خاص: إعداد- سماح عادل
قد يأتي الهوس نتيجة شعور القارئ أن الكاتب يعبر عن أفكاره وتوجهاته وميوله وربما مشاعره فيتبني تلك النصوص، ويعيشها ويتعايش معها، بل ويعتبرها صوته هو، لأنه لم يستطع أن يعبر عن نفسه ببراعة كالتي استطاع أن يفعلها الكاتب، وهناك كتاب يرون أن هذا من حق القارئ، أن يستعير صوت الكاتب ليكون صوته.
كما يرى بعض الكتاب أن الهوس إذا كان في حدود التعامل اللطيف والعذب وحتى التعبير عن مشاعر ما دون ملاحقة أو محاولة لفرض الذات فإنه يكون بمثابة مكافأة للكاتب، خاصة إذا كان المهووس يبدي إعجابا بقدرات وإمكانيات الكاتب العقلية والأدبية.
وهناك رأي يفسر الهوس بأن القارئ يعتبر النصوص كرسائل يرسلها الكاتب إليه بشكل شخصي، وكأنه يكتب إليه هو فقط، وقد يكون الهوس تعويضا عن فقدان أو احتياج.
ورأي آخر يفسر الهوس بلحظة نورانية، يستطيع فيها الكاتب أن يحلق بخياله بعيدا عن الواقع فيكتب نصا بمثابة نجمة تلمع في السماء، وقد يضيء نور ذلك النص “النجمة” عتمة القارئ، فيتوهم أن الكاتب هو من أضاء عتمته لا نصه، رغم أن الكاتب نفسه قد يكون غارقا في عتمته الخاصة هو أيضا.
هذا التحقيق يتناول فكرة الهوس بالكاتب أو الكاتبة وقد طرحنا هذه الأسئلة على بعض الكتاب والكاتبات من مختلف البلدان:
- ككاتب هل تعرضت لحالة من الهوس من قارئة ما.. مثل أن تسعى للتعرف عليك أو تتقرب إليك؟ وماذا كان رد فعلك في حالة حدوث ذلك؟
- ما رأيك في هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما وما تفسيره؟
- كقارئ هل انتابك هذا النوع من الهوس تجاه كاتبة.. أو حتى كاتب وأحببت أن تعرف تفاصيل عن حياته، أو اهتميت به خارج حدود نصه؟
- هل يعني هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس وبالتالي أصبحت بمعنى ما ملكا للجميع؟
الكاتب يستهويه التغزل في نصوصه..
قال الكاتب المصري “محمود الغول”: “إذا أردت إجابة مباشرة، فنعم تعرضت لهذه الحالة ولأكثر من مرة، غير أن هناك ملابسات وتفاصيل تستدعي الذكر، فجميع حالات الهوس بي ككاتب – إن جاز التعبير – بدأت في ذلك الفضاء الأزرق (فيسبوك)، حيث اعتدت أن أنشر نصوصا ومقالات وقصصا قصيرة، وكذلك آراء وخواطر وما إلى ذلك، سواء بشكل ساخر أو جاد، وأحيانا ما يصادف ما أنشر هوى قارئة ما، فتبدأ بالتواصل معي من خلال التعليقات وأحيانا عبر تطبيقات الدردشة، للتعبير عن إعجابها بما أنشر أو حتى اعتراضا على ما أقدم من أفكار.
فيأخذنا النقاش، وسرعان ما أتفاجئ بأسئلة تنقب عن حياتي الشخصية، وهو الأمر الذي أرفضه، كي يكون هناك فاصلا بيني ككاتب وبيني كشخص له خصوصيته.
ولأن الممنوع مرغوب، فكثير ما يقابل ذلك الصد مني رغبة أكبر لدى الطرف الآخر، بحثا عن إجابات، وعندما يتجاوز الأمر حيز الصداقة “الافتراضية” وأقابله بعدم الرد أحيانا، والحظر في كثير من الأحيان، تزداد الرغبة لدى الطرف الآخر في التواصل من خلال حسابات أخرى، وقد يصل الأمر للاتصال هاتفيا، حيث تباغتني إحداهن بسيل من السباب ونعتي بالمغرور، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، فبعض التهم لا يليق ذكرها هنا!
أما المعضلة الأكبر التي واجهتها ككاتب، فتمثلت في واقعة تتكرر بتفاصيلها، وبطلتها دائما مراهقة تفتقد لوجود الأب في حياتها، ويتصادف أن تكون ممن يغرمن بالكتابة والكاتب، فيتلاقى كل ذلك في لحظة، ويبدأ الأمر كذلك بالتواصل بداعي الإعجاب بما أنشر، ثم البحث عن نصيحة أو أخذ رأيي في أمر ما كوني رجلا كبيرا “في مقام والدها”، لكن كالعادة يتحول الأمر من مجرد علاقة أبوية إلى “صداقة” ثم تبدأ المشاعر “غير الناضجة” في الظهور، وهنا أتوقف على الفور، وأوضح للجانب الآخر أن الأمر لا يعدو كونه “احتياجا” وبحثا عن “الأب الغائب”، والذي يعززه في كبر سني – قياسا إلى الفتاة – وكذلك كوني كاتبا وهي من المغرمين بالقراءة.
في كثير من الأحيان ينتهي مثل ذلك الهوس “بالموت البطيء”، وذلك من خلال تجاهل الرد على الرسائل، فيصاب الطرف الآخر بالملل، فيقلع عن رغبته في التواصل، بل وأظن أن صورتي لديها تتغير تماما، وتبدأ الحقيقة تتكشف، فأنا لست كاتبها المفضل، وكل ما في الأمر أني ربما أمثل لها “شيئا” أو “شخصا” تفتقده في حياتها..
وفي بعض الأحيان يكون الطرف الثاني أكثر عقلانية، فيعي طبيعة العلاقة بيننا، ويتحقق من طبيعة مشاعره، فيئول الأمر إلى “نهاية سعيدة”، بأن نحتفظ بمسافة آمنة ونظل أصدقاء أو “أب وابنته”.
أما التجربة المختلفة والأكثر نضجا، فكانت لشابة ناضجة، صاحب إعجابها بما أكتب إعجابا آخر خاص بشخصي، لكنها أبدا لم تكن مزعجة، ولم تتطفل، فقط تركت مشاعرها تتدفق بكل صدق، وأخبرتني ذلك، وهو الأمر الذي أسعدني، فكيف لرجل ألا يسعد بمشاعر صادقة مغلفة بكل اللطف والود”.
وعن هذا النوع من الهوس الذي ينتاب القارئ تجاه كاتب ما يقول: “كما قلت، أحيانا يكون الأمر مزعجا، حين يلغي كل الحدود بين حياتي ككاتب وحياتي الشخصية، خاصة إذا كان ذلك الهوس يتلبس فتاة صغيرة في السن، تخلط ما بين “الاحتياج” و”الحب”، وتحاول الوصول لتفاصيل حياتي بشكل دائم ومتكرر وبطريقة غير لائقة. أما إذا جاء “الهوس” من إنسانة ناضجة تعرف كيف تسيطر على مشاعرها وانفعالاتها وأفعالها، وتعي متى وكيف تتوقف، فالأمر أشبه بمكافأة للكاتب، الذي يطمع في أن يرى أثر ما كتبه، وأن يسمع كلمات الإطراء التي تركز على الجانب الإبداعي، فالكاتب كما الشابة الجميلة يريد أن يسمع عبارات الغزل، وإن كان الفارق بينه وبينها أنها تسعد بمن يتغزل في حسنها أما هو فيسعد بكلمات تتغزل في “أدبه” وعقله”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “الهوس لدي – إن جاز له أن يكون هوسا – يتعلق بالحياة الشخصية للكاتبة أو الكاتب، لكن في ما يتعلق بالكتابة، بمعنى آخر أحيانا ما ينتابني الفضول لمعرفة كيف تعيش هذه الكاتبة أو هذا الكاتب حتى يخلق لنفسه الجو الذي يساعد على الإبداع، وكيف يتعامل مع الآخرين أو كيف يحب أن يتعامل معه الآخرين، ورغبتي هذه مدفوعة بحب التعلم واقتباس الأفكار التي قد تساعدني على الإبداع.
لكنني لا أذكر أنني أغرمت بكاتبة مثلا في غير حدود الكتابة والإبداع، بل إنني شخص غيور جدا، مصاب بهوس “الكتابة الحلوة”، فإذا قرأت نصا كوميديا مثلا تجديني أسارع لكتابة شيء من الكوميديا، وهكذا في باقي ألوان الكتابة، وهذا الأمر يذكرني بمن يجوع كلما شاهد أحدهم يأكل”.
وعن كون هذا الهوس بمعنى ما أن النصوص التي ينشرها الكاتب أصبحت وسيلة لعرض جزء من ذاته على الناس يقول: “أنا مؤمن دائما بأن “النص لا يكتمل إلا بقارئه”، فالكتابة التي تحفظ في الأدراج أو اللفات دون أن يقرأها أحد تشبه تماما الإنسان الذي بمجرد أن يولد يوضع داخل صندوق حتى يموت، فالكتابة كما البشر يجب أن تختلط بالآخرين لتحيا. كذلك أرى أن نشر النص بمثابة اتفاقية يقر من خلالها الكاتب بحق القارئ في أن يقرأها ويعيشها بل وينتحلها لتصبح صوته هو، طالما كانت تحمل أفكار تتلاقى وأفكاره أو تعجبه.
كذلك فإن النص لابد وأن يحمل جزء من روح الكاتب، حتى وإن لم تكن – ظاهريا – شيئا اختبره بنفسه وعاشه، فنحن حين نكتب إنما نكتب أنفسنا بطرق مختلفة، وأحيانا نكتب الأشخاص الذين تمنينا أن نكون”.
النصوص كأنها رسائل للقارئ..
ويقول الكاتب “ممدوح بارو”: “هي لم تكن حالة هوس بالمعنى المعلوم؛ يمكن أن نسميها حالات إعجاب لا ترقى لوصف التعلق، كثير من القارئات يراسلنني بغرض التعارف، إلا أنها طبيعية كما أسلفت ولم تتعد مرحلة التعارف. ورد فعلي كان طبيعياً أيضاً فيما يخص الأشياء العامة بالطبع”.
وعن هذا النوع من الهوس يقول: “ربما هو التعويض، فالقارئ قد يفسر كل ما يكتبه الكاتب كأنما هو موجه له على وجه الخصوص”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “كقارئ كنت أقرأ كتابات كُتابي المفضلين بأصواتهم في بعض المرات؛ كما حدث لي مع الطيب صالح ويوسف شاهين وغيرهم. لكن لم يكن بي هوس لمعرفة حياتهم الشخصية وتفاصيلها”.
وعن عرض الكاتب لجزء من ذاته يقول: “بالطبع النصوص حينما تخرج من ذهن الكاتب ويصير لها حياة من ورق وحبر فهي قد فقدت صلتها بالكاتب وتصير ملكاً للقارئ يشكلها كما يشاء تخيلاً وتأويلا”.
قد يضيء نور النص عتمة القارئ..
ويقول الكاتب والفنان التشكيلي السوري “مؤيد كنعان”: “لا شك يصبح الكاتب في بعض الأحيان محط اهتمام القراء إذا ما كان ذا ناتج أدبي مهم وله قيمة وجدانية عند قرائه، فهو يكاد يكون ملهما أيضا لكثير من عشاق أدبه وفكره وأعماله بشكل عام، ويعتبر الكاتب في كثير من الأحيان ملاذا آمنا لحالات عشقية مختلفة، لما يتركه من أثر مهم في النفس، هنالك من يتأثر بشكل قاطع قد يصل هذا الأثر إلى حد غير معقول أحيانا، إذا ما اجتازت المبالغة الحدود المنطقية..
كأن تصادر أفكاره من قبل معجب أو معجبة ثم يتضخم العشق آخذا شكلا من أشكال الهوس به، وهذا أمر محبب بالنسبة لأي كاتب، يعجبه ذلك لأنه يشعره بأهميته وأهمية العمل الذي يؤديه، أي أنه يترك أثرا واضحا وانطباعا جميلا لدى المتلقي بشكل عام.
وقد يكون بشكل حب مثلا من طرف واحد من دون علمه، بالتالي يكون محاصرا بين صدقه مع ذاته وبين مراعاة هذا المعجب أو المعجبة حين يعلمه بذلك بطريقة أو بأخرى. والذي بدوره يجعله في حيرة من أمره، إذ يشعر بقيود تفرض عليه ليس له خاطرا فيها.
أعتقد بأني تعرضت لمثل هذا النوع من الهوس الذي تحدثت عنه مرات، وقد ضايقني الأمر لأن وجهتي في الأدب تحديدا حينما كنت بدائيا في نثر الخواطر بداية على إثر نشر بعض القصائد في مجلة محلية حيث مكان إقامتي، كنت أتلقى أرقاما مجهولة من أشخاص غير معروفين، وهم قلة من إناث يتوددن بكل احترام ويثنين على ما كن يقرئن من قصائدي في الصحف الورقية.
لا أخفي بأنني كنت أسعد بذلك، طبعا كنت وما زلت أخجل كثيرا من هذا الأمر، ولم يخلو هذا من بعض المضايقات حين ألحظ عشقا خفيا لشخصي من إحداهن فلم أكن أستطيع لأكون اثنين في آن. فإما أن أكون صادقا مع الآخرين كما أكتب، أو أن أكون لعوبا..؟! أعتقد بأنني كنت أميل إلى الاعتقاد الأول ألا وهو المصداقية في كل شيء دون المواربة والاستحواذ على مشاعر أخرى لا تنطبق واقعا مع ذاتي.
ربما كنت مبالغا بالتعاطي مع نفسي على هذا النحو، لكنني لا أندم على هذا ولو أنني كنت وما أزال متهما بالتعقيد والانغلاق بسبب هذا التعاطي”.
وعن رأيه في هذا الهوس يقول: “يصبح الهوس أمرا عاديا وله مشروعيته المحقة إذا ما بقي ضمن أطر الاحترام والصدق في التعاطي مع الكاتب الذي هو بالدرجة الأولى مؤتمن على حواس ومشاعر وانجرافات المتلقين عموما، وعلى الإناث بشكل خاص خصوصا من أعمارهن صغيرة واللائي لسن ناضجات بما فيه الكفاية لدخول هذا الغمار، فأنا أعتبره مغامرات غير مسئولة.
في هذا السياق أستذكر جملة ل “نيتشه” حينما قال: “كتاباتي شيء، وأما أنا فشيء آخر”. لذلك يبقى الكاتب حسب اعتقادي متحولا في رغباته، كما في نصوصه، فهو قد يعشق من خلال نص ما هو وليد لحظة معينة، لعل خياله تمرد على واقعه فأصبح النص نجما يضيء في السماء، والذي استقبل ضوء هذا النجم في هذه اللحظة كان يغط في العتم فأحبه لأنه أنار فسحاته المعتمة، أما كاتب هذا النص قد يكون بطبيعته معتما وليس بمستطاعه التخلص أو الخروج من عتمته، إذا كيف يكون حال العاشق الذي افترض بأن الكاتب هو النجم وليس النص.
أفسر هذا الافتراض عدة تفاسير، لا آتي على ذكرها لكي لا يطول الجواب أكثر مما أطلت، لكن أهمها هو التعطش لأشياء أفضت لتذوق هذا الكأس..!”.
وعن هوسه كقارئ يقول: “اعترف بأنني يوما ما كنت مهووسا محليا بالكبير “محمد الماغوط” وزوجته الكبيرة الشاعرة “سنية صالح”، ومازلت أحبهما كثيرا ومتيما بأعمالهما، فهي لها أثرا بالغا في نفسي. وأيضا بالشاعر “أدونيس” كنت مغرما بأعماله منذ بداياتي المتواضعة.
عربيا وعالميا هناك الكثير من الأدباء والشعراء قد تأثرت بهم جدا ومازلت مثل “رياض صالح الحسين، محمود درويش، ومظفر النواب، سعيد عقل، أنسي الحاج، طلال حيدر، بودلير، فولتير، دويستويفسكي، كافكا” وغيرهم.
كان لي شرف الصداقة مع “أدونيس” يوما، في مرحلة كنت متمتعا بشعره لدرجة الهوس، فألقيت نثرا في حضوره وأعجب جدا بكتابي بمجموعتي الأولى، ربما هي ثمرة انشغالي تلك الفترة بما قدمه ويقدمه من أعمال تركت في نفسي أثرا جميلا”.
وعن كون الكاتب يعرض جزء من ذاته في نصوصه يقول: “في الحقيقة بعد أن يرفع الكاتب قلمه عن الورق، حينها تستقل مركبا خاصا وتبحر في المجاهيل، فلا الملكية المعرفية خاصته، إنما تصبح متبناه من قبل الموانئ التي ترسو فيها. إلى أن تبحر من جديد عبر الزمن، وللقراء الحق بتبني أفكاره الصادقة من حيث المعرفة والتحليل والاقتباس وكما يقول “أدونيس” من حيث (الهدم والبناء) من أجل الحياة التي نحب.
لا يبقى للكاتب سوى ملكيته الكتابية فهي بمثابة صك قانوني يمنحه تثبيت اسمه في سجلات التاريخ”.