كتب – عمر رياض :
لسنا في هذا المقال بصدد تعريف للإرهاب، فاي تعريف يمكن أن تجده في عدد لا نهائي من الكتب والمقالات والتحليلات ومدونات واتفاقيات الحقوق.. نحن هنا نعرض لتناول الفلسفة الحديثة وأشهر فلاسفة “ما بعد الحداثة” لمفهوم الإرهاب، وهذا أمر مختلف، بعد أن أصبح الإرهاب مصطلح لا ينفصل عن واقع الحياة والأخبار والأحاديث العامة قبل النخب والدراسات النوعية.
يذكر أن هناك إختلاف بين “مصطلح الإرهاب” في اللغة وبين “مفهوم الإرهاب” في الفلسفة.. حتى وقت قريب لم يكن هناك أختلاف واضح لأن الفلسفة غالباً كانت تسير مع معاني اللغة والمفردات، حيث كانت التعريفات والمفردات هي القاعدة الأساسية للأنطلاق والتفسير وفهم ابعاد الظاهرة، بل فهم علم ما.
فى عرض سريع لما توصل اليه المفكرين والقانونيين بشأن تعريف الإرهاب، نجد فلسفات قديمة صيغت بعد الحرب العالمية الثانية مع إعلان حقوق الإنسان منها، وبحسب تعريف المحكمة الجنائية الدولية، أن “الإرهاب هو استخدام القوة أو التهديد بها من أجل إحداث تغيير سياسي، أو هو القتل المتعمَّد والمنظم للمدنيين أو تهديدهم به لخلق جو من الرعب والإهانة للأشخاص الابرياء من أجل كسب سياسي، أو هو الإستخدام غير القانوني للعنف ضد الأشخاص والممتلكات لإجبار المدنيين أو حكومتهم للإذعان لأهداف سياسية، أوهو، باختصار، استخدام غير شرعي ولا مبرَّر للقوة ضد المدنيين الأبرياء من أجل تحقيق أهداف سياسية”.
وميزت بعض التعريفات بين “الإرهاب” المحظور و”المقاومة” المشروعة من أجل تقرير المصير ورفع الإحتلال، بالإضافة إلى ذلك فإن عددًا من الإتفاقيات الإقليمية الأخرى وعلى مستوى المنظمات الإقليمية ذاتها، قد أصدرت تعريفًا محددًا، في نظرها، للإرهاب الدولي. ويبدو أن معظم هذه التعريفات متفقٌ على العناصر الثلاثة للإرهاب الدولي: العنف أو التهديد به واستهداف المدنيين الأبرياء أي غير المحاربين، وتحقيق أهداف سياسية أو تنفيذًا لدوافع سياسية.
أما الإرهاب في مفهوم الفلسفة فيأخذ منحى أخر من الفهم والتسمية من جوانب كثيرة أشبه بالنظر في بلورة.
“11 سبتمبر” السقوط من اللغة إلى الحدث عند “جاك دريدا”..
اطلق التاريخ على حوادث عدة “إرهابية” كما سميت “جماعات” نسبة لهذا التعريف إرهابية أيضاً، وسارت الفلسفة حتى الألفية الثانية بتناسب طردي إلى جانب هذه التسميات والتعريفات، وكان يوم 11 سبتمبر محرك كبير لاستقطاب الفلاسفة مرة أخرى.
بعد أحداث 11 سبتمبر بثلاثة أشهر أجرت الباحثة الأميركية، ذات الأصل الإيطالي، “غيوفانا بورادوري” سلسلة حوارات مع فلاسفة يتميزون بحضورهم العالمي مثل الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”، الذى اخذ عنوان حواره “ما الذي حدث في 11 سبتمبر ؟”، وكان الحوار يدور حول مفهومه للارهاب، وكيفية استغلال القوى العظمى له، وكيف ان الولايات المتحدة الاميركية ألبسته تعريفاً فضفاضاً بحيث تستطيع ان تفسره بحسب مصالحها وما يلائم سياستها.
فى مقدمة الطبعة العربية، كتبت المترجمة “صفاء فتحي” تقديماً للحوار عن ما يمكن ان نسميها “مفاتيح فلسفة دريدا”، وهي تفسيرات لاهم مصطلحاته التي استخدمها في اجابته على فهم “11 سبتمبر”.
تحت عنوان فرعي: “الألف وعاء ظلام ونور في الخفاء”، تستعير المترجمة فكرة من قصة قصيرة للأديب الأرجنتيني “بورخيس” تحمل نفس الأسم “الألف”، وتحكي عن بلورة ملتصقة بسلم منزل مهدد بالهدم، البلورة تجسد العالم بماضيه وحاضره، ويمكن للمرء ان يرى جميع أحداث العالم بشكل متزامن ومن جميع الزوايا، وتأتي الإستعارة للتدليل على مفهوم البداية والعودة إلى الأصل.
و”الألف” إسم في قصة “بورخيس” ويظل كما هو في أي لغة أخرى، غير قابل للترجمة ومبطل لها وهو بداية اللغة ونظامها، كما أن الأسم في موضع المناداة مثله مثل الدعاء والصلاة، فالنداء يفترض الثقة في وجود الآخر وجوابه مما يفترض فيه تقنية ورابطة.
وفي إطار “البداية والأصل” – والمشتق منها “الأصولية” – تستدعي المترجمة ضمن تلك المفاتيح، موضوع “بابل” من الكتاب المقدس “سفر التكوين” نظراً لما له من أهمية في الفكر الأوروبي وبالأخص في فكر الفيلسوف الألماني “ولتر بنيامين” الذي ساهم في إرساء ركيزة مهمة في فكر “جاك دريدا” حول موضوع تعددية اللغات والأصل، والإنتقال من بنية مفاهمية إلى أخرى.
حيث ينص (الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين) على: “أن الأرض كلها كانت لساناً واحداً ثم أخذ شعبها في بناء مدينة وبرج رأسه بالسماء ليس لكي يقيموا ويسكنوا بل ليصنعوا لأنفسهم إسماً لئلا يتبددوا على وجه كل الأرض، فنزل الرب وهدم برجهم، أي برج بابل العظيم، حتى يبلبل لسانهم وحتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. وعند سقوطه سقط الشعب الواحد”.
والبلبلة أيضاً هو الصوت الذي يسعى إلى نقل ما سمع في لغة على سقوط أبراج ما ان تسقط حتى ترتفع في رمزها، وما أن يتبدد حجرها إلا ويتبعثر في أيقونات مرئية لا “نيجاتيف” لها.
وهنا أيضاً تحدث إستعارة جديده لصورة “الفيديو” (لأن تصوير الفيديو إضمار، لا يحتاج إلى نيجاتف) أو صورة بلا أصل.
هذا ما يشير إليه “جاك دريدا” في وصف ما حدث في “11 سبتمبر” أثناء الحوار الذي قدمنا له وجرى في 22 تشرين أول/أكتوبر 2001.
في إجابة على سؤال “ما إن كان الحادي عشر من سبتمبر حدثاً عظيماً خاصة لمن لم يعيشوا الحرب العالمية ؟”.. يرد دريدا:
“تقولين الحادي عشر من سبتمبر، بما أننا متفقان على الحديث باللغتين الإنكليزية والفرنسية. ويجب أن نعود لاحقاً لموضوع اللغة وإلى فعل التسمية هذا: مجرد تاريخ ليوم، كما لو كان بين هلالين مزدوجين تاريخ معين يجتاح مجالنا العام، وحياتنا الخاصة.. إننا بإزاء شئ أستحدث تاريخياً وما أستحث تاريخياً هو الضربة الموجهة وعين ما جرى.. ويبدوا فورياً حدث غير مسبوق”.
استحداث تاريخ، أو شئ لا نعرفه يجب أن نحسن تسميته.. فلو قلنا مثلاً أننا بإزاء عمل من أعمال الإرهاب الدولي. فإن هذا قد يكون أي شئ إلا ان يكون مفهوماً صارماً…
“جان بودريارد” يكتب عن روح الإرهاب وروح الإستهلاك..
بعد شهر من حدث 11 سبتمبر، نشر الفيلسوف الفرنسي “جان بودريارد” مقالة في جريدة “اللوموند”، بعنوان: “روح الإرهاب”، التي جمعها في كتاب يضم سلسلة مقالات فيما بعد بعنوان: “السلطة الجهنمية” ثم تابع تحليلاته في كتاب “برنوجرافيا الحرب” كوحدة متاسكة لتحليلات 11 سبتمبر.
وفي 2003 مع إعداد الرأي العالمي لحرب الخليج الثانية، كتب مقالته الشهيرة “قناع الحرب” ليفند المزاعم الأميركية الدعائية عما يعتبره الدوافع الحقيقية لحرب لا تجرؤ حتى على إعلان هدفها الحقيقي، وهو “غسل عار الإهانة التي ألحقت بالقوة العظمى الوحيدة وعلى أرضها”.
يقول المترجم “أحمد حسان” أن بودريارد ظل صامتاً لفترة طويلة في حين أن جيله من الفلاسفة تحدثوا مبكراً، لكنه أفصح عن أفكاره عندما كبر، أخذت هذه الجملة في إطار دردشة وقت الإعداد لنشر ترجمة واحد من أهم الكتب في مصر بعنوان “أميركا” عن فكرة الإستهلاك التي تعتبر روح الحياة الأميركية، ليست فقط على المستوى الإقتصادي بل على مستوى الأفكار والثقافة التي لا تبتعد عن كونها صحراء تأكل ذاتها.
يقرض بودريارد هذه الثقافة (شعراً وفلسفة) مثل فأر على حسب وصف المترجم.
فى فقرة من الكتاب يقول:
“وفي قلب الصحراء، قرب هذه البحيرة ذات الماء الثقيل، المتجاوزة للواقع هي الأخرى بسبب فرط كثافة الملح. وفيما وراء البحيرة، صحراء صولت ليك الكبرى، حيث توجَّب اختراع سرعة نماذج السيارات التجريبية لترويض الأفقية المطلقة.. لكن المدينة، ذاتها، مثل جوهرة، بنقاء هوائها ومنظوراتها الحضرية الجَسورةِ الانحدار، الأجمل حتى من منظورات لوس آنغلوس. ياله من بهاءٍ مذهلٍ وصدقٍ حديث لأولئك المورمون، هؤلاء المصرفيين الأثرياء، والموسيقيين، وخبراء الأنساب الدوليين، أنصار تعدُّد الزوجات (تذكّرنا ناطحة سحاب الإمباير ستيت في نيويورك بشئٍ من هذه البيوريتانية الجنائزية مرفوعةً إلى أقصى درجة). إن الكبرياء الرأسمالي، العابر للجنس، لأناسٍ متحوِّلين هو ما يشكل سحر هذه المدينة، المقابل والمضاد لسحر لاس ڤيغاس، تلك العاهرة الكبرى على الجانب الآخر من الصحراء”.
من الفلسفة إلى الشعر وبالعكس: في التعريف والمفهوم..
كتب بكوفيسكي قصيدة عن الإرهاب.
“لا نشغل بالنا كثيراً بالإرهاب، الإرهاب الذي ينمو بداخل شخص، يتألم وحيداً، في مكان ما وحيد، غير ملموس، لا أحد يتحدث معه يسقي نبتته، باق دون هاتف لن يرن، لأن لا وجود لأحد”.
في هذه العزلة كان “بكوفيسكي” يشير إلى عنف ما، وإلى هذه الوحدة التي ينموا فيها العنف دون أن يقصد تعريفاً للإرهابي ربما.
يقترب شعر “بكوفيسكي” على حسب النقاد من الفلسفة، من فلسفة الشذرة تحديداً، هذا الإختراع المنسوب للفيلسوف الروماني “إميل سيوران”، والذي يعود إليه الفضل في تحويل الفلسفة إلى مفهوم جديد بعد “نيتشة”.
الإرهاب في الصحراء وفلسفة العمارة في الحروب..
في ورقة بعنوان: “فن الحرب: دولوز، غاتاري، دوبور و – جيش الدفاع الإسرائيلي” درس ضباط الجيش الإسرائيلى مفاهيم جديدة للإرهاب.
“في محاضرةٍ، بيّن نافيه – العميد الطيّار المتقاعد، معهدَ بحوث النظرية العملانية، تخطيطًا يشبه “مربّع معارضةٍ” يخطّ هيئةَ علاقات منطقية بين معارضاتٍ معيّنةٍ تعود إلى العمليات العسكرية والفدائية. مؤطّرةٌ بعباراتٍ مثل “الاختلاف والتكرار – ديالكتيك البنية والتركيب”، “كيانات متزاحمة عديمة الشكل”، “مناورة متشظية”، “السرعة مقابل التناغم”، “آلة الحرب الوهابية”، “أناركية ما بعد حداثية”، و”الارهاب البدوي”، غالبًا ما يرجع [الجنود المتدربون] إلى اعمال دولوز وغاتاري. إن آلة الحرب، بالنسبة للفيلسوفين، تبدو متكثّرة التشكّل؛ تنشرُ تنظيماتٍ تتميز بقابليتها على التحوّل، وتُصنَعُ من مجموعات صغيرة تنفصل أو تندمج مع بعضها البعض، اعتمادًا على الشروط والاحتمالات. (كان كل من دولوز وغاتاري مدركين ان الدولة يمكن ان تحوّل نفسها طوعيًا إلى آلة حرب. وبالمثل، في مناقشتهم “الفضاء السلِس” يُشَار إلى ان هذا المفهوم قد يقود إلى الهيمنة).
يدير نافيه، العميد الطيّار المتقاعد، معهدَ بحوث النظرية العملانية، حيث يدرّبُ ضبَاط أركان من ج-د-إ وعسكريين آخرين على “النظرية العملانية”- والتي تُعرَّفُ في القاموس العسكري بأنها في موقع بين الاستراتيجية والتكتيك. لخّص مَهَمّة معهده، المُنشأ عام 1996: “نحن كالرهبنة اليسوعية. نحاول تعليم وتدريب الجنود على التفكير.[…] نقرأُ كريستوفر آلكسندر، هل تتصوّر ذلك؟ نقرأ جون فورستر، ومصممي عمارات آخرين.نحن نقرأ جورج باتسون، نقرأ كليفورد غيرتز. لست انا، بل جنودنا، جنرالاتنا يفكّرون بهذا النوع من المواد. لقد انشأنا مدرسةً وطوّرنا منهجًا يدرّب مهندسين عملانيين”.