كتب – هاني رياض :
اسطورة لملكة عراقية منذ 2800عام ألهمت عقول الأدباء والفنانين والمؤرخين الأوروبيين طوال عدة قرون ماضية.. وفرضت حضورها في الأدب، والتاريخ، والرسم، والموسيقى، والسينما، والمسرح.. تمثل الجمال والحكمة من ناحية، والقدرة على إدارة الدولة وخوض الحروب من ناحية اخرى.. لعبت الاسطورة دوراً في ولادتها، ونشأتها، وسيرة حياتها، وتدخل القدر لتحديد مصيرها كـ”ملكة عظيمة” استطاعت قيادة بلاد الرافدين ومد نفوذها ليشمل العالم القديم طيلة عشرات السنين.. خلدها التاريخ، وسطرها بأحرف من نور لتهيمن على القلوب وتهيم بالألباب.. هي الحمامة “سميرامات” أو كما يطلق عليها “سميراميس”.
حياتها الاسطورية :
كعادة الأساطير مثلت ولادة سميراميس حكاية خارقة للطبيعة.. حيث خرجت من بيضة كبيرة دفعتها سمكتان كبيرتان نحو الشاطيء، وجاءت حمامة بيضاء كبيرة باحتضانها حتى فقست لتخرج منها طفلة جميلة هى سميراميس، ولم يكتفي القدر بولادتها بل ساهم فى العناية بها منذ ولادتها ونشأتها فكانت اسراب الحمام تحيط بالطفلة طوال نشأتها الاولى تقدم لها الطعام والحليب من مكان كان الرعاة يخزنون فيه انتاج اغنامهم من الحليب والجبن، وكانت الحمام تحميها من البرد ومن اي أخطار تحيط بالطفلة.
فجأة انقلبت الحياة الهانئة الخالية من الشقاء إلى مرحلة جديدة من التعب، حيث اكتشف الرعاة سرقة الطيور للحليب والجبن وراقبوها حتى عرفوا بمكان الطفلة، وأنها هى التى كانت تشرب الحليب، وعقاباً لها اخذوها إلى خيامهم، ثم قرروا بيعها في “سوق نينوى” الكبير، وأطلقوا عليها سميراميس، وتعني “الحمامة” فى اللغة الآشورية، وقد صادف اليوم الذي بيعت فيه بالسوق هو يوم التزاوج فى نينوي، حيث يقوم كل شاب باختيار فتاته التي ستصبح زوجته، وعند بيع سميراميس فى السوق أعجب بها رجلاً عقيماً لا ينجب فأشترى الطفلة من الرعاة، وذهب بها إلى زوجته لتعتني بها وتصبح ابنتها.
كبرت سميراميس وصارت بارعة الجمال، وفي يوم ما عندما كان مستشار الملك “أوناس” يتفقد أحوال الناس، رأى سميراميس، وأعجب بجمالها، فطلب الزواج منها، وبالفعل تزوجها، وأنجب منها طفلين واسمهما “هيفاته” و”هيداسغه”، وعاشت سميراميس مرة أخرى حياة هادئة بجوار زوجها “أوناس”، وكانت بمثابة مستشاراً له، وعندما سافر زوجها بأوامر من الملك للعاصمة ليتابع إحدى معاركه أخذها معه، وهناك قامت بالإشراف على المعركة، ووضع الخطط الحربية.
وعندما نجحت حملة الملك واستطاع اجتياح العاصمة، أعجب الملك بها كثيراً، وطلب من زوجها أن يتركها له، وهدده بقلع عينيه إذ لم يستجيب، وبالفعل اضطر زوجها للتنازل عن سميراميس للملك بسبب خوفه، وقد تزوجها الملك ومات زوجها بعد زواجهما مباشرة، وأنجبت منه “نيناس”، وحكمت سميراميس مع الملك حتى توفي، وأصبحت حاكمة بلاد ما بين النهرين.
سميراميس الملكة :
على الرغم من قصة حياة سميراميس الأسطورية، إلا أنها ملكة آشورية حقيقية، فهي “سمورامات” أم الملك الآشوري “أداد نيراري الثالث” الذي حكم العراق من 810 – 783 ق م، وهي أيضاً زوجة الملك شمشي أدد الخامس الذي حكم من 823 – 811 ق م، وقد كانت سميراميس وصية على ابنها “أداد نيراني” بعد وفاة زوجها، وقد حكمت لمدة 5 سنوات لحين بلوغ ابنها سن الرشد، إلا انها كانت مشاركة في الحكم منذ أيام زوجها، وكذلك مع ابنها لسنوات طويلة، وذلك لذكائها وقوتها ونفوذها الذي أمتد على كل دولة بلاد النهرين.
الإنجازات الحضارية والعسكرية :
قامت سميراميس بتخليد فترة حكمها فى التاريخ العراقي بالمسلة التى أقامتها في ساحة المسلات في معبد آشور، وقد سجلت عليها ألقابها “ملكة سيد القصر” شمس أداد “ملك الكون ملك آشور، والد “أداد نيراني” ملك الكون ملك آشور، وكنّاهش لما نصر ملك الجهات الاربعة”.
استطاعت سميراميس أثناء فترة حكمها القيام بمشاريع عمرانية ضخمة، أهمها بناء مدينة آشور بمعابدها وقصورها الضخمة، وإحاطتها بالأسوار العالية، كما قامت ببناء نفق مقبب من الحجر تحت مجرى نهر دجلة ليوصل طرفي المدينة، وإنشاء الجسور، والقنوات على نهري دجلة والفرات، وإنشاء المتنزهات، والنوافير المزخرفة في المدن التي دخلتها، وأقامت ضريح ضخم وفخم تمجيداً لذكرى زوجها.
شهدت العراق توسعات كبيرة خارج حدودها أثناء تولي سميراميس الحكم، فقد استطاعت أن تسيطر على مصر، وجزء من الحبشة، وبلاد الشام، وبلاد ميديا، بالإضافة إلى أنها قامت بحملة عسكرية على الهند فشلت وكادت تؤدي بحياتها حيث طُعنت هناك، واضطرت إلى الانسحاب من الهند وقامت بتدمير الجسور التى أقامت لكي لا تستغل ضدها أثناء الانسحاب.
لم تكن سميراميس ملكة قوية أو زوجة عظيمة فقط، بل كانت مفكرة لها إسهامات دينية، وثقافية، تتمثل في إدخال العديد من الروافد الثقافية البابلية للحضارة الآشورية في نينوي، تمثلت هذه الإسهامات في إضافة بعض الروحانيات البابلية على الديانة الآشورية التي كانت تميل إلى تقديس فحولة الإله آشور، كما أبرزت بعض الآلهة الآشورية الثانوية مثل “نبو” إله الحكمة.
هيمنة سميراميس على الثقافة الأوروبية الحديثة :
لم تكتفي سميراميس بالهيمنة ومد نفوذها على دول العالم القديم فقط، بل استطاعت فرض نفوذها على عقول وقلوب ملكات أوروبا فى العصر الحديث، فقد أطلق اسم سميراميس على الملكة “مارجريت” ملكة الدنمارك والسويد والنرويغ التي حكمت من عام 1350 – 1412 م، والملكة “كاترين الثانية” قيصرة روسيا 1729 – 1796 م، ليس لجمالها الذى وصفه الكاتب “ويفيم يلفيل” في روايته “ساركادون – اسطورة الملكة العظيمة” فيقول: “كانت فائقة الجمال، لا شك في الأمر، ذلك الجمال الذي تعجز الكلمات عن وصفه، إنه الجمال المنتصر، ليس بأقل من الجمال الذي يذعن له الآخرون مرغمين”، بل لقوتها، وحكمتها في إدارة شئون البلاد.
وامتدت هيمنة سميراميس من شؤون الحكم إلى الأدب والفن، حيث تأثر العديد من الأدباء والفنانين بأسطورة سميراميس وحياتها السياسية فى العديد من الأعمال الأدبية والفنية، بداية من “دانتي” الذي استلهم سيرتها في كتابه “الكوميديا الإلهية”، كما قام الفيلسوف “فولتير” بذكرها في مسرحيته، كما ظهرت فى أوبرا “دومينيكو تشوميروسا”، وقام الموسيقارالإيطالى “روسينى” بتأليف أوبرا تحمل اسم سميراميس، كما ظهرت في عدة أفلام منها “سميراميس” عام 1973، بالإضافة إلى استلهام اسمها في سلسلة من الفنادق حول العالم.