتالي يتجاهلون بشكل لا واعي فعل التخييل وألعاب الفن. ربما لأن التعامل مع الأعمال الفنية في إطار أنها مجرد مقاربة للعالم عبر وعي وعيون هذا الكاتب، ليست ممتعة بقدر اعتبار أن كاتباً ما في لحظةٍ ما، قرر أن يفضح نفسه وعائلته مثلاً. وربما لأن فعل الكتابة في حد ذاته، باعتباره فعل تعرية للنفوس والشخصيات، يخلق علاقة بين طرفين يظن أحدهما أن الآخر صار حقاً له ورديفاً وقريباً، بعد أن اختاره واصطفاه، لهذا تكون حكاية هذا الكاتب بمعنى ما، هي حكاية هذا القارئ المفتون. وقد أخبرني قارئ ما مرةً أن الشَبَه في الخِلقة يزيد يوماً بعد يوم بينه وبين الكاتب الفلاني ولكن الناس لأنهم حاقدون، يتعمدونَ إطفاء الشمس!!”.